حقيقة سبب بكاء الطفل وصراخه عند ولادته هو من طعن الشيطان له في خاصرته أو فى جنبه فيصرخ عند ولادته من أثر هذا المس والنخس .
وهذا النخسِ والطعن من الشيطان الغاية منه هو إيقاع الإيلام بالطفل عند الولادة معبرًا عنه بالصراخ، كما قال أهل العلم.
ولا يعارض تفسير بكاء الطفل بمس الشيطان أو طعنه بما يذكر من بعض الأسباب الطبيعية كتأثر الوليد بدخول الهواء إلى رئته وغير ذلك ، فإن البكاء قد يكون له أكثر من سبب .
فقد جاء فى صحيح مسلم :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِن نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ.
ثُمَّ قالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ :{ وَإنِّي أُعِيذُهَا بكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. [آل عمران: 36].
وفي روايةٍ : يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِن مَسَّةِ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ.
وفي حَديثِ شُعَيْبٍ : مِن مَسِّ الشَّيْطَانِ ونخسه. يعنى : طعنه.
وفى رواية أخرى : صِياحُ المولُودِ حِينَ يَقعُ نَزْغَةٌ من الشيطانِ.
وجاء فى صحيح البخارى : كُلُّ بَنِي آدَمَ يَطْعُنُ الشَّيْطانُ في جَنْبَيْهِ بإصْبَعِهِ حِينَ يُولَدُ غيرَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَهَبَ يَطْعُنُ فَطَعَنَ في الحِجابِ.
قوله : « فطعن في الحجاب » أي: المشيمة، وهذا يدلّ على أن المس في قوله صلى الله عليه وسلم : « ما مِن مولود إلا يمسّه الشيطان » على الحقيقة. ينظر:([شرح المشكاة: الكاشف عن حقائق السنن (11/ 3621)]).
دل هذا الحديث على حقيقة وهى: أن الشيطانَ يطعن ويضرب بإصبعه جنبي جميع بني آدم حين يولد، وأن هذه النخسَة هي التي يتألم منها الصبيُّ،
فتكون سببًا في صراخه أوَّلَ ما يولَد بعد ولادته، وكأن النخس من الشيطان إشعار منه بالتمكُّن والتسلُّط،
وقد حفظ الله تعالى مريم وابنَها من نخسته تلك؛ ببركة إجابة دعوة أمّها امرأة عمران، فقال سبحانه وتعالى حكايةً عنها : {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. [آل عمران: 36].
قال العلامة الوزير ابن هبيرة رحمه الله:
في الحديث دلالةٌ واضحةٌ على مبالغةِ إبليس وجنوده في إظهارهم العداوة لبني آدم؛
وقد بلغ من ذلك أنه إذا رأى الطفلَ حين ولادته على ما فيه من الضعف والوهن، فإنه يبادر إلى نخسه وطعنه حتى يرفع الطفل صوته بالصراخ،
فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلِمنا بهذه العداوة؛ لنكون على حذر من نزغاته ووساوسه. انتهى من ([ الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة (6/ 57)]).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه (التبيان في أقسام القرآن) :
سبب بكاء الصبي عند الولادة ويذكر أن لذلك سببين :
فإن قيل : فما السبب في بكاء الصبي حالة خروجه إلى هذه الدار ؟
قيل : ههنا سببان : سبب باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء وسبب ظاهر.
فأما السبب الباطن :
فإن الله سبحانه اقتضت حكمته أن وكل بكل واحد من ولد آدم شيطانا فشيطان المولود قد خنس ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به،
فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعنه في خاصرته تحرقا عليه وتغيظا واستقبالا له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديما ،
فيبكي المولود من تلك الطعنة ولو آمن زنادقة الأطباء والطبائعيين بالله ورسوله لم يجدوا عندهم ما يبطل ذلك ولا يرده.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان.
وفي الصحيحين من حديثه أيضا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه.
وفي لفظ آخر : كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته؛ إلا مريم وابنها.
وفي لفظ البخاري : كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب.
وأما السبب الظاهر :
الذي لا تخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس ومعرفتهم له من غيرهم هو مفارقته المألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب،
فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقته وطنه ومألفه . انتهى.
تنبيه :
ليس في إثباتِ هذه الفضيلة لسيِّدنا عيسى -عليه السلام- التى جاءت فى الحديث ما يلزم منه انتقاص سائر الأنبياء؛ ولا تفضيله عليهم؛
على أن تفضيل الله تعالى لبعض الأنبياء والرسل على بعض أمر ثابت بالكتاب العزيز؛ قال تعالى: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ }. [الإسراء: 55]، وقال سبحانه: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }.[البقرة: 253]،
وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على أن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل، ولا مانع من أن يكون في المفضول من الخصائص ما ليس في الفاضل.
فعندما نقول بظاهر الحديث ينبغي أن نفرق بين المس وبين الإغواء والإضلال ،
فلا يلزم من وقوع المس والنخس إضلال الممسوس وإغواؤه حتى يقال إن الحديث معارض لقوله تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }.( الحجر42) ،
وقوله :{ إلا عبادك منهم المخلصين }.(الحجر 40) ، لأنه يفيد عدم تسلط الشيطان على الأنبياء والمُخْلَصين .
فإن الآية إنما تدل على عدم تسلطه عليهم بالإغواء والإضلال الدائم ، ومع ذلك فقد يسلط على بعضهم بإغواء عارض ،
أو إلحاق ضرر لا يؤثر على الدين ، وكم تعرض الشيطان للأنبياء والأولياء بأنواع الإفساد والأذية .
والمقصود أن القرآن والسنة أثبت شيئاً من تعرض الشيطان للأنبياء والمخلصين بأنواع الأذى وأما الزيغ والإضلال فقد عصمهم الله منه .
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق