التَّائبُ من الذَّنبِ كمَنْ لا ذَنبِ له
اعلم أخى المسلم أن الله جل وعلا من سعة رحمته بعباده قد شرع لهم التوبة والإنابة إليه وحثهم عليها ورغبهم فيها ووعد التائب بالرحمة والغفران مهما بلغت ذنوبه فمن جملة ذلك قوله جل وعلا :
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ. {الزمر:53-54}،. وقال تعالى : إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. {البقرة:222}.
وسوف يفرح الله بك
إذا عدت إليه تائبا مهما ضللت الطريق مهما سرقت أو زنيت أو قتلت أو فعلت المنكرات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( قال الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حيث يذكرني ، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة ، ومن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإذا أقبل إلي يمشي أقبلت إليه أهرول ). رواه مسلم (2675) .
فإذا أذنب العبد ذنبًا ثم تاب منه صادقًا وأسرع إلى الله تعالى مقبلًا وفر من ذنبه إلى الله تعالى خائفًا قبل الله تعالى توبته وأسبغ عليه من رحمته وشمله بعفوه ومغفرته وأحبه لتوبته .
وانظر أيضا أخى الحبيب إلى سعة رحمة الله بعباده فقد جعل الله للتائبِ رصيدًا من الحسنات بقدر ما كان عنده من سيئات .
فعن أبي طويل شطب الممدود رضي الله تعالى عنه : أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها فلم يترك منها شيئا وهو مع ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلا أتاها فهل لذلك من توبة قال أليس قد أسلمت ،
قال أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله قال نعم تفعل الخيرات وتترك السيئات فيجعلهن الله لك حسنات كلهن قال وغدراتي وفجراتي قال نعم قال الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى . صحيح الترغيب- الرقم: (3164)
فالعبد إذا أذنب ذنبا ثم تاب منه توبة نصوحا وأقلع عنه وندم واستغفر ولم يعد إليه تاب الله عليه وعامله معاملة من لم يذنب ،
بل يبدل سيئاته حسنات لأنه تاب إلى ربه وأناب لمحبته لله وحرصه على رضاه وخوفه منه وتلك صفات المتقين إذا زال الذنب زالت عقوباته وموجباته وهذا حكم عام لكل تائب من ذنب .
وقد أمر الله تعالى عباده بالتوبة النصوح، فقال : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ( التحريم/8)
شروط التوبة الصحيحة
1- الإقلاع عن الذنب.
2- الندم على ما فات.
3- العزم على عدم العودة إليه.
وإذا كانت التوبة من مظالم العباد في مال أو عرض أو نفس فتزيد شرطا رابعا هو : التحلل من صاحب الحق أو إعطاؤه حقه .
وعليه أن يكثر من أعمال البر فإن أصحاب الحقوق قد يطالبونه بها يوم القيامة والله حكم عدل فقد يوفيهم إياها من حسناته فعليه أن يكثر من الحسنات .
قال ابن القيم رحمه الله :
وشرائط التوبة ثلاثة الندم، والإقلاع، والاعتذار، فحقيقة التوبة هي الندم على ما سلف منه في الماضي والإقلاع عنه في الحال والعزم على أن لا يعاوده في المستقبل،
والثلاثة تجتمع في الوقت الذي تقع فيه التوبة، فإنه في ذلك الوقت يندم ويقلع ويعزم فحينئذ يرجع إلى العبودية التي خلق لها وهذا الرجوع هو حقيقة التوبة .اه (مدارج السالكين - 1 / (182)).
واعلم أخى الحبيب أن الندم هو ركن التوبة الأعظم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ((الندم توبة)). [صححه الألباني في صحيح ابن ماجه]
قال بعض أهل العلم :
"يكفي في التوبة تحقق الندم، فإنه يستلزم الإقلاع عن الذنوب والعزم على عدم العودة، فهما ناشئان عن الندم لا أصلان معه" . [انظر: فتح الباري (13/ 471)]
وقال القاري رحمه الله :
"((الندم توبة)) إذ يترتب عليها القلع والعزم على عدم العودة، وتدارك الحقوق ما أمكن، المراد بالندامة: الندامة على أنها معصية لا غير". [انتهى من مرقاة المفاتيح (4/ 1637)]
ويتحقق الندم بلوم النفس عليه، ويتبعها من الحزن، أو شدة الحزن، والخوف، وقال الراغب : الندم التحسر على ما فات، وفسَّر أيضًا بالأسف، وهو الحزن أو المبالغة في الحزن .
فتحصيل الندم ليس بالأمر الصعب فكل حزن يشعر به بعد فعل المعصية يحصل منه الندم المقصود للتوبة، وكذلك أي تألم للقلب على الذنب، وكل من علم جنايته فخاف مقام ربه أو عاقبة ذنبه حصّل الندم.
قال ابن الحاج في كتابه "المدخل" (4/ 44) :
"ثم يتوب التوبة بشروطها، وهي : الندم والإقلاع والعزم على أن لا يعود، ورد التبعات لمن كانت عليه شرط رابع، فالثلاثة الأول متيسرة على المرء؛ لأنها بينه وبين ربه؛
وما كان بين العبد وربه فالغالب الرجاء في العفو والصفح عنه، وأما رد التبعات فمتعذر في الغالب، وقل من يتخلص منها إلا بتوفيق وتأييد من المولى سبحانه وتعالى". اه
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
من تاب توبة صادقة تاب الله عليه، ولو من الشرك، إذا تاب توبة صادقة مشتملة على الشروط الشرعية، فإن الله يتوب عليه -جل وعلا-،
كما قال جل وعلا : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً. [الزمر: من الآية53]، أجمع العلماء على أن المراد بالآية التائبون، من تاب تاب الله عليه.
وقال النبي ﷺ : التوبة تهدم ما كان قبلها، وقال -عليه الصلاة والسلام-: التوبة تجب ما كان قبلها،
وقال -عليه الصلاة والسلام-: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقال -جل وعلا-: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [النور: من الآية31]،
فبين سبحانه أن التائب مفلح وشروطها ثلاثة :
الشرط الأول :
الندم على الماضي، كونه يحزن ويندم على ما مضى منه من المعصية.
الشرط الثاني :
إقلاعه منها وتركها لها خوفاً من الله وتعظيماً لله.
الشرط الثالث :
العزم الصادق ألا يعود فيها، فأما يقول ندمت وهو يفعلها ما هو تائب، لا بد من الندم على الماضي والترك لها، كونه يقلع منها ويتركها، كان زنا ترك الزنا، كان سرقة تركها، كان عقوق ترك العقوق،
إن كان قطيعة رحم ترك قطيعة الرحم، كان معاملة ربوية ترك المعاملة الربوية، وهكذا أن يعزم عازماً صادقاً ألا يعود إلى المعصية هذه.
فهذه الشروط الثلاثة لا بد منها إذا تمت وتوافرات صحت التوبة ومحى الله عنه الذنب إلا إذا كان الذنب يتعلق بمخلوقين أو من أحد فلا بد من شرط رابع، أن يتحللهم أو يعطيهم حقوقهم،
إذا كان مثلاً سرق من إنسان مال، ما تتم توبته حتى يرد المال على صاحبه، أو يتحلله منه، أو ضربه أو قطع يده، أو ما أشبه ذلك لا بد من التحلل، أو يعطيه القصاص يقتص منه .اه
واعلم أن مغفرة الله عز وجل ورحمته أوسع من غضبه ولذلك لا ينزل عقابه ابتداء وإنما يستعمل رحمته سبحانه وتعالى ويهديها عباده أولا .
ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه عز وجل قال : "أذنب عبد ذنبا فقال : اللهم اغفر لي ذنبي، فقال الله تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، قد غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء". [متفق عليه].
متى لا تصح التوبة ؟
قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
" والذي عندي في هذه المسألة أن التوبة لا تصح من ذنب، مع الإصرار على آخر من نوعه.
وأما التوبة من ذنب، مع مباشرة آخر لا تعلق له به، ولا هو من نوعه فتصح، كما إذا تاب من الربا، ولم يتب من شرب الخمر مثلا، فإن توبته من الربا صحيحة .
وأما إذا تاب من ربا الفضل، ولم يتب من ربا النسيئة، وأصر عليه، أو بالعكس، أو تاب من تناول الحشيشة وأصر على شرب الخمر، أو بالعكس = فهذا لا تصح توبته .
وهو كمن يتوب عن الزنا بامرأة، وهو مصر على الزنا بغيرها غير تائب منها، أو تاب من شرب عصير العنب المسكر، وهو مصر على شرب غيره من الأشربة المسكرة،
فهذا في الحقيقة لم يتب من الذنب، وإنما عدل عن نوع منه إلى نوع آخر . بخلاف من عدل عن معصية إلى معصية أخرى غيرها في الجنس ". انتهى من "مدارج السالكين" (1/285) .
ومن علامات صحة التوبة :
1- أن يكون العبد بعد التوبة خيرا منه قبلها
2- فيكثر من عمل الصالحات
3- ومصاحبة أهل الصلاح
4- ويحرص على ترك المعاصي والسيئات
5- والابتعاد عن أهل الزيغ والانحراف
6- وأن يكون الخوف مصاحبا له فلا يأمن من مكر الله.
وأما صلاةُ التوبة
تٌشرع صلاة التوبة عند ارتكاب الذنب.
فعن علي رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، فإذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف لي صدقته،
وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويحسن الوضوء، ويصلي ركعتين ويستغفر الله، إلا غفر الله له.((صحيح سنن أبي داود)) (1521)
قال ابن تيمية رحمه الله :
كذلك صلاة التوبة، فإذا أذنب فالتوبة واجبة على الفور، وهو مندوب إلى أن يصلي ركعتين ثم يتوب كما في حديث أبي بكر الصديق .اه ((مجموع الفتاوى)) (23/215).
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
يشرع للإنسان إذا أذنب ذنبا أن يصلي ركعتين ويتوب إلى الله توبة صادقة، فهذه هي صلاة التوبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
«ما من عبد يذنب ذنبا ثم يتطهر فيحسن الطهور، ثم يصلي ركعتين ويتوب إلى الله من ذلك الذنب، إلا قبل توبته» .اه ((مجموع فتاوى ابن باز)) (11/389).
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق