إذا تعارض حفظ الدين مع حفظ النفس ،
فحفظ الدين يقدم على حفظ النفس فهو المقصود الأعظم، ولهذا شرع الجهاد في سبيل الله -وهو لحفظ الدين- مع أنه مظنة تلف النفوس والأموال، فبقاء الدين هو ضمان بقاء الأمة.
إلا أن هناك بعض النقاط :
النقطة الأولى: لا يصح أن نقول بأن حفظ الدين مقدم على النفس ، هكذا بإطلاق على سبيل الجزم ،
وذلك لإتفاق العلماء على جواز النطق بكلمة الكفر حال الإكراه صيانة للنفس وحفظها من الأذى، قال تعالى : إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ. [النحل: 106] .
ومن أمثلة ذلك أيضا : جواز أكل الميتة وشرب الخمر، عند الاضطرار ، لأجل حفظ النفس ، وأيضا ترك الجماعة إذا خاف على نفسه من عدو أو سبع ونحوه.
- قال ابن كثير رحمه الله : فهو استثناء ممن كفر بلسانه، ووافق المشركين بلفظه مكرها ؛ لما ناله من ضرب وأذى، وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/587).
- قال ابن بطال رحمه الله :
أجمع العلماء على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته، ولا يحكم عليه بحكم الكفر. يُنظر: ((شرح صحيح البخاري)) (8/ 291).
- وقال الشيخ محمد بن عمر بازمول حفظه الله :
لفت نظري قول بعضهم جازماً : إن حفظ الدين مقدم على النفس؛
وهذا الاطلاق لا يصح ؛ لأن المسألة من مسائل الخلاف بين العلماء، وطويلة الذيول، ولأن الله جل وعلا يقول : { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ }. [النحل: 106].
فأباح قول الكفر لمن أكره ، وقلبه مطمئن بالإيمان ، ليحافظ على نفسه ويمنع عنها الأذى.
ولأن هذا الاطلاق يتسور إليه من يقول : بتعريض الناس في الثورات للقتل والدمار بدعوى الحفظ على الدين زعموا!. انتهى من (صفحته الرسمية على الفيس بوك بتاريخ(2017/10/8)).
* وأما حديث : (لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ)." صحيح ابن ماجه".
فهذا الحديث ليس فيه المنع من الأخذ بالرخصة ، بل فيه بيان الأفضل عند الإكراه. ينظر: (" مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ( 2 / 283 )).
النقطة الثانية: هذا وإن جاز قول الكفر أو فعله صيانة للنفس من الأذى بسبب الإكراه،
إلا أن الصبر والتحمل والثبات على الإيمان مع الإكراه ولو كان بالقتل : أفضل من الإقدام على الكفر ، حتى لو قتل كان مأجوراً.
* فالأفضل والأولى : أن يثبت المسلم على دينه ، ولو أفضى إلى قتله ، ويتأكد الصبر في حق من يقتدي به عامة الناس ويتبعونه في تصرفاته وأقواله،
فلو تلفظ مثل هذا بالكفر رخصة مع احتمال أن الكثير من الناس لا يعرفون حقيقة الأمر، وهو أن ما أظهره خلاف ما يبطنه،
فيؤدي هذا التصرف إلى فتنتهم ، بل قد يصل الأمر إلى التحريم في حقه؛ بسبب ما يسببه من فساد .
- فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها،
فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه ). أخرجه البخاري (6943) مطولًا.
- قال القرطبي رحمه الله : فوصفه صلى الله عليه وسلم هذا عن الأمم السالفة على جهة المدح لهم، والصبر على المكروه في ذات الله،
وأنهم لم يكفروا في الظاهر، وتبطنوا الإيمان ؛ ليدفعوا العذاب عن أنفسهم، وهذه حجة من آثر الضرب والقتل والهوان على الرخصة. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/188).
* ولما قيل لأحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن : قد أجاب أصحابك، وقد أعذرت فيما بينك وبين الله عز وجل، وقد أجاب القوم وبقيت أنت - يعني : بقيت في الحبس والضيق-،
أجاب أحمد : ( يا عم، إذا أجاب العالم تقية، والجاهل بجهل، فمتى يتبين الحق؟! ). يُنظر: ((المحنة على الإمام أحمد)) لعبد الغني المقدسي (ص: 50).
- قال ابن كثير – رحمه الله - :
ويجوز له أن يستقتل ، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدَّة الحر،
ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : " أحَد ، أحَد " ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلته ، رضي الله عنه وأرضاه. انتهى من " تفسير ابن كثير " ( 4 / 606 ) .
- قال الشيخ العثيمين رحمه الله :
... لو خاف على نفسه هو أن يقتل فله أن يقول ذلك متأولًا ؛ لقوله : ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ﴾. [النحل ١٠٦]،
على أنه - أي المسألة الأخيرة - ما يجوز فيما إذا كان فيه نصرة للإسلام ، فإنه إذا كان في ثبوته نُصرة للإسلام وفي موافقته ظاهرًا خذلان للإسلام حرم عليه ذلك؛
لأنه حينئذٍ يدخل في باب الجهاد ، مثلما حصل للإمام أحمد رحمه الله ،
.. الإمام أحمد ما أجابهم ولا بالتأويل ؛ لأن الناس ينظرون ماذا يقول الإمام أحمد،
فلو قال : إن القرآن مخلوق ولو بالتأويل،
ماذا يقول العامة ؟
يقولون : مخلوق، وتنطلي هذه البدعة على عموم المسلمين ،
فرأى رحمه الله أنه لا يجوز أن يتأول في هذه الحال لما في ذلك من خذلان الحق وإثبات الباطل. انتهى من (تفسير القرآن الكريم- سورة لقمان- لابن عثيمين).
* إلا أن المسلم إذا علم أن إقدامه على الموت لا يُحقق مصلحة المسلمين مع هلاكه،
فلا يُستحسن إقدامه على التهلكة ، فينبغي أن تقدم هنا مصلحة حفظ النفس، قال العز بن عبدالسلام :
التَّولِّي يوم الزَّحف مفسدة كبيرة ، لكنه واجبٌ إذا عَلِمَ أنه يُقتل من غير نكايةٍ في الكفار؛
لأنَّ التعزير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحةِ إعزاز الدِّين بالنكاية في المشركين،
فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام ؛ لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام.
وقد صار الثبوت ها هنا مفسدة محضة ليس في طيِّها مصلحة. انتهى من [قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (1/ 95)].
* إذا أعجبك المنشور فشاركه غيرك ليستفيد ولك الأجر إن شاء الله.
اقرأ أيضا : ماذا يفعل المسلم فى مسائل الخلاف الفقهي؟
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق