مع اختلاف الدول في إثبات دخول شهر رمضان، يطرح سؤال مهم : هل يجوز الصيام وفق رؤية دولة أخرى غير بلدي؟
▣ هذه المسألة الفقهية تثير جدلاً بين العلماء، خاصة في ظل اختلاف المطالع وطرق إثبات الهلال.
في هذا المنشور نستعرض الأدلة والآراء الفقهية حول هذه القضية.
▣▣ حكم الصيام وفق رؤية دولة أخرى؟
من كان في بلد ولم يعلن فيه الصيام، فلا يجوز له أن يصوم وفق رؤية دولة أخرى، بل يجب عليه أن يصوم مع البلد الذي يعيش فيه.
** وذلك لقوله تعالى : "فمن شهد منكم الشهر فليصمه". [البقرة: 185]، حيث علّق الحكم على الشهادة والرؤية،
مما يدل على أن من لم يشهد الهلال ولم يره، لا يلزمه الصيام بناءً على تلك الرؤية.
** وبناءً على ذلك، إذا اختلفت مطالع الهلال، فإن البلدان التي لم يُرَ فيها الهلال لا يُعتبر أن الشهر قد بدأ عندهم،
وبالتالي لا تثبت في حقهم أحكامه، وكما أن التوقيت اليومي للصلاة يختلف من بلد لآخر، فكذلك التوقيت الشهري، إذ يرتبط بكل بلد وفقًا لرؤيته المحلية.
** كما أن ذلك من باب دفع المفسدة الكبرى بالصغرى، فالتزام المسلمين برؤية واحدة في البلد الواحد:
يحقق مقاصد الشريعة الإسلامية في توحيد الصفوف وجمع الكلمة، كما أنه يمنع الفوضى والاختلاف بين الناس.
** ولأن لكل بلد مطلع هلال خاص به، ولا يجوز إلزام بلد برؤية بلد، لعموم قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه. [البقرة: 185]،
فالذين لا يوافقون في المطالع من شاهده لا يقال إنهم شاهدوه حقيقة ولا حكما، والله تعالى أوجب الصوم على من شاهده .
▣▣ الأدلة من السنة:
1- قال النبي ﷺ : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. (رواه البخاري) .
▣ هنا النبي ﷺ علل الأمر في الصوم بالرؤية، ومن يخالف من رآه في المطالع لا يقال إنه رآه لا حقيقة ولا حكما.
2- ويؤكد ذلك : ما جاء في حديث كريب : أن ابن عباس رضي الله عنه لم يأخذ برؤية الشام، وقال : "هكذا أمرنا رسول الله ﷺ". (رواه مسلم).
وهو دليل واضح على أن لكل بلد رؤيته الخاصة.
▣ قال الترمذي رحمه الله : والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن لكل بلد رؤيتهم.
▣ فقوله : "هكذا أمَرنا رسول الله ﷺ ". دل ذلك على أنَّه قد حفظ من رسول الله- ﷺ- أنه لا يلزم أهل بلدٍ العمل برُؤية أهل بلد آخر.
▣ والعجب أن يقال : عن قول ابن عباس فى الحديث أن هذا من اجتهاده لا من نص رسول الله ﷺ ،
وحينئذ يُرد اجتهاد ابن عباس رضي الله عنهما لإجتهاد فلان وفلان!. فأي حسرة هذه تنزل في القلوب؟!.
▣▣ اختلاف المطالع وأثره على رؤية الهلال.
يرى جمهور الفقهاء أن اختلاف المطالع معتبر في تحديد بداية الأشهر القمرية،
فلا يلزم جميع الدول الإسلامية الصيام والإفطار برؤية دولة واحدة.
▣ وذلك لأن المسلمين مختلفون في الإفطار والإمساك اليومي، فلا بد أن يختلفوا كذلك في الإمساك والإفطار الشهري .
▣ والقول بعدم اعتبار اختلاف المطالع يخالف المعقول والمنقول،
- أما مخالفته للمعقول: فلمخالفته لما هو ثابت بالضرورة من اختلاف الأوقات فلا يمكن إلزام المسلمين بالصوم في وقت واحد،
لأن هذا يعني إلزام جماعة منهم بالصوم قبل رؤية الهلال بل قبل طلوعه.
- وأما مخالفته للمنقول: لما جاء في حديث كريب : أن ابن عباس رضي الله عنه لم يأخذ برؤية الشام،
وقال : "هكذا أمرنا رسول الله ﷺ". (رواه مسلم) .وهو دليل واضح على أن لكل بلد رؤيته الخاصة.
▣▣ آراء العلماء في مسألة اختلاف المطالع:
- قال العلامة الصنعاني رحمه الله :
في المسألة أقوالٌ ليس على أحَدِها دليلٌ ناهضٌ،
والأقرَبُ لزومُ أهلِ بلدِ الرؤيةِ وما يتَّصِلُ بها من الجهاتِ التي على سَمْتِها. ينظر: ((سبل السلام)) (2/151).
- قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
الصواب : أن لكل أهل بلد رؤيتهم، كل بلد لهم رؤيتهم،
فإذا صام أهل مصر لرؤيتهم، وأهل الشام لرؤيتهم، وأهل المغرب لرؤيتهم؛ فلا بأس،.. ينظر: (فتاوى نور على الدرب).
- قال الشيخ العثيمين رحمه الله :
من العلماء من يقول : إنه لا يجب الصوم في هلال رمضان ولا الفطر في شوال إلا لمن رأى الهلال أو كان موافقاً فيمن رآه في مطالع الهلال؛
لأن مطالع الهلال تختلف باتفاق أهل المعرفة في ذلك، فإذا اختلفت وجب أن يحكم لكل بلد برؤيته، والبلاد الأخرى موافقة في مطالع الهلال فلا تبع له وإلا فلا،
وهذا القول اختيار شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله، واستدل بهذا القول بقوله تعالى :(فمن شهد منكم الشهر فليصمه)،
وكقول النبي ﷺ : « إذا رأيتموه فصموا وإذا رأيتموه فأفطروا »، أي:
بنص الدليل الذي استدل به من يرى عموم وجوب الصوم على كل أحد إذا ثبتت رؤيته في مكان من بلاد المسلمين،
لكن الاستدلال يختلف : وجه الاستدلال أن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه الآية والحديث،
لأن الحكم علق بالشاهد والرأي، وهذا يقتضي أن من لم يشهد ولم يرى لم يلزمه الحكم بذلك،
وعليه فإذا اختلفت المطالع فإن البلاد المخالفة لبلاد الرؤية لا يكون قد شوهد فيها الهلال ولا رؤي،
وحينئذ لا تكون تثبت أحكام الهلال في حقهم وهذا لاشك وجه قوي في الاستدلال وأقوى من الأول، ويؤيده النظر والقياس.
فإنه إذا كان الشارع قد علق الإمساك للصائم بطلوع الفجر، والفطر بغروب الشمس،
فقال تعالى : ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل﴾،
فالشارع علق الحكم بتبين طلوع الفجر إمساكاً، وبالليل إفطاراً،
والنبي ﷺ قال : « إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار المشرق وأدبر النهار من هاهنا، وأشار إلى المغرب، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ».
والمعلوم بإجماع المسلمين أن هذا الحكم ليس عاماً في جميع البلدان، بل هو خاص في كل بلد يثبت فيه هذا الأمر،
تجد الناس في الشرق يمسكون قبل الناس في الغرب ويفطرون قبلهم حسب تبين الفجر وغروب الشمس،
فإذا كان توقيت اليومي متعلق بكل بلد بحسبه فهكذا التوقيت الشهري يتعلق بكل بلد بحسبه.
وبهذا يتبين أن القول الذي اختاره شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله هو القول الراجح أثراً ونظراً.
هناك قول ثالث : أن الناس يتبعون إمامهم فإذا قرر الإمام وهو ذا السلطة العليا في البلد دخول الهلال، وكان ذلك بمقتضى الأدلة الشرعية ،
وجب العمل بمقتضى هذا الهلال صوماً في رمضان، وإفطاراً في شوال، وإذا لم يقرر ذلك فإنه لا صوم ولا فطر،
واستدل لهذا القول بقول النبي ﷺ : « الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس »، وهذا هو الذي عليه العمل في وقتنا الحاضر.
ولهذا فنقول للسائل: الأولى أن لا تخالف الناس، بل بعبارة أصح بل ألا تظهر مخالفة الناس،... ينظر: (فتاوى نور على الدرب-شريط رقم [179]).
- قال الشيخ الألباني رحمه الله :
من كان في بلد ولم يعلن فيه الصيام فلا يجوز أن يصوم مع بلد آخر،
ونحن لما ذكرنا آنفًا أن قوله - ﷺ -: «صوموا لرؤيته». قلنا : من فوائد هذا الأمر توحيد المسلمين في صيامهم،
ولكن معلوم أن المسلمين اليوم لم يتفقوا بعد على تنفيذ هذا النص النبوي تنفيذًا عامًا، فلا تزال بعض الدول تستقل في الصيام عن بعض الدول الأخرى،
ولهذا فمن كان في دولة كالباكستان مثلًا ولو كان من البلاد العربية فهو مقيم فيها لطلب العلم أو لمصلحة أخرى ،
فلا يجوز له أن يخرج في صيامه عن الإقليم الذي هو الآن يعيش فيه؛ لأن في صيامه مع البلد العربي سيزيد الخلاف خلافًا جديدًا،
فسيصبح بعض ذلك الإقليم يصومون مع إقليم آخر، والبعض الآخر وهو الأكثر يصوم مع الإقليم الذي هم فيه،
فتزداد الفرقة ويزداد الخلاف بين المسلمين، والمفروض محاولة تقليل الخلاف بين الناس، وليس من الجائز تكثيره،
وسيقع هذا الذي يصوم مع البلاد العربية في مشكلة أخرى : وهي الخروج من الصوم، ثم صلاة العيد، فسيقع في اضطراب كثير،
ولذلك فمن باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى عليه أن يصوم مع الإقليم الذي هو يعيش فيه. ينظر: (فتاوى جدة (٢٦ ب) ).
▣▣ الخلاصة :
1- يجب على المسلم الصيام والإفطار مع الدولة التي يقيم فيها، ولا يجوز له أن يتبع رؤية دولة أخرى لما في ذلك من إثارة الفتنة والفرقة.
2- اختلاف المطالع معتبر شرعًا، فلا يجب على جميع الدول الإسلامية الصيام أو الإفطار بناءً على رؤية بلد واحد.
3- يجب الالتزام بقرار الدولة في تحديد بداية رمضان وشوال، تجنبًا للفوضى والاختلاف.
والله اعلم
▣ ما رأيك في هذا الموضوع؟ شاركنا رأيك في التعليقات، فنحن نرحب بمداخلاتكم ونقاشاتكم الهادفة!.
وللفائدة:
تعليقات
إرسال تعليق