قاعدة : اليقين لا يزول بالشك.
معناها : أن الأمر المتيقن بثبوته لا يرتفع بمجرد طروء الشك ولا يحكم بزواله بمجرد الشك،
لأن الأمر اليقيني لا يعقل أن يزيله ما هو أضعف منه ولا يعارضه إلا إذا كان مثله أو أقوى.
مستند هذه القاعدة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم -: " إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخْرُجَنَّ من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ". رواه مسلم.
فالمتوضئ إذا شك في انتقاض وضوئه فهو على وضوئه السابق المتيقن، وتصح به صلاته حتى يتحقق ما ينقضه، ولا عبرة بذلك الشك.
2- وقوله صلى الله عليه وسلم -: " إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى أثلاثاً أو أربعاً؛ فليطرح الشك، وليَبْن على ما استيقن ". أخرجه مسلم.
إن هذه القاعدة من أمهات القواعد التي عليها مدار الأحكام الفقهية، وتدخل في جميع أبواب الفقه،
ويتفرع عنها أو يندرج تحتها عدة قواعد فقهية،
ونذكر التطبيقات المباشرة لها:
1- المفقود : وهو الذي غاب عن بلده، ولا يعرف خبره أنه حي أو ميت، تجري عليه أحكام الأحياء فيما كان له، فلا يُورث، ولا تبين زوجته؛
لأن حياته حين تغيبه متيقنة، وموته قبل المدة المضروبة شرعاً، بموت جميع أقرانه، مشكوك، فيدخل تحت قاعدة "اليقين لا يزول بالشك".
2 - من تيقن الطهارة، وشك في الحدث : فهو متطهر، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو محدث.
3 - العقد : إذا ثبت عقد بين اثنين ووقع الشك في فسخه فالعقد قائم.
4 - الدَّيْن : إذا تحقق الدين على شخص ثم مات، وشككنا في وفائه، فالدين باق.
5 - النفقة : تعاشر الزوجان مدة مديدة ثم ادعت الزوجة عدم الكسوة والنفقة فالقول قولها؛ لأن الأصل بقاؤها في ذمته وهو يقين، وعدم أدائها.
6 - الطهر : ادعت المطلقة الرجعية امتداد الطهر، وعدم انقضاء العدة، صدقت، ولها النفقة؛ لأن الأصل المتيقن بقاؤها.
7 - الملك : إذا كان الشخص يعلم أن العين الفلانية كانت ملك زيد، ثم نازعه فيها أحد، فإنه يجوز أن يشهد لزيد بأن العين ملكه، وإن كان يحتمل أنه باعها لمن ينازعه.
8 - الإبراء : لو ادعى زيد على عمرو ألفاً مثلاً، فأقام عمرو بينة على الأداء أو الإبراء، فأقام زيد أيضاً بينة على أن له عليه ألفاً،
فإن بينة زيد هذه لا تقبل من غير أن يبرهن أن الألف المشهود عليها هي غير تلك الألف التي ادعى عمرو أداءها أو الإبراء عنها،
لأن فراغ ذمة عمرو بعد البينة التي أقامها أصبح يقيناً، والألف التي أقام زيد عليها البينة مطلقة،
فيحتمل أن تكون هي المرادة أو المبروء عنها، فلا تشغل ذمة عمرو بمجرد الشك، بعد التيقن بفراغها،
ولأن الموجب والمسقط إذا اجتمعا يعتبر المسقط متأخراً، إذ السقوط بعد الوجوب. (الزرقا ص 83) .
9 - العيب : لو اشترى أحد شيئاً، ثم ادعى أن به عيباً، وأراد رده، واختلف التجار أهل الخبرة، فقال بعضهم : هو عيب، وقال بعضهم : ليس بعيب،
فليس للمشتري الردُّ؛ لأن السلامة هي الأصل المتيقن، فلا يثبت العيب بالشك، وكذا لو وجد العيب عند البائع ثم عند المشتري، لكن اشتبه فلم يُدر أنه عين الأول أو غيره، فإنه لا يُردُّ. (الزرقا ص 83) .
10 - من شك هل طلق امرأته، أو لا : فلا يقع الطلاق؛ لأن الأصل أنه لم يفعله. ( القرافي 2/ 223 ) .
- قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. وإذا شك في عدد الطلاق أخذ باليقين وهو الأقل.. (ابن عبد الهادي ص 109) .
11 - الطلاق : إذا تيقن الزوجية وشك في الطلاق، أو تيقن الطلاق وشك في الحِل، بنى على اليقين.
12 - النجاسة : إذا استيقن في ثوب نجاسة، بحيث لا يدري مكان النجاسة يغسل الثوب كله، لأن الشك لا يرفع المتيقن قبله. (ابن نجيم ص هـ 6، السدلان ص 103).
13 - لو شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً، وهو منفرد : بنى على اليقين، إذ الأصل بقاء الصلاة في ذمته.
- وكذلك إذا شك هل طاف ستاً أو سبعاً، أو رمى ست حصيات أو سبعاً : بنى على اليقين.
- وكذلك إذا شك في عدد الرضعات : بنى على اليقين.
- وكذلك زوجة الأسير لا تنكح : حتى تعلم يقين وفاته ما دام على الإسلام،
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى : " أجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح حتى تعلم يقين وفاته ما دام على الإسلام ". ينظر: (السدلان ص 105 عن الإجماع ص 61) .
14 - لو شك الصائم في غروب الشمس : لم يجز له الفطر، اعتباراً بالأصل المتيقن، وهو بقاء النهار،
- ولو شك في طلوع الفجر : جاز له الأكل؛ لأن الأصل بقاء الليل. ينظر: ( ابن نجيم ص 63، السيوطي ص 52) .
15 - لو شك في امرأة هل تزوجها، أم لا؟ : لم يكن له وطؤها، استصحاباً لحكم التحريم إلى أن يتحقق تزوجه بها اتفاقاً.
16 - لو شك : هل طلق واحدة أو ثلاثاً؟ : الأصل الحل .
17 - إذا شك في خلق الجنين وقت موت مورّثه : بنى على اليقين، وهو العدم. (ابن تيمية) .
18 - لو حلف على شيء أنه كذا، فلم يتبين له كيف هو؟ : لم يحنث بمجرد الشك.. (ابن تيمية) .
19 - الأصل في العقود الحل والإباحة : ما لم يرد عن الشارع نص في حرمة شيء منها، أو لم تشتمل على شيء مما حرمه الشارع،
ولا يحل لأحد أن يحرم منها شيئاً بالظن، وبلا دليل من كتاب الله وسنة نبيه ..(ابن تيمية) .
20 - كل احتمال لا يستند إلى أمارة شرعية لم يلتفت إليه : كالشبهة التي تعرض للمسلم في بيعه وشرائه، والاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها، فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.. (ابن تيمية ). انتهى.
** هناك بعض المسائل لا يعتبر فيها الظن أوغلبة الظن ولابد فيها من اليقين، فمن ذلك:
1- لو عُقد لشخص عقد نكاح على أختين بعقدين متعاقبين : فالأول صحيح والمتأخر باطل، فلو نسي الأول منهما فإنه يفرق بينه وبين الأختين ويبطل العقدان،
لأنه لا يجوز ترجيح الأولية لأحدهما دون الآخر بغلبة الظن ولا بدَّ من العلم واليقين ، لأن التحري لا يجري في مسائل الفروج ولأن الأصل في الأبضاع التحريم .
2- لو طلق رجل زوجة معينة من نسائه ثم نسيها : فلا يجوز له أن يطأ واحدة منهن إلا بعد العلم بالمطلقة ولا يكفي التحري وتغليب الظن،
ولا يستطيع الحاكم أن يخلي بينه وبين نسائه حتى يتبين، لأن التحري إنما يجوز فيما يباح عند الضرورة والفروج لا تباح عند الضرورة.
3- لم يعتبر الفقهاء ظهور علامات الحبل دليلاً جازماً على وجود الحمل، ولم يرتبوا عليه الأحكام الجازمة،
مع أنه يغلب على الظن أن المرأة حامل، ولذلك لا تصح الوصية للحمل أو الوقف عليه إلا إذا ولد لأقل من ستة أشهر من وقت الوصية أو الوقف،
حتى يتيقن وجوده وقتها فالولادة لأقل من ستة أشهر يقين على وجوده، ويأخذ حكم هذه الولادة لو كان الأب ميتاً قبل الوصية له والوقف.
فيصحان ولو ولدت بعد مدة أطول، كما تشترط الولادة لأقل من ستة أشهر أو موت الأب لثبوت الشفعة له في البيع الذي يجري، وتشرع فيه الشفعة .
لكن الفقهاء اعتبروا ظهور علامات الحبل أمارة ترجح قول المرأة أنها ولدت إذا أنكر الزوج الولادة،
ووقفوا بعلامات الحبل الميراث للحمل. انتهى من (القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة).
** وإليك القواعد المتفرعة عن قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك).
1- القاعدة الفرعية الأولى : « الأصل بقاء ما كان على ما كان »، مثل :
- من أراد الصوم وأكل شاكًا في طلوع الفجر، ثم لم يتبين له أنه طلع، فصيامه صحيح؛ لأن الأصل بقاء الليل.
- من شك هل توضأ بعد الحدث؟ فهو محدث؛ لأن الأصل بقاء الحدث.
2- القاعدة الفرعية الثانية : « الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته »، مثل :
- من رأى في سراويله منيًا ولا يذكر احتلامًا، وجب عليه إعادة الصلوات من آخر نومة نامها فقط ، إضافة للاحتلام الحادث إلى أقرب أوقاته؛ لأن الأصل عدمه قبل ذلك الوقت.
- من رأى في يده شيئًا يمنع وصول الماء إلى البشرة، مثل : الصبغ، أو الطامس (المزيل) أو الصَّمغ، وجب عليه الوضوء بعد إزالته،
وإعادة الصلوات من أقرب وقت استعمل فيه هذه الموانع؛ حيث يقدر وجود هذا المانع في أقرب زمن ممكن؛ لأن الأصل عدمه قبل ذلك الزمن.
3- القاعدة الفرعية الثالثة : « الأصل في الأشياء الطهارة »، مثل :
- من ادعى نجاسة كل حيوان غير مأكول إذا كان أكبر من الهرة : فإنه يُطالب بالدليل الذي يصح أن ينقلنا عن الأصل الذي هو طهارة جميع الحيوانات إلا ما دل الدليل على نجاسته منها،
فإن ذكر دليلًا يصح التمسك به في تنجيس ما ذكر، وإلا تمسكنا بأصل الطهارة.
- من شك في طهارة بقعة يُصلى عليها : فالأصل فيها الطهارة، حتى نعلم أنها قد انتقلت عن هذا الأصل إلى النجاسة، وذلك بالعلم بوقوع النجاسة على هذه البقعة.
4- القاعدة الفرعية الرابعة : « الأصل براءة الذمة »، مثل :
- صلاة الوتر غير واجبة على المكلف : لعدم وجود دليل قوي على وجوبها، والأصل براءة الذمة من وجوبها.
- من ادعى على شخص دينًا وليس عنده بينة به : فلا يلزم المدعى عليه بالدين؛ لأن الأصل براءة ذمته. انتهى.
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق