يجوز تعدد الحكام بتعدد الدول الإسلامية، وذلك عند عدم القدرة على جمع المسلمين على خليفة واحد ويأخذ كل حاكم في قطره حكم الإمام الأعظم، لقوله تعالى : فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. (سورة التغابن - 16) .
والقول بتعدد الحكام اضطرارًا لا اختيارًا، خوفًا من الفتن والوقوع في المهالك،
فلا يجوز الخروج عليهم، وتطبق عليهم أحكام الإمامة في وجوب الصبر على ظلمهم، وتحريم منازعتهم ملكهم، وإعطاء الطاعة لهم من غير معصية الله.
** فمنذ انتهاء الخلافة الأموية سنة 132 هجرياً، وعلماء الأمة الأكابر سلفنا الصالح أقروا بتعدد البيعات،
ومتفقون على أن البيعة تكون للإمام أو للأمير الذي هم في حوزته ، ولا أحد ينكر ذلك،
** وأما من يقول بخلاف ذلك فهو ضال من أجهل الناس ومخالف لإجماع المسلمين من قديم الزمان، وإلا لو قلنا بهذا الرأي الضال،
لكان الناس الآن ليس لهم خليفة، ولكان كل الناس يموتون ميتة جاهلية ، ومن يقول بهذا ؟!.
** روى البيهقي باسناد صحيح : في (مناقب الشافعي 1/448) عن حرملة قال :
سمعت الشافعي يقول : كُلُّ من غَلَبَ عَلَى الخلافة بالسيف حتى يُسمَّى خليفة ويُجْمٍعَ الناس عَلَيه فهو خليفة. (الاعتصام للشاطبي 2/626).
- قال العلامة الصنعاني رحمه الله :
في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : ( من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة ومات فَمِيتَتُهُ ميتَةٌ جَاهلية ). قوله : " عن الطاعة "،
أي : طاعة الخليفة الذي وقع الاجتماع عليه وكان المراد خليفة أي قطر من الأقطار،
إذ لم يُجْمِعِ الناس على خليفة في جميع البلاد الإسلامية من أثناء الدولة العباسية بل استقل أهل كل إقليم بقائم بأمورهم.
إذ لو حُملَ الحديث على خليفة اجتمع عليه أهل الإسلام لقَلَّت فائدتُهُ .
وقوله : " وفارق الجماعة " أي : خرج عن الجماعة الذين اتفقوا على طاعة إمام انتظم به شملهم، واجتمعت به كلِمَتُهُمْ وحاطَهُم عن عدوهم). انتهى من ( سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام: 3/499).
- وقال ابن تيمية رحمه الله :
" السنة أن يكون للمسلمين إمام واحد، والباقون نوابه، فإذا فرض أن الأمة خرجت عن ذلك لمعصية من بعضها,
وعجز من الباقين، أو غير ذلك، فكان لها عدة أئمة، لكان يجب على كل إمام أن يقيم الحدود, ويستوفي الحقوق،
ولهذا قال العلماء : إن أهل البغي ينفذ من أحكامهم ما ينفذ من أحكام أهل العدل، وكذلك لو شاركوا الإمارة وصاروا أحزاباً،
لوجب على كل حزب فعل ذلك في أهل طاعتهم، فهذا عند تفرق الأمراء وتعددهم ". انتهى من (مجموع الفتاوى, ج34, ص176,175.).
- قال الحافظ ابن كثير رحمه الله - بعد أن حكى الخلاف في هذه المسألة وذكر قول الجمهور القائلين بعدم الجواز، ثم قال :
" وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تبعادت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما وتردد إمام الحرمين في ذلك .
قلت : وهذا يشبه حال الخلفاء من بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب...". انتهى من (تفسير ابن كثير: 1/74, ط. مكتبة النهضة بمكة المكرمة).
- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
وقد أجمع الفقهاء عَلى وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء. انتهى من (فتح الباري ( 13 / 7 )).
- وقد حكى الإجماع أيضاً: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقال :
الأئمة مجمعون من كل مذهب عَلَى أن من تغلب على بلد أو بُلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا،
لأن الناس من زمن طويل قَبْلَ الإمام أحمد إلى يؤمنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد،
ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أن شيئاً من الأحكام لا يَصح إلا بالإمام الأعظم. انتهى من (الدرر السنية في الأجوبة النجدية 7/293) .
- قال العلامة ابن الأزرق المالكي قاضي القدس :
"إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذر الإمكان .
قال ابن عرفة فيما حكاه الأُبِّيُّ عنه -: فلو بعُد موضع الإمام حتى لا ينفذ حكمه في بعض الأقطار البعيدة جاز نصب غيره في ذلك القطر .
وللشيخ علم الدين - من علماء العصر بالديار المصرية -: يجوز ذلك للضرورة...". انتهى من "بدائع السلك في طبائع الملك": (1/76-77) ط. العراق, تحقيق الدكتور علي النشار)
- وقال العلامة المازري المالكي رحمه الله :
العقد لإمامين في عصر واحد لا يجوز,
وقد أشار بعض المتأخرين من أهل الأصول إلى أن ديار المسلمين إذا اتسعت وتباعدت,
وكان بعض الأطراف لا يصل إليه خبر الإمام ولا تدبيره, حتى يضطروا إلى إقامة إمام يدبرهم, فإن ذلك يسوغ لهم. انتهى من (المعلم بفوائد مسلم, 3/35-36).
- وقال العلامة الشوكاني رحمه الله :
وأما بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان،
وفي القطر الآخر أو الأقطار كذلك ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته،
فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه
وكذلك صاحب القطر الآخر فإذا قام من ينازعه في القطر الذي قد ثبتت فيه ولايته وبايعه أهله كان الحكم فيه أن يقتل إذا لم يتب ولا تجب على أهل القطر الآخر طاعته ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار،
فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها ولا يدري من قام منهم أو مات فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يطاق،
وهذا معلوم لكل من له اطلاع على أحوال العباد والبلاد فإن أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته وهكذا العكس،
وكذلك أهل ما وراء النهر لا يدرون بمن له الولاية في اليمن وهكذا العكس .
فاعرف هذا فإنه المناسب للقواعد الشرعية والمطابق لما تدل عليه الأدلة ودع عنك ما يقال في مخالفته ،
فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار،
ومن أنكر هذا فهو مباهت لا يستحق أن يخاطب بالحجة؛ لأنه لا يعقلها ". انتهى من (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار, للعلامة/محمد بن علي بن محمد الشوكاني, تحقيق/محمود إبراهيم زايد, دار الكتب العلمية – بيروت, ط1، 1405هـ,ج4, ص 512.).
- وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
"« الإمام» : هو ولي الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إماماً عامّاً للمسلمين؛
لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي- صلى الله عليه وسلم- قال : (( اسمعوا وأطيعوا, وإن استُعمل عليكم عبد حبشي )).
فإذا تأمر إنسان على جهةٍ ما، صار بمنزلة الإمام العام، وصار قوله نافذاً، وأمره مطاعاً،
والأمة الإسلامية بدأت تتفرق من عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه- ، فابن الزبير في الحجاز، وابن مروان في الشام, والمختار بن عبيد وغيره في العراق،
وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة؛
وبهذا يعرف ضلال من يقول : إنه لا إمام للمسلمين اليوم، فلا بيعة لأحد.
فهل يريدون أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟ أم يريدون أن يقال : كل إنسان أمير نفسه؟
فهؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة, فإنهم يموتون ميتة جاهلية- والعياذ بالله-؛
لأن عمل المسلمين منذ أزمنة متطاولة على أن من استولى على ناحية من النواحي، وصار له الكلمة العليا فيها، فهو إمام فيها ". انتهى من ( الشرح الممتع على زاد المستقنع, للشيخ محمد الصالح العثيمين, الطبعة الأولى, 1417هـ, ج8, ص 12، 13).
وسئل أيضا رحمه الله :
هناك من يحاول أن يشكك في أمر البيعة لولاة أمرنا بأمور منها : أن البيعة لا تكون إلا للإمام الأعظم. فما قولك ؟
الجواب :
لا شك أن هذا من جنس ما أشرنا إليه في أول سؤال سُئِلنا إياه ، وأنَّ هذا خاطئ ، وإذا مات صاحبه فإنه يموت ميتة جاهلية ؛ لأنه سيموت وليس في رقبته بيعة لأحد .
والقواعد العامة في الشريعة الإسلامية أن الله يقول : فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. سورة التغابن ( الآية : 16 ).
فإذا لم يوجد خليفةٌ للمسلمين عمومًا ؛ فمن كان ولي أمر في منطقة ؛ فهو ولي أمرها ،
وإلا لو قلنا بهذا الرأي الضال ؛ لكان الناس الآن ليس لهم خليفة ، ولكان كل الناس يموتون ميتة جاهلية ، ومن يقول بهذا ؟!.
الأمة الإسلامية تفرقت من عهد الصحابة ، تعلمون أن عبد الله بن الزبير في مكة ، وبنو أمية في الشام ، وكذلك في اليمن أناس،
وفي مصر أناس ، وما زال المسلمون يعتقدون أن البيعة لمن له السلطة في المكان الذي هو فيه ، ويبايعونه ويدعونه بـ ( أمير المؤمنين ) ، ولا أحد ينكر ذلك .
فهذا شاق لعصا المسلمين من جهة عدم التزامه بالبيعة ، ومن جهة أنه خالف إجماع المسلمين من عهد قديم ، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول : ( اسمعوا وأطيعوا ؛ وإن تأمر عليكم عبد حبشي ) ......
فبلِّغ هذا الأخ نصيحتي إياه ، أن يتقي الله عز وجل ، وأن يعتقد أنه الآن في ظل أميرٍ ذي ولاية عليه ، حتى لا يموت بعد ذلك ميتة جاهلية .انتهى من (اللقاء المفتوح " شريط رقم (128 ")).
إذن بهذه النقول الواضحة يتجلى ما عليه بعض المحققين من أهل العلم من جواز تعدد الأئمة للضرورة والحاجة،
وعليه يثبت شرعاً لهؤلاء الأئمة المتعددين ما يثبت للإمام الأعظم يوم أن كان موجودا فيقيمون الحدود نحوه ويسمع ويطاع لهم ويحرم الخروج عليهم.
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق