من تاب توبة صادقة من ذنب متعلقاً بحق من حقوق العباد ( كالنفس ، والمال ، والعرض ) ، فلا بد له من أن يتحلله من صاحبه في الدنيا بأن يرد إليه الحق أو يطلب منه العفو ، لأن من شروط التوبة أداء الحقوق لأصحابها.
فإن لم يتمكن من أداء الحق للمخلوق فى الدنيا لعذر ما ، سيطالب صاحب الحق بحقه منه يوم القيامة ،
لأن حقوق الآدميين لا تسقط بالتوبة فلا بد من أدائها عند الله عز وجل بالحسنات أو السيئات أو يعوض الله صاحب الحق من فضله بما يشاء من قصور الجنة ونعيمها ونحو ذلك .
لأن الأدلة على القصاص يوم القيامة جاءت مطلقة لم تفرق بين التائب وغيره .
ودليل ذلك :
1- قال الله تعالى : وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ. [الأنبياء: 47.]
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ ). رواه البخاري (2449) .
فمن ظلم أخاه المسلم في عرضه، بالذم والقدح، سواء كان في نفس أخيه المسلم، أو أصله كأبيه وأمه، أو فرعه كابنه وابنته، أو ظلمه في شيء آخر كالأموال والجراحات وغيرها -أن يتحلله، يعني :
يطلب منه أن يحله ويسامحه اليوم في أيام الدنيا، قبل أن يأتي يوم القيامة حيث لا دينار من ذهب ولا درهم من فضة يدفعه لمن ظلمه ليفدي به نفسه؛ إذ القصاص يومها بالحسنات والسيئات؛
بأن يأخذ هذا المظلوم ممن ظلمه من ثواب عمله الصالح يوم القيامة، بقدر مظلمته التي ظلمها، فإن لم يكن للظالم حسنات وضع من سيئات هذا المظلوم على الظالم . ينظر: (الدرر السنية).
3- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسُوا بقنطرة بين الجنة والنار ، فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا نُقُّوا وَهُذِّبُوا أُذِنَ لهم بدخول الجنة ). رواه البخاري.
4 - ومما جاء فى الترهيب من الظلم سبب لفناء الحسنات ولزيادة السيئات يوم القيامة، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي، وسعد بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وعبدالله بن مسعود، حتى عدَّ ستة أو سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا :
(( إن الرجل لا تُرفع له يوم القيامة صحيفته حتى يرى أنه ناج، فما تزال مظالم بني آدم تتبعه حتى ما يبقى له حسنة ويُحمل عليه من سيئاتهم )) . [رواه البيهقي في البعث بإسناد جيد، والحاكم مرفوعًا، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم: 2224 (20/2)]
5 - عبد الله بن أنيس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة عراة، غرلا، بُهْماً. قلت : وما بُهْما؟ قال : ليس معهم شيء.
ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب : أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار، وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، وله عند رجل من أهل النار حق، حتى أقصه منه حتى اللطمة.
قال : قلنا : كيف، وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلا بُهما؟ قال : بالحسنات والسيئات . (تخريج كتاب السنة للألباني| رقم : 514 | خلاصة حكم المحدث : صحيح).
دل الحديث على : أن كل إنسان عليه أن يبتعد عن ظلم الناس ، وإن كان قد ظلم أحدا ، فليتحلله اليوم قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم .
قال الخطابي رحمه الله :
معنى أخذ الحسنات والسيئات، أن يجعل ثواب الحسنات لصاحب المظلمة، ويجعل عقوبة السيئات على الظالم بدل حقه . ينظر: ((أعلام الحديث)) (2/ 1217).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
أما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة ، فإنه حق من حقوق الآدميين ، وهي لا تسقط بالتوبة ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه ، والمقذوف ، وسائر حقوق الآدميين ،
فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك ، فلا بد من الطلابة يوم القيامة .
لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة ، وقد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة،
أو يعوض الله المقتول من فضله بما يشاء ، من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم . انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (2/381) .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
من توبته في القصاص أن يمكن من نفسه حتى يرضى صاحبه، أو يقتص، أما بقية المعاصي إذا تاب إلى الله؛ فالله يعفو عنها ،
لكن إذا كان الحق للمخلوق كالسرقة، والقتل ونحوه فهذا لابد من إعطاء المخلوق حقه، فإن لم يعطه حقه ؛ فالتوبة تسقط عنه حق الله، وتسقط عنه خطر دخول النار،
ولكن يبقى عليه حق القتيل، حق المسروق منه، لابد أن يؤدى عنه ، فإن تاب توبة صحيحة ؛ فيرجى له أن الله يؤدي عنه إذا لم يستطع أداء الحق،
فالله -جل وعلا- يؤدي عنه تلك الحقوق إذا كانت التوبة صحيحة وسليمة مستوفية شروطها، ومن شروطها : ألا يستطيع ألا يتمكن من أداء الحق للمخلوق،
فإن شروطها ثلاثة : الندم على الماضي، والإقلاع من الذنب، والعزم الصادق ألا يعود فيه، هذه ذنوب متعلقة بالله، جل وعلا.
وهناك شرط رابع : يتعلق بالمخلوق كالدم والسرقة وظلم الأموال والأعراض، فهذا الحق يجب أن يؤدى لصاحبه،
فإذا عجز عنه بأن مات صاحبه، وليس له ورثة ؛ يعطيهم حقهم ، فإن حق الميت يبقى ، وإذا كانت التوبة صادقة فالله يغنيه عنه -جل وعلا- لأنه صادق في محبته للتوبة، وإعطائه حقه،
لكن لم يتمكن من هذا الشيء؛ لأنه مات، وليس وراءه أحد يأخذ الحق،
فحينئذ يبقى الأمر بينه وبين الله والله يتقبل من عبده التوبة الصادقة في جميع الأشياء، كما قال سبحانه : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. [الزمر:53].
لكن إذا كان صاحب الحق موجودًا؛ فلابد من إعطائه حقه، أو استباحته، وإلا فإنه يأخذ من حسناته بقدر المظلمة، كما قال -عليه الصلاة والسلام-:
من كان عنده لأخيه مظلمة؛ فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينارًا، ولا درهمًا، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات يعني الظالم أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
فهذا يدل على أن حق المخلوق لابد من أدائه حيث أمكن، أما إذا لم يمكن فالله يعذره والتوبة مقبولة ونافعة ومفيدة،
ويبقى حق المخلوق الذي لم يستطع أداءه يرضيه الله، يرضي الله صاحبه عنه بأنواع الثواب والخير، فإنه سبحانه جواد كريم، والعبد معذور بأنه لم يتمكن من أداء الحق، نعم . انتهى من (فتاوى نور على الدرب).
وقال أيضا رحمه الله :
الواجب عليه أن يستحلهم منها .. فإذا علم الله منه الصدق؛ يسر أمره، المقصود : أنه إذا كان عنده ...
فالواجب عليه أن يتوب إلى الله منها توبة صادقة، وأن يعزم على ردها إليهم، وأن يجتهد في طلبهم السماح إذا قدر على ذلك؛ لعلهم يسمحون، فإن لم يسمحوا؛ فليجتهد حتى يوفيهم،
فإن لم يوف؛ وفى الله عنه يوم القيامة إذا صدق في ذلك، وعليه أن يجتهد، ويوفي ما تيسر من ذلك،
ويعمل ما يستطيع من الأعمال التي يرد بها المال؛ حتى يبلغ وسعه في ذلك، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فاتقوا الله ما استطعتم . انتهى من (فتاوى الجامع الكبير).
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
عند تتمة شرح حديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء ). متفق عليه.
... أما فيما بين العباد فأول ما يُقضى بينهم في الدماء : القتل هذا أول شيء ، ثم الأموال والأعراض ،
والقتل تارة يكون بحق وتارة يكون بغير حق ، والمقصود بذلك القتل بغير حق ، فهذا هو أول ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة .
وفي هذا الحديث إثبات القضاء يوم القيامة وأنه حق ، وأنه لابد أن يُعطى كل مظلوم مظلِمته .
لكن هاهنا مسألة ترد :
يأتي إنسان إلى شخص يكون قد ظلمه بغيبة أو قذف أو ما أشبه ذلك ثم يطلب منه السماح بعد أن تاب إلى الله وندم ،
فيقول لصاحب الحق : اسمح لي أنا مذنب وأنا الآن أستغفر الله وأتوب إليه اسمح لي ويعتذر ، ولكن صاحب الحق لا يقبل ، يقول : لا ما أسمح ، أنا أريد حقي يوم القيامة ،
فهنا نقول : إذا علم الله من العبد صحة التوبة فإن الله تعالى يتحمل عنه حق هذا الآدمي الذي أبى أن يسامحه .
ومثل ذلك أيضا المال : لو أن إنساناً كان بينك وبينه مشاجرة وجحدت ماله ، وكان في ذمتك له مال لكنك جحدته ،
ثم بعد ذلك تبت إلى الله وأقررت به وذهبت إليه وقلت : يا فلان أنا جحدتك حقك في الأول ، والآن أنا تائب إلى الله ونادم خذ دراهمك ، قال : أبداً ما آخذها يني وبينك يوم القيامة ولا أخذها ،
فهنا نقول : إذا علم الله من نيتك أنك صادق في التوبة فإن الله يتحمل عنك الإثم يعني يرضي صاحبك ، لكن تصدق بهذه الدراهم عنه، حتى تبرأ ذمتك منها ،
فمثلا إذا كان حقه مائة ريال ، وجئت إليه بعد أن ندمت واستغفرت وقلت : خذ هذه دراهمك مائة ريال قال : لا ، أريدها من عملك الصالح يوم القيامة وأبى ،
فحينئذٍ نقول : إذا علم الله من نيتك أنك صادق فإنك لا تأثم ويزول عنك الإثم ، لكن هذه المائة تصدق بها لصاحبها تخلصا منها . انتهى من (شرح رياض الصالحين-(94)).
وجاء فى فتاوى اللجنة الدائمة :
س : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « المفلس هو الذي يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا وشتم هذا» . . إلخ، فما حكم الله فيمن تاب ولكنه لا يستطيع رد المظالم إلى أهلها لفقره؟
فأجابت :
الأصل في حقوق العباد فيما بينهم أنها مبنية على المشاحة ، فلا تسقط بمجرد التوبة منها فقط ، وإنما بردها إلى أصحابها أو استحلالهم منها،
وإذا تاب العبد لله سبحانه توبة نصوحا من حقوق المخلوقين وعجز عن إيصالها إليهم لفقره أو جهله بهم ،
فإن الله سبحانه يتوب عليه ، ويرضيهم عنه يوم القيامة بما يشاء سبحانه ،
ومتى استطاع في الدنيا إيصالها إليهم أو استحلالهم منها وجب عليه ذلك، ولا تتم توبته إلا بما ذكر؛
لقول الله عز وجل : { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }. (سورة النور الآية ٣١) وقوله عز وجل : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }. ( سورة التغابن الآية ١٦). وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . انتهى من (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء- الفتوى رقم (٢٢٣٥)).
وقت القصاص بين المؤمنين يوم القيامة.
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه عن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال : (( إذا خَلَصَ المُؤمِنونَ من النَّارِ، حُبِسوا بقَنطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيَتَقاصُّونَ مَظالِمَ كانت بينَهم في الدُّنيا، حَتَّى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا، أُذِنَ لهم بدُخولِ الجَنةِ، فوالذي نَفسُ مُحَمَّدٍ بيدِه، لأحَدُهم بمَسكَنِه في الجَنَّةِ أدَلُّ بمَنزِلِه كان في الدُّنيا )) .أخرجه البخاري (2440).
قال الإمام القُرطُبيُّ رحمه الله :
اعلَمْ -رَحِمَك اللهُ- أنَّ في الآخِرةِ صِراطينِ :
أحَدُهما : مَجازٌ لأهلِ المَحْشَرِ كُلِّهم ثَقيلِهم وخَفيفِهم، إلَّا من دَخلَ الجَنَّةَ بغَيرِ حِسابٍ، أو مَن يَلتَقِطُه عُنُقُ النَّارِ،
فإذا خَلَصَ من خَلصَ من هذا الصِّراطِ الأكبَرِ الذي ذَكَرناه، ولا يَخلُصُ منه إلَّا المُؤمِنونَ الذينَ عِلمَ اللهُ منهم أنَّ القِصاصَ لا يَستَنفِدُ حَسَناتِهم،
حُبِسوا على آخَرَ خاصٍّ لهم ، ولا يَرجِعُ إلى النَّارِ مِن هؤلاء أحَدٌ إنْ شاءَ اللهُ؛
لأنَّهم قد عَبَروا الصِّراطَ الأوَّلَ المَضروبَ على مَتنِ جَهنَّمَ، الذي يَسقُطُ فيها من أوبَقَه ذَنْبُه، وأربى على الحَسَناتِ بالقِصاصِ جُرْمُه...
مَعنى : (( يَخْلُصُ المُؤمِنونَ من النَّارِ )) أي : يَخلُصونَ من الصِّراطِ المَضروبِ على النَّارِ. ودَلَّ هذا الحَديثُ على أنَّ المُؤمِنينَ في الآخِرةِ مُختَلِفو الحالِ . يُنظر: ((التذكرة)) (2/ 36).
والله اعلم
اقرأ أيضا..
تعليقات
إرسال تعليق