إذا سألك أحدهم وقال لك هل أنت مؤمن؟ فتجيب عليه وتقول : أنا مؤمن إن شاء الله ،
واستثناؤك هنا فى الأعمال لا في أصل الإيمان وهذا من باب عدم تزكية النفس، لقوله تعالى : فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى.[ النجم:32] .
فالله سبحانه وتعالى قد نهى عباده عن الثناء على أنفسهم وتزكيتها فأي وصف وثناء أبلغ من الثناء عليها بالإيمان؟! وأي تزكية أعظم من هذا؟!.
وليس المراد بقولك هذا أنك تشك فى إيمانك فهذا كفر والعياذ بالله،
لكن المراد بقولك أنا مؤمن إن شاء الله أنك لا تدري هل استكملت الإيمان أم لا؟ وأنك لا تدري ما يختم لك به ،
لأن الإيمان الكامل التام فى إمتثال جميع الأوامر والانتهاء عن جميع النواهي لا يمكن لأحد أن يدعيه على التمام والكمال.
فأهل السنة والجماعة وسلف الأمة قالوا بجواز الإستثناء في الإيمان وذلك لأن الإيمان عندهم قول وعمل واعتقاد ،
والإستثناء عندهم إنما هو في الأعمال لا في أصل الإيمان والمقصود به عدم تزكية النفس لورود النهي عن ذلك كما في قوله تعالى : فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى. [ النجم:32] .
قال الحسن في معنى الآية : علم الله من كل نفس ما هي صانعة، وإلى ما هي صائرة؛ فلا تزكوا أنفسكم، فلا تبرئوها عن الآثام، ولا تمدحوها بحسن أعمالها. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/312)
وللسلف في الاستثناء صيغ متعددة فمنهم من يستثني بقول : إن شاء الله أو أرجو أو آمنت بالله ونحو ذلك،
وجميع هذه الصيغ مؤداها واحد وهو عدم القطع بالإيمان المطلق الكامل وتفويض ذلك إلى الله سبحانه .
وإليك أقوال السلف فى ذلك:
1- عن عبد الرحمن بن عصمة قال : كنت عند عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول معاوية رضي الله عنه بهدية، فقال :
أرسل بها إليك أمير المؤمنين، فقالت : أنتم المؤمنون إن شاء الله تعالى، وهو أميركم، وقد قبلت هديته. (رواه عبد الله في ((السنة)) (1/349).
2- عن علقمة بن الأسود قال : قال رجل عند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أنا مؤمن. قال : قل : إني في الجنة!،
ولكن : آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله. ( رواه أبو عبيد في ((الإيمان)) (ص: 36).
3- قال جرير بن عبد الحميد : كان الأعمش ومنصور ومغيرة وليث، وعطاء بن السائب وإسماعيل بن أبي خالد وعمارة بن القعقاع،
والعلاء بن المسيب وابن شبرمة وسفيان الثوري، وأبو يحيى -صاحب الحسن- وحمزة الزيات؛ يقولون : نحن مؤمنون إن شاء الله، ويعيبون من لا يستثني. (رواه الآجري في الشريعة (2/ 664).
4- عن إبراهيم النخعي قال : قال رجل لعلقمة : أمؤمن أنت؟ قال : أرجو.(رواه ابن أبي شيبة في ((الإيمان)) (ص: 21)).
5- قال الوليد بن مسلم : سمعت أبا عمرو -يعني: الأوزاعي- ومالك بن أنس، وسعيد بن عبد العزيز :
ينكرون أن يقول : أنا مؤمن، ويأذنون في الاستثناء أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله. ينظر: ((السنة)) لعبد الله بن أحمد (1/347).
6- عن ابن طاووس عن أبيه : أنه كان إذا قيل له : أمؤمن أنت؟ قال : آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ولا يزيد على ذلك. (رواه عبد الله في ((السنة)) (1/323).
7- قال الإمام أحمد : أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، والعمل الفعل،
فقد جئنا بالقول، ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل، فيعجبني أن نستثني في الإيمان بقول : أنا مؤمن إن شاء الله. (رواه الخلال في ((السنة)) (3/600).
8- وسئل أيضا رحمه الله : عمن يقال له أنت مؤمن؟ فقال : سؤاله إياك بدعة، وقل : أنا مؤمن أرجو. (رواه الخلال في ((السنة)) (3/602).
9- قال ابن جرير الطبري رحمه الله : إنما وصلنا تسميتنا إياه بذلك بقولنا : إن شاء الله؛ لأنا لا ندري هل هو مؤمن ضيع شيئا من فرائض الله -عز ذكره- أم لا،
بل سكون قلوبنا إلى أنه لا يخلو من تضييع ذلك أقرب منها إلى اليقين؛ فإنه غير مضيع شيئا منها ولا مفرط؛
فلذلك من وصفناه بالإيمان بالمشيئة؛ إذ كان الاسم المطلق من أسماء الإيمان إنما هو الكمال،
فمن لم يكن مكملا جميع معانيه -والأغلب عندنا أنه لا يكملها أحد- لم يكن مستحقا اسم ذلك بالإطلاق والعموم الذي هو اسم الكمال؛
لأن الناقص غير جائز تسميته بالكمال، ولا البعض باسم التام، ولا الجزء باسم الكل . ينظر: ((التبصير في معالم الدين)) (ص 192).
10- وقال أبو عمرو الداني : من قول أهل السنة : إن الاستثناء في الإيمان جائز واسع إذا كان عائدا إلى العاقبة أو الكمال،
ولا يجوز على طريق الشك؛ لأن أقل ما يقبل من الإيمان ما لا يجامعه الشكوك. ينظر: ((الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات وأصول الديانات)) (ص: 175).
11- وقال ابن تيمية رحمه الله : المأثور عن الصحابة وأئمة التابعين وجمهور السلف، وهو مذهب أهل الحديث،
وهو المنسوب إلى أهل السنة : أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، وأنه يجوز الاستثناء فيه. ينظر: ((مجموع الفتاوى)) (7/505).
12- قال الشيخ الألباني رحمه الله :
المؤمن الصادق مع الله تبارك وتعالى لا ينبغي أن يقول أنا مؤمن لأنه يشهد بنفسه أنه مؤمن كامل ولا كمال هناك ،
لأنه ليس من السهل أن يحيط بل ليس من الممكن أن يحيط المسلم بالأعمال الصالحة كلها,
فإذًا لا يزال المؤمن في عمله ناقصا على هذا جاء قول جمهور العلماء بأنّ المؤمن إذا سئل هل أنت مؤمن؟ يقول أنا مؤمن إن شاء الله,
يقول أنا مؤمن خائفا أن يكون مقصّرا أولا تقصيرا يؤاخذ عليه يوم القيامة أي يستحقّ العذاب عليه وآخرا هذا أولا وآخرا وهذا لا بد أن يقع فيه أكمل النّاس ،
وهو ما أشرنا إليه آنفا أن يكون مقصّرا في عبادة الله عز وجل بعد القيام بما فرض الله تبارك وتعالى عليه. انتهى باختصار من ( سلسلة الهدى والنور - شريط : 1035 ).
13- وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
نعم، يجوز عند أهل السنة والجماعة أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ،
وليس المراد الشك لكن المراد إن شاء الله لأنه لا يدري هل استكمل الإيمان أم لا؟ الإيمان له واجبات، وله أشياء تتعلق بترك المحرمات فيقول:
إن شاء الله، أي إن شاء الله كمال إيماني وتمام إيماني، أو بالنسبة للعاقبة لأنه لا يدري ما يختم له به فيقول : إن شاء الله، لأنه ما يدري ما هي الخاتمة.
والمرجئة تنكر ذلك، ويقولون للشك وهذا غلط،
وأهل السنة والجماعة يستثنون في الإيمان من دون شك، بل بالنظر إلى استكمال واجبات الإيمان وبالنظر إلى الخاتمة. انتهى من(فتاوى الجامع الكبير).
13- وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
قول القائل : " أنا مؤمن إن شاء الله "، يسمى عند العلماء (مسألة الاستثناء في الإيمان)، وفيه تفصيل :
أولاً : إن كان الاستثناء صادراً عن شك في وجود أصل الإيمان فهذا محرم بل كفر، لأن الإيمان جزم والشك ينافيه .
ثانياً : إن كان صادراً عن خوف تزكية النفس والشهادة لها بتحقيق الإيمان قولاً وعملاً واعتقاداً، فهذا واجب خوفاً من هذا المحذور .
ثالثاً : إن كان المقصود من الاستثناء التبرك بذكر المشيئة أو بيان التعليل وأن ما قام بقلبه من الإيمان بمشيئة الله، فهذا جائز والتعليق على هذا الوجه -أعني بيان التعليل- لا ينافي تحقق المعلق ،
فإنه قد ورد التعليق على هذا الوجه في الأمور المحققة كقوله تعالى: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون }،
والدعاء في زيارة القبور : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون "، وبهذا عرف أنه لا يصح إطلاق الحكم على الاستثناء في الإيمان بل لابد من التفصيل السابق. انتهى من (مجموع الفتاوى «ألفاظ ومفاهيم في ميزان الشريعة» (ص 10)).
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق