عمر رضي الله عنه يشير بقوله : " نعمت البدعة هذه " عن صلاة التراويح في جماعة إلى البدعة اللغوية الموافقة للسنة وليست البدعة الشرعية المذمومة المُحدثة ؛
لأن جمع الناس فى صلاة التراويح على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين سُنة لها أصل فى الشرع،
فقد كانت هذه السُنة من فعل الرسول صلى الله عليه وسلّم فقد صلّى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس جماعة في رمضان وصلّى الناس بصلاته،
لكنه تركها ولم يستمر عليها خشية أن تفرض على الناس واستمر الأمر هكذا حتى أحياها عمر- رضي الله عنه مرة أخرى.
فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى في المسجد ذات ليلة فصلّى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثُر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة ،
فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم . قال : وذلك في رمضان
فمن يحتج بقول عمر رضي الله عنه عن صلاة التراويح في جماعة ( نعمت البدعة هذه ) ويقول بأن هناك بدعة حسنة، فالجواب على ذلك :
أ- حديثُ عمر بن الخطاب في جمع الناس لصلاة التراويح على إمام واحدٍ : فهذا الفعلُ مأخوذٌ من فعله صلى الله عليه وسلم، ورآه الناس ثلاث ليالٍ، ثم تركها لخشيته أن تُفرض عليهم،
وتوفي صلى الله عليه وسلم والأمرُ على ذلك، كما في صحيح البخاري ،فعمر رضي الله عنه لم يكن منه إلا أنه أحيا الأمر الأول وجَمَع الناس على إمام واحد بدل الفرقة والاختلاف .
* قال ابن عبد البر رحمه الله : لم يَسُنّ عمر إلا ما رضيه صلى الله عليه وسلم ، ولم يمنعه من المواظبة عليه إلا خشية أن يفرض على أمته ، وكان بالمؤمنين رؤوفا رحيما ،
فلما عَلِمَ عمر ذلك مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعَلِمَ أن الفرائض لا يُزاد فيها ولا يُنقص منها بعد موته صلى الله عليه وسلم أقامها للناس وأحياها ،
وأَمَرَ بـها وذلك سنة أربعة عشرة من الهجرة ، وذلك شيءٌ ذخره الله له وفضّله به . اهـ (كتاب شرح الزرقاني على الموطأ).
* قال ابنُ تيمية رحمه الله : أما قيامُ رمضان فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَنَّهُ لأمته، وصلى بهم جماعةً عِدَّة ليالٍ،
وكانوا على عهده يُصلَّون جماعات وفُرادي، لكن لم يداوموا على جماعةٍ واحدةٍ، فلما كان عمرُ، جمعهم على إمامٍ واحدٍ. انتهى من ([ الفتاوى (22/234).]).
* قال الشيخ الألباني رحمه الله : عاد عمر إلى إحياء تلك السُنة التي أحياها الرسول عليه السلام بفعله المذكور (صلاته التراويح فى جماعة ثلاث ليال) ثم بقوله الآتي فأحيا تلك السُنة،
لأن الخشية زالت ومن القواعد الفقهية الأصولية " أن الحكم يدور مع العلة وجودا وعدما " فحكم الامتناع كان قائما على الخشية فلما زالت الخشية زال حكم الامتناع وعاد إلى أصله المشروع،
مشروع بفعله ثلاث ليال وتأكدت هذه الشرعية بقوله عليه السلام الذي أشرت إليه وهو ما رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح عن أبي ذر:
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم في رمضان ثلاث ليال قال أو أربعة ثم قال ( من صلى العشاء مع الإمام ثم صلى قيام رمضان مع الإمام كتب الله له قيام ليلة )،
... هذا قول صدر من الرسول عليه الصلاة والسلام تأكيدا لمشروعية التجميع في صلاة التراويح في رمضان،
خلافا لمن يظن أنه الأفضل في صلاة التراويح في رمضان أن يصليها في بيته ومع أهله،
لا هذا يخالف سنة الرسول العملية التي تركها للعلة التي خشي ويخالف قوله العام الموجه شريعة عامة إلى أمته،
وهو حضه عليه الصلاة والسلام على صلاة العشاء جماعة وصلاة القيام جماعة فيكون له ثواب قيام ليلة بتمامها.
إذًا ماذا فعل عمر؟ لقد أحيا سنة من فعله عليه السلام مؤكدة بقوله كيف يقال إن عمر ابتدع في الإسلام بدعة لكن هذه بدعة حسنة...انتهى باختصار من (متفرقات للألباني-(185)).
ب- إن قول عمر رضي الله عنه : ( نعمت البدعةُ هذه ) ينصرف إلى البدعةِ اللغويةِ لا الشرعية، وذلك لأمور :
- أن صلاة التراويح جماعة سُنَّةٌ ثابتةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا يمكن أن يُسمِّي عمر هذه السُنَّة بدعة إلَّا مِن باب اللغة .
- إن صرف قول عمر إلى البدعة اللغوية هو الأولى لأنه لا يُعقل أن يرضى عمر بالبدعة في دين الله،
وقد سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم : (كلُّ بدعةٍ ضلالةٍ) مع ما عُرف عنه رضي الله عنه من حرص على اتِّباع السُنَّة ومحاربة البدعة.
* قال ابن رجب رحمه الله : كل بدعة ضلالة والمراد بالبدعة : ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه،
فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا، وإن كان بدعة لغة . ينظر: ((جامع العلوم والحكم)) (2/127).
* قال ابنُ كثير رحمه الله : والبدعةُ على قسمين :
تارةً تكونُ بدعةً شرعيةً كقول : ( فإن كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ)،
وتارةً تكونُ بدعةً لغويةً : كقول عمر عن جَمْعِهِ إياهم على صلاة التراويح (نعمت البدعةُ هذه . انتهى من ([تفسير ابن كثير (1/282).]).
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
... فقال بهذه المناسبة : " نعمت البدعة هذه "، فقوله :
البدعة ليس المقصود بها البدعة الشرعية التي عمم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذمَّها فيما تقدم من الأحاديث وبخاصة القاعدة : ( كلُّ بدعة ضلالة ) حاشا لعمر أن يعنيَ هذا المعنى،
قوله : " نعمت البدعة " : إنما هو بدعة لغوية وليست البدعة بدعة شرعية هنا، لما ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه ثلاث ليالي،
وأنه إنما ترك ذلك خشية أن يتوهم الصحابة من متابعة الرسول عليه السلام في كل ليلة من رمضان التجميع هذا في القيام ترك دفعًا لهذا المحذور،
ولما انتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى وانتهت أحكام الشريعة فلم يبق لأحد أن يغير أو يُبدل،
لذلك فتح الله على قلب أمير المؤمنين فأحيا هذه السنة، فباعتبار ترك الرسول عليه السلام لها واستمرار أبي بكر في كلّ حياته وعمر أيضًا في أول حياته على هذا الترك، سَمَّى هذا الإحياء بدعة أي : جديدًا باعتبار ما قبل ذلك،
لكنها ليست بدعة شرعية يشملها عموم قوله عليه السلام لأن النبي سنها بفعله كما ذكرنا، ثم بحديث أخرجه الإمام أبي داود في *سننه* من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنهما- قال:
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( مَن صلى صلاة العشاء مع الإمام ثم قام معه حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة )، لمجرد صلاته صلاة العشاء مع الجماعة والقيام معه كتب اللهُ له كأنه قام الليل كله،
ففي هذا حضٌّ من قوله عليه الصلاة والسلام بإحياء صلاة التراويح مع الإمام فلا يمكن أن يُفسَّر قول عمر : " نعمت البدعة ": بأنه يعني البدعة الشرعية، كيف وقد فعلها رسول الله وحض عليها رسول الله ؟!
فهي سنة فعلية وسنة قولية أيدها عليه السلام بهذا الحديث الصحيح. انتهى من (رحلة النور-(091)).
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
فلا يليق بعمرَ رضي الله عنه وهو مَنْ هُوَ أن يخالف كلام سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم وأن يقول عن بدعة : " نعمت البدعة " وتكون هذه البدعة هي التي أرادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " كل بدعة ضلالة "،
بل لابد أن تُنَزَّل البدعة التي قال عنها عمر : إنها " نعمت البدعة " على بدعة لا تكون داخلة تحت مراد النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " كل بدعة ضلالة "،
فعمر رضي الله عنه يشير بقوله : " نعمت البدعة هذه " إلى جمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا متفرقين، وكان أصل قيام رمضان من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في (الصحيحين) من حديث عائشة رضي الله عنها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس ثلاث ليال وتأخر عنهم في الليلة الرابعة وقال : " إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها.
فقيام الليل في رمضان جماعة من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام،
وسماها عمر رضي الله عنه - بدعة باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما ترك القيام صار الناس متفرقين يقوم الرجل لنفسه ويقوم الرجل ومعه الرجل والرجل ومعه الرجلان والرهط والنفر في المسجد .
فرأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه - برأيه السديد الصائب أن يجمع الناس على إمام واحد فكان هذا الفعل بالنسبة لتفرق الناس من قبل بدعة فهي بدعة اعتبارية إضافية وليست بدعة مطلقة إنشائية أنشأها عمر -رضي الله عنه-؛
لأن هذه السنة كانت موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلّم فهي سنة لكنها تركت منذ عهد الرسول عليه الصلاة والسلام حتى أعادها عمر- رضي الله عنه-،
وبهذا التقعيد لا يمكن أبداً أن يجد أهل البدع من قول عمر هذا منفذاً لما استحسنوه من بدعهم... انتهى باختصار من (كتاب الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع- للعثيمين).
إذن باختصار سهل:
- عزم عمر رضي الله عنه على أن يجمع الناس على إمام واحد فى صلاة التراويح، وأن تجمعهم أفضل من تفرقهم؛ لأنه أنشط لكثير من المصلين، وحتى لا يشوش بعضهم على بعض.
- استنبط هذا الرأي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وتقريره لمن صلى معه بعض الليالي في أحد الرمضانات، كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها :
أنه صلى الله عليه وسلم خرج فصلى بالناس ثلاث ليال، ولم يخرج في الليلة الرابعة، فلما صلى بهم الفجر قال لهم : « إنه لم يخف علي مكانكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها »،
فجمعهم على أبي بن كعب رضي الله عنه، فكان إمامهم في الصلاة؛ لأنه من أحفظ الناس وأقرئهم للقرآن.
- لما خرج في ليلة أخرى ووجدهم يصلون جماعة واحدة خلف أبي بن كعب، قال : « نعم البدعة هي »؛ لأنها فعل من أفعال الخير، وتحريض على الجماعة المندوب إليها،
وإن كانت لم تكن في عهد أبي بكر رضي الله عنه فقد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما قطعها إشفاقا من أن تفرض على أمته.
- وفي وصفها بـ « نعم » إشارة إلى أن أصلها سنة، وليست ببدعة شرعية حتى تكون ضلالة، بل بدعة لغوية.
والله اعلم
اقرأ أيضا..
تعليقات
إرسال تعليق