لا يجوز الإنكار العلني على الحاكم إلا فى وجوده وفى مجلسه وحسب ما تقتضيه الضرورة وألا يسبب فتنة وأما غير ذلك فلا يجوز .
فالواجب أن نناصح الحاكم سراً فيما صدر عنه من منكرات حرصاً على جمع الكلمة ،
لأن الغالب أن المجاهرة بالإنكار على ولي الأمر تؤدي إلى تهييج الشر والفتن فكان المشروع الإنكار عليه ووعظه سرًّا .
وهذا من حكمة الشَّارع ورحمته فإنَّ التَّعرُّض للسُّلطان ليس كالتَّعرُّض لغيره لِمَا يترتَّب على الخلل في معاملة الحكَّام من المفاسد العظمى والفتن الكبرى .
وأما الإنكار العلني الذى جاء عن بعض السلف :
فليس فيه دليل على جواز ذلك لأنه خاص بالإنكار أمام الحاكم فى وجوده وهو ما تقتضيه الحاجة والمصلحة وفي نفس المكان وهو ليس فيه تشهير ولاسب ولاتهييج .
فالإنكار العلني لا يكون إلا فى وجود الحاكم وحضوره وأن تتحقق مصلحة في ذلك وليس فى غيابه على المنابر وفى الصحف والتلفاز ومواقع التواصل الاجتماعى فهذا لا يجوز لأنه من أفعال الخوارج .
هذا وقد مضى أئمة السنة على عدم الجهر بالنصيحة لولاة الأمور ولا للعوام بل إذا أرادوا نصح أحد نصحوه سرا.
ومما يدل على ذلك :
1 - عن عياض بن غنم : أن رسول الله ﷺ قال : ( من أراد ان ينصح لسلطان بأمرٍ فلا يبدِ لهُ علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلو به فانْ قبل منه فذاك والا كان قد أدى الذي عليه لهُ ). رواه ابن أبي عاصم وصححه الألباني في "ظلال الجنة" (2/ 522).
قال السندي في شرح الحديث : أي : نصيحة السُّلطان ينبغي أن تكون في السِّرِّ لا بين الخلق . انتهى من ( (حاشية السندي على المسند) ، 8) / /238
والنصيحة اسم عام يشمل أشياء كثيرة، كما في حديث « الدَّينُ النَصِيحَُة » ومنها الإنكار، فالإنكار حال من أحوال النصيحة.
2 - أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى في صحيحيهما : عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له : ألا تدخل على عثمان رضي الله عنه لتكلمه؟ فقال : ( أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم ؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أوّل من فتحه ).اهـ.
فهذا الحديث صريح أنه لم يكن من منهاجهم الإنكار على الأمراء علنا وأنه أمر محدث .
قال في الفتح : " وقال عياض : ومراد أسامة : أنه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام، لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به، وينصحه سرا، فذلك أجدر بالقبول " .اه ([فتح الباري (٥٢/١٣)])
قال العيني في عمدة القاري:(23 / 33): " قوله : (( إني أكلمه سرا )) أي: في السر دون أن أفتح باب من أبواب الفتن حاصله أكلمه طلبا للمصلحة لا تهييجا للفتنة ،
لأن المجاهرة على الأمراء بالإنكار يكون فيه نوع القيام عليهم لأن فيه تشنيعا عليهم يؤدي إلى افتراق الكلمة وتشتيت الجماعة.
قوله : (( لا أكون أول من فتحه )) أي : أول من فتح بابا من أبواب الفتنة " ا.هـ
قال الشيخ الألباني في مختصره لصحيح مسلم (ص335) : " يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ؛ لأن في الإنكار جهاراً ما يخشى عاقبته، كما اتفق في الإنكار على عثمان جهاراً، إذ نشأ عنه قتله ".اهـ
3 - جاء في الحديث المتفق عليه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس فيهم، قال : فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلا لم يعطه وهو أعجبهم إلي،
فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته، فقلت : ما لك عن فلان، والله إني لأراه مؤمنا؟ قال : أو مسلما قال : فسكت قليلا، ثم غلبني ما أعلم فيه، فقلت : يا رسول الله.. إلى اخر الحديث.
قال الإمام النووي رحمه الله : قوله : ( فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساورته فقلت : ما لك عن فلان ) فيه التأدب مع الكبار وأنهم يسارون بما كان من باب التذكير لهم والتنبيه ونحوه ، ولا يجاهرون به فقد يكون في المجاهرة به مفسدة . انتهى من (شرح النووى على مسلم- كتاب الزكاة).
4 - أخرج أحمد بسنده عن سعيد بن جهمان قال : ( أتيت عبد الله بن أبي أوفى وهو محجوب البصر فسلمت عليه.. قلت : فإن السلطان يظلم الناس ويفعل بهم.
قال : فتناول يدي فغمزها بيده غمزة شديدة، ثم قال : ويحك يا ابن جهمان عليك بالسواد الأعظم، عليك بالسواد الأعظم، إن كان السلطان يسمع منك فائته في بيته فأخبره بما تعلم فإن قبل منك وإلا فدعه فإنك لست بأعلم منه ). رواه أحمد (4/382) (19434). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/235): رجال أحمد ثقات، وحسنه الوادعي في ((الصحيح المسند)) (542).
5 - وكذلك حديث أبي سعيد الخدري الذي يقول فيه : قال رسول الله ﷺ : « أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر ». صحيح أبي داود.
دل الحديث على : أن النصيحة تكون فى حضور الحاكم وليس فى غيابه بقوله : « عند سلطان جائر» ولم يقل : «عند العامة».
6 - قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس : آمر إمامي بالمعروف؟ قال : " إن خشيت أن يقتلك فلا، فإن كنت ولا بدّ فاعلا ففيما بينك وبينه ولا تَغْتَب إمامك ". [أخرجه سعيد بن منصور، 746، وابن أبي شيبة، 38462، والبيهقي في شعب الإيمان، 7186، وإسناده حسن].
7 - عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال : " أيتها الرعية ! إن لنا عليكم حقا ، النصيحة بالغيب ، والمعاونة على الخير .... ". رواه هناد في ((الزهد)) (2/602) واللفظ له، والطبري في ((التاريخ)) (4/224).
قال القاضي عياض رحمه الله :
" قوله : ( دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ ) يعنى في المجاهرة بالنكير والقيام بذلك على الأمراء، وما يُخشى من سوء عقباه، كما تولد من إنكارهم جهارًا على عثمان بعد هذا، وما أدى إلى سفك دمه واضطراب الأمور بعده.
وفيه التلطف مع الأمراء، وعرض ما ينكر عليهم سراً، وكذلك يلزم مع غيرهم من المسلمين ما أمكن ذلك، فإنه أولى بالقبول وأجدر بالنفع، وأبعد لهتك الستر وتحريك الأنفة ". انتهى من "إكمال المعلم" (8/538).
وقال ابن القيم رحمه الله :
ومن دقيق الفطنة : أنك لا ترد على المطاع خطأه بين الملأ، فتحمله رتبته على نصرة الخطأ، وذلك خطأ ثان، ولكن تلطف في إعلامه به حيث لا يشعر به غيره . اهـ ((الطرق الحكمية)) (ص: 54).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" قال المهلب : أرادوا من أسامة أن يكلم عثمان، وكان من خاصته، وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة، لأنه كان يظهر عليه ريح نبيذ، وشهر أمره، وكان أخا لعثمان لأمه، وكان يستعمله،
فقال أسامة : ( قد كلمته سرا دون أن أفتح بابا ) : أي باب الإنكار على الأئمة علانية، خشية أن تفترق الكلمة " . انتهى من ([فتح الباري (٥٢/١٣)])
قال الإمام الشوكاني رحمه الله :
ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد. بل كما ورد في الحديث : أنه يأخذ بيده و يخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله .
وقد قدمنا : أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بلغوا في الظلم أيّ مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح. والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة . انتهى من ( كتاب السيل الجرار 4 / 556).
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
" إذا صدر المنكر من أمير أو غيره ينصح برفق خُفْية ما يستشرف ـ أي ما يطلع ـ عليه أحد فإن وافق وإلا استلحق عليه رجلاً يقبل منه بخفية فإن لم يفعل؛
فيمكن الإنكار ظاهراً إلا إن كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر إلينا خُفْية ". انتهى من (الدرر السنية (151/9)).
وجاء في الدرر السنية :
« إنكار المنكر على الولاة ظاهراً مما يوجب الفرقة والاختلاف بين الإمام ورعيته فإن لم يقبل المناصحة خفية فليرد الأمر إلى العلماء، وقد برئت ذمته » .انتهى من (الدرر السنية (9/153)) .
وقال الشيخ السعدي رحمه الله :
على من رأى منهم ما لا يحل أن ينبههم سراً لا علناً بلطف وعبارة تليق بالمقام . انتهى من (الرياض الناضرة) .
قال حنبل رحمه الله :
« اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله [ يعني أحمد بن حنبل ] وقالوا له : إن الأمر قد تفاقم وفشا – يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ، ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه،
فناظرهم في ذلك وقال : عليكم بالإنكار بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم،
وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر، وقال : ليس هذا بصواب، هذا خلاف الآثار .انتهى من (الآداب الشرعية (1/196))».
فكما رأيت أخي المسلم أن الواجب أن يناصح الحاكم سراً فيما صدر عنهم من منكرات ولا يكون ذلك على رؤوس المنابر وفي مجامع الناس وفى مواقع التواصل الإجتماعى ،
لما ينجم عن ذلك غالباً من تأليب العامة وإثارة الرعاع وإشعال الفتنة .
قال الشيخ العثيمين رحمه الله :
« فإن مخالفة السلطان فيما ليس من ضروريات الدين علنًا، وإنكار ذلك عليه في المحافل والمساجد والصحف ومواضع الوعظ وغير ذلك ليس من باب النصيحة في شيء،
فلا تغتر بمن يفعل ذلك، وإن كان عن حسن نية، فإنه خلاف ما عليه السلف الصالح المقتدى بهم، والله يتولى الهدى ». اه (كتاب مقاصد الإسلام (ص393)).
وقال أيضا رحمه الله :
ولا بد من استعمال الحكمة، فإذا رأينا أن الإنكار علنا يزول به المنكر ويحصل به الخير فلننكر علنا،
وإذا رأينا أن الإنكار علنا لا يزول به الشر، ولا يحصل به الخير بل يزداد ضغط الولاة على المنكرين وأهل الخير، فإن الخير أن ننكر سرا،
وبهذا تجتمع الأدلة، فتكون الأدلة الدالة على أن الإنكار يكون علنا فيما إذا كنا نتوقع فيه المصلحة، وهي حصول الخير وزوال الشر،
والنصوص الدالة على أن الإنكار يكون سرا فيما إذا كان إعلان الإنكار يزداد به الشر ولا يحصل به الخير.
وأقول لكم : إنه لم يضل من ضل من هذه الأمة إلا بسبب أنهم يأخذون بجانب من النصوص ويدعون جانبا، سواء كان في العقيدة أو في معاملة الحكام أو في معاملة الناس، أو في غير ذلك.....
إلى أن قال : كذلك أيضاً في مسألة مناصحة الولاة، من الناس من يريد أن يأخذ بجانب من النصوص وهو إعلان النكير على ولاة الأمور، مهما تمخض عنه من المفاسد،
ومنهم من يقول : لا يمكن أن نعلن مطلقاً، والواجب أن نناصح ولاة الأمور سراً كما جاء في النص الذي ذكره السائل،
ونحن نقول : النصوص لا يكذب بعضها بعضاً، ولا يصادم بعضها بعضاً، فيكون الإنكار معلناً عند المصلحة،
والمصلحة هي أن يزول الشر ويحل الخير، ويكون سراً إذا كان إعلان الإنكار لا يخدم المصلحة، لا يزول به الشر ولا يحل به الخير.
وأنتم تعلمون -بارك الله فيكم- أن ولاة الأمور لا يمكن أن يرضوا جميع الناس أبداً، حتى إمام المسجد، هل يرضي جميع المصلين ؟ لا.
بعضهم يقول : تبكر! وبعضهم يقول : تطول! وبعضهم يقول : تقصر! وفي الشتاء يتنازعون والذي يصلي في الشمس والذي يصلي في الظلال لا يحصل الاتفاق،
فإذا أعلن النكير على ولاة الأمور استغله من يكره « وجعل من الحبة قبة» وثارت الفتنة، وما ضر الناس إلا مثل هذا الأمر!
الخوارج كانوا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جيش الشام، وعندما تصالح علي مع جيش الشام حقناً لدماء المسلمين صاروا ضده، وقالوا : أنت كافر. كفروا علي بن أبي طالب -والعياذ بالله- لماذا ؟
لأن رعاع الناس وغوغاء الناس لا يمكن ضبطهم أبداً، وإعلان النكير على ولاة الأمور يستغله هؤلاء الغوغاء ليصلوا إلى مآربهم، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
« إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكنه رضي بالتحريش بينهم » بين من ؟ بين سكان الجزيرة، يحرش بينهم حتى تؤدي المسائل إلى القتل ويلاقي الإنسان أخاه في الإسلام وربما أخاه في النسب أو ابن عمه أو صهره فيقتله على أي شيء ؟ ولا على شيء.
فالحاصل أننا نقول : يجب على شباب الصحوة أن ينظروا إلى النصوص من جميع الجوانب، وألا يقدموا على شيء حتى ينظروا ما عاقبته،
إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » فاجعل هذا ميزاناً لك في كل أقوالك، وكذلك في كل أفعالك، والله الموفق . انتهى من (لقاءات الباب المفتوح، لقاء رقم(62))
وقال أيضا رحمه الله :
الانكار على الحاكم مثل أن يقوم الانسان -مثلاً- في المسجد ويقول : الدولة ظلمت الدولة فعلت، فيتكلم في نفس الحكام،
وهناك فرق بين أن يكون الأمير أو الحاكم الذي تريد ان تتكلم عليه بين يديك وبين ان يكون غائباً، لأن جميع الانكارات الواردة عن السلف انكارات حاصلة بين يدي الأمير أو الحاكم .
وهناك فرق بين كون الأمير حاضراً أو غائباً. الفرق أنه اذا كان حاضراً أمكنه ان يدافع عن نفسه، ويبين وجهة نظره،
وقد يكون مصيباً ونحن مخطئون، لكن اذا كان غائباً وبدأنا نحن نفصل الثوب عليه على ما نريد هذا هو الذي فيه الخطورة،
والذي ورد عن السلف كله في مقابلة الأمير أو الحاكم، ومعلوم ان الانسان لو وقف يتكلم في شخص من الناس وليس من ولاة الأمور وذكره في غيبته،
فسوف يقال : هذه غيبة، اذا كان فيك خير فصارحه وقابله . اه (اللقاء المفتوح لابن عثيمين (ص814-816))
فهنا يتضح كلام الشيخ ابن عثيمين أن المقصود أن الأنكار على الحاكم يكون أمامه وليس في غيبته أو علانية في ظهره .
وقال أيضا رحمه الله :
فالله الله في منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلى تنفير القلوب عن ولاة الأمور،
فهذا عين المفسدة وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس، كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى، وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها،
فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن، لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم، وإن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم وحصل الشر والفساد،
فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان وأن يضبط الإنسان نفسه وأن يعرف العواقب، وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام،
فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال بل العبرة بالحكمة، ولست أريد بالحكمة السكوت عن الخطأ،
بل معالجة الخطأ لنصلح الأوضاع لا لنغير الأوضاع، فالناصح هو الذي يتكلم ليصلح الأوضاع لا ليغيرها . انتهى من (معاملة الحكام في ضوء الكتاب والسنة (ص32)) .)
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة، وذكر ذلك على المنابر؛ لأن ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع،
ولكن الطريقة المتبعة عند السلف : النصيحة فيما بينهم وبين السلطان، والكتابة إليه، أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجه إلى الخير.
أما إنكار المنكر بدون ذكر الفاعل : فينكر الزنا، وينكر الخمر، وينكر الربا من دون ذكر من فعله، فذلك واجب؛ لعموم الأدلة. ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر من فعلها لا حاكما ولا غير حاكم .
ولما وقعت الفتنة في عهد عثمان : قال بعض الناس لأسامة بن زيد : ألا تكلم عثمان؟ فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه، إلا أسمعكم؟ إني أكلمه فيما بيني وبينه دون أن أفتتح أمرًا لا أحب أن أكون أول من افتتحه.
ولما فتح الخوارج الجهال باب الشر في زمان عثمان وأنكروا على عثمان علنا عظمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية،
وقتل عثمان وعلي رضي الله عنهما بأسباب ذلك، وقتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علنا، حتى أبغض الكثيرون من الناس ولي أمرهم وقتلوه،
وقد روى عياض بن غنم الأشعري، أن رسول الله ﷺ قال : من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدى الذي عليه.
نسأل الله العافية والسلامة لنا ولإخواننا المسلمين من كل شر، إنه سميع مجيب . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وآله وصحبه . انتهى من ("مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (8 / 210 – 211)).
وهذا الذي قرره الشيخ ابن باز رحمه الله هو امتداد لما عليه السلف الصالح من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعين رحمهم الله ومن سلك مسلكهم من أهل العلم والدين .
تنبيه : إذا اختلفت أقوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة فالعبرة بما وافق الدليل الصحيح فلا عبرة بقول أحد أبداً بعد قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ،
وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ولاة الأمور فيما يصدر عنهم من منكرات وأن ننصحهم سرا عندهم فى مكانهم والأحاديث فى ذلك كثيرة .
فالمخالف للنص من الصحابة والتابعين يعتذر له ولا يترك النص بسببه فقد يكون لم يبلغه النص أو نسيه ،
وفي هذا ألّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه العظيم "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" فليراجع، ومن هذا خروج جماعة من السلف بالسيف على الولاة، فهل يُحتج بفعلهم في رد النصوص؟!! .
قال الإمام الشافعي رحمه الله :
إذا جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقاويل مختلفة يُنظر إلى ما هو أشبه بالكتاب والسنة فيُؤخذ به،
فإن تعذر ذلك من نص الكتاب والسنة؛ أُعتبرت أقاويلهم من جهة القياس فمن شابه قوله أصلاً من الأصول أُلحق بها .اهـ (كتاب الفقيه والمتفقه)
الخلاصة
الأصل أن ينكر على ولاة الأمر برفق سرا لا علانية أمام الناس للأدلة السابقة ولكن يستنى من هذا الأصل جواز الإنكار على ولي الأمر علانية بشرطين :
1- أن يكون أمام ولي الأمر لا بغيابه .
2- أن تتحقق مصلحة في ذلك .
- فإذا كان الحاكم
ممن عرف بتقواه وصلاحه وتقبله للنصيحة في العلن فى وجوده وليس فى غيابه ولم يكن في تأديتها جهراً منابذته والتشهير به ،
أو الخروج عن طاعته التي عرفها الشرع وغلب الظن أن المصلحة فيها ستكون أعظم من المفسدة حسب الزمان والمكان، فلا بأس بذلك ومن ذلك:
عن أبي سعيد الخدري قال : أخرَجَ مروان المنبر في يوم عيد، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة، فقام رجل فقال : يا مروان خالفت السنَّةَ؛ أخرجت المنبر في يوم عيد؛ ولم يُخرَجْ فيه، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، فقال أبو سعيد : من هذا؟
قالوا : فلان بن فلان. فقال : أمَّا هذا؛ فقد قضى ما عليه؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من رأى منكم منكراً فليغره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ». أخرجه مسلم. وجاء في الصحيح : أن أبا سعيد رضي الله عنه جلس واستمع الخطبة ثم صلى معه .
- وإذا كان الحاكم
ممن لا يُعرف بتقوى أو صلاح أو يغلب عليه كراهية من ينصحه جهراً أو لكونه قد يفهم من نصيحة الجهر الخروج عليه وغلب الظن أن المفسدة ستكون أعظم من المصلحة،
فهذه النصيحة لا تحل جهراً لأنها ستؤدي إلى مفسدة أعظم ومن ذلك:
الفتنة التى حصلت فقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان بسبب الإنكار عليه جهراً والخروج عن طاعته، فاجتمعوا عليه وقتلوه،
ومثل ذلك فتنه عبد الرحمن بن الأشعث الذي كان يجهر بالإنكار على السلطان حتى خرج عن الخليفة عبد الملك بن مروان وقد فتن في هذ المحنة بعض العلماء وأفاضل التابعين وقتل بسببها أكثر من مائة ألف رجل .
فالقاعدة الشرعية المجمع عليها : أنه لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
« لا يجوز إنكار المنكر بما هو أنكر منه، ولهذا حرم الخروج على ولاة الأمور بالسيف، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والذنوب،
وإذا كان قوم على بدعة أو فجور، ولو نهوا عن ذلك، لوقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك، ولم يمكن منعهم منه، ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة،لم ينهوا عنه ». انتهى من [مجموع فتاوى ابن تيمية ج14 ص472.]
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق