القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية؟


قراءة الفاتحة ركن للإمام والمنفرد وتجب قراءة الفاتحة على المأموم في الركعات السرية فقط ،

وكذلك إذا لم يسمع قراءة الإمام في الركعات الجهرية لبُعْد المكان أو لصَمَمٍ فيجب عليه قراءة الفاتحة عملًا بالأصل ،

ولا تجب عليه قراءتها في الركعات الجهرية إذا كان يسمع قراءة الإمام لقوله : { وإذا قرأ فأنصتوا } فدل على أن المأموم مطالب بالإنصات متى شرع إمامه في القراءة .

لأن المأموم مخاطب بالإستماع إجماعا، فلا يجب عليه ما ينافيه؛ إذ لا قدرة له على الجمع بينهما، 

فصار نظير الخطبة ، فإنه لما أمر بالاستماع ، لا يجب على كل واحد أن يخطب لنفسه، بل لا يجوز، فكذا هذا.

وهو قول جُمهور العُلماء من المالكية والحنابلة في المشهور والقول القديم للشافعي وبه قال سعيد بن المُسيب وابن شهاب وابن المبارك وإسحاق والزُّهْري والثوري، 

واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وذكر أنه المُتواتر عن الصحابة والتابعين،وهو قول الجمهور من السلف والخلف وبه قال العلامة الألبانى ورجحه الشيخ عبدالرحمن السعدي، والشيخ ابن جبرين، والشيخ عبدالله البسام، والشيخ عبدالله بن عقيل، والشيخ صالح الفوزان.

وإليك الأدلة :

الدليل الأول : 

قوله تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ).[الأعراف: 204].

 وجه الإستدلال في هذه الآية على النحو التالي:

1- أجمع أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في الصلاة.

قال الإمام أحمد رحمه الله :

أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة . انتهى من ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/295).

قال الإمام الطبري رحمه الله :

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال : أمروا باستماع القرآن في الصلاة إذا قرأ الإمام، وكان من خلفه ممن يأتمّ به يسمعه, وفي الخطبة.

وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب, لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال : " إذا قرأ الإمام فأنصتوا "،  

وإجماع الجميع على أن [على] من سمع خطبة الإمام ممن عليه الجمعة, الاستماعَ والإنصاتَ لها,  مع تتابع الأخبار بالأمر بذلك, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, 

وأنه لا وقت يجب على أحد استماع القرآن والإنصات لسامعه، من قارئه، إلا في هاتين الحالتين، على اختلاف في إحداهما, وهي حالة أن يكون خلف إمام مؤتم به

وقد صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا من قوله : " إذا قرأ الإمام فانصتوا " فالإنصات خلفه لقراءته واجب على من كان به مؤتمًّا سامعًا قراءته، بعموم ظاهر القرآن والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى من تفسيره.

وقال القُرطبي رحمه الله عند تفسير الآية :

قال النقاش : أجمع أهل التفسير أن هذا الاستماع في الصلاة المكتوبة وغير المكتوبة .اهـ.

وقال ابن تيمية رحمه الله :

وقد استفاض عن السلف أنها نزلت في القراءة في الصلاة، وقال بعضهم في الخطبة ، وذكر أحمد بن حنبل الإجماع على أنها نزلت في ذلك . انتهى من (الفتاوي الكبرى (1/5))

وقال أيضا رحمه الله :

والثالث - وهو قولُ أكثر السَّلف -: أنَّه إذا سَمِعَ قراءةَ الإمامِ أَنْصَت، ولم يقرأ؛ فإنَّ استماعَه لقراءة الإمامِ خَيْرٌ من قراءته، 

وإذا لم يسمَعْ قراءته قرأ لنَفْسِه، فإنَّ قراءتَه خيرٌ من سكوتِه؛ فالاستماعُ لقراءة الإمام أفضلُ من القراءة، والقراءةُ أفضل من السكوت . انتهى من ((الفتاوى الكبرى)) (2/286).

2- أن هذه الآية تدل بعُمومها على الإنصات والاستماع للقرآن في الصلاة وفي خارج الصلاة والإنصات في الصلاة أظهر؛ لأنه مقام الاستماع.

وبناءً عليه تسقط عنه قراءة الفاتحة في الركعات الجهرية لأنه مشغول بالاستماع لقراءة الإمام؛ 

لأن الأمر صدر بـ ( إذا )، وإذا : من أسماء الشرط، وأسماء الشرط من ألفاظ العُموم، والعام يدخل فيه جميع أفراده، 

ولأنه لم يقل أحد من المُسلمين أنه يجب الاستماع خارج الصلاة، ولا يجب في الصلاة، ولأن استماع المُستمع إلى قراءة الإمام الذي يأتم به ويجب عليه مُتابعته أولى من استماعه إلى قراءة من يقرأ خارج الصلاة.

فالاستماع في الآية إما على سبيل الخُصوص وإما على سبيل العُموم وعلى التقديرين فالآية دالة على أمر المأموم بالإنصات لقراءة الإمام سواء كان أمر إيجاب أو استحباب.

3- الآية أمرت بالإنصات إذا قُرئ القُرآن والفاتحة أُمُّ القُرآن، 

وهي التي لا بد من قراءتها في كل صلاة والفاتحة أفضل سُور القرآن وهي التي لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها، 

فيمتنع أن يكون المُراد بالآية الاستماع إلى غيرها دونها مع إطلاق لفظ الآية وعُمومها مع أن قراءتها أكثر وأشهر وهي أفضل من غيرها ،

فقوله : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ )يتناولها كما يتناول غيرها، وشُموله لها أظهر لفظًا ومعنى.

4- أن العادل عن استماعها إلى قراءتها إنما يعدل لأن قراءتها عنده أفضل من الاستماع وهذا غلط يخالف النص والإجماع، 

فإن الكتاب والسُّنة أمرت المُؤتم بالاستماع دون القراءة والأُمة مُتَّفقة على أن استماعه لما زاد على الفاتحة أفضل من قراءته لما زاد عليها ،

فلو كانت القراءة لما يقرؤه الإمام أفضل من الاستماع لقراءته لكانت قراءة المأموم أفضل من قراءته لما زاد على الفاتحة وهذا لم يقل به أحد.

5- أن المصلحة الحاصلة له بالقراءة تحصل بالاستماع لما هو أفضل منها، 

بدليل استماعه لما زاد على الفاتحة فلولا أنه يحصل له بالاستماع ما هو أفضل من القراءة، لكان الأولى أن يفعل أفضل الأمرين، وهو القراءة،

فلما دلَّ الكتاب والسُّنة والإجماع على أن الاستماع أفضل له من القراءة عُلم أن المُستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ وهذا المعنى موجود في الفاتحة وغيرها، 

فالمُستمع لقراءة الإمام يحصل له أفضل مما يحصل بالقراءة، 

وحينئذٍ فلا يجوز أن يُؤمر بالأدنى، ويُنهى عن الأعلى، وثبت أنه في هذه الحال قراءة الإمام له قراءة، كما قال ذلك جماهير السلف والخلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

6- أن النبي ﷺ لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون ولا نقل هذا أحد عنه،

 بل ثبت عنه في الصحيح سكوته بعد التكبير للاستفتاح ،

وفي السنن : أنه كان له سكتتان : سكتة في أول القراءة وسكتة بعد الفراغ من القراءة وهي سكتة لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة ،

وقد روي أن هذه السكتة كانت بعد الفاتحة ولم يقل أحد إنه كان له ثلاث سكتات ولا أربع سكتات ،

فمن نقل عن النبي  ثلاث سكتات أو أربع  فقد قال قولا لم ينقله عن أحد من المسلمين .

والسكتة التي عقب قوله : { ولا الضالين } من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي ومثل هذا لا يسمى سكوتا ولهذا لم يقل أحد من العلماء إنه يقرأ في مثل هذا.

وبذلك يَتَبَّين أن الاستماع إلى قراءة الإمام أمرٌ دلَّ عليه القرآن دلالةً قاطعةً لأن هذا من الأُمور الظاهرة التي يحتاج إليها جميع الأُمَّة،

فكان بيانها في القرآن مما يحصل به مقصود البيان، وجاءت السُنَّة مُوافقةً للقُرآن.

وقد نُوقِش هذا الاستدلال:

 بأن الآية لم يُتَّفق على أنها نزلت في الصلاة بل إن سبب نزولها مختلف فيه، فقيل في الصلاة وقيل في الخطبة وقيل في الصلاة والخطبة معًا، وقيل غير ذلك. 

وأجيب عن ذلك :

- القول بأنها نزلت فى الخطبة قول ضعيف ; لأن القرآن فيها قليل ، والإنصات يجب في جميعها ; قاله ابن العربي . والآية مكية ، ولم يكن بمكة خطبة ولا جمعة .

حتى وإن حصل الخلاف في سبب نُزول الآية لكن جُمهور العُلماء يقولون : إنها نزلت في الصلاة وقد سبق بيان ذلك.

قال الإمام الألباني رحمه الله :

أما الاحتجاج بالحديث السابق ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ). فهو احتجاج بالعموم وهنا الدقة في المسألة ولابد من التعرض لها في الحقيقة ،

الآية بعمومها تشمل الصلاة وتشمل الفاتحة لأنها قرآن بل هي أم القرآن الحديث بعمومه يشمل كل صلاة ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ).

 فأي العمومين يسلط على الآخر ويخصصه ، هنا يقول بعض العلماء العام الذي بقي على عمومه وشموله ولم يدخله تخصيص ما أقوى في عمومه وشموله من العام الذي دخله تخصيص وحينذاك يسلط العام الأعم على العام المخصص ، 

وقد ذكرنا في حديثنا السابق بأن حديث
 ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ). قد خصص واستثني منه بعض الفروع ، 

ذكرنا من ذلك : المسبوق الذي أدرك الإمام راكعا فقلنا إنه يعتبر قد أدرك الركعة مع أنه ما قرأ الفاتحة ، فماذا فعل العلماء بحديث ( لا صلاة ).

 قالوا لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا لمن أدرك الإمام راكعا عام بخصوص أي ضعف عمومه ، 

كذلك مثلا : حديث الذي أسلم حديثا لا يحسن قراءة الفاتحة لكن يسبح كما ذكرنا أيضا هذا بشيء من التفصيل فتكون صلاته صحيحة أيضا على الرغم من أنه لم يقرأ بفاتحة الكتاب فماذا يقال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا الأعجمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة ".

 أما الآية فلم يدخلها أي تخصيص إطلاقا حينئذ يستثنى من الحديث من كان يسمع التلاوة أعمالا للآية وتخصيصا للحديث ،

ومن العجيب : أن هذا المذهب قد وضح للفريق الأول الذي قال بوجوب القراءة حتى في الجهرية وتبين له أنه ليس من المقبول أن يقرأ المقتدي وهو يسمع قراءة الإمام ، 

ولذلك وجدوا لأنفسهم أو أوجدوا لأنفسهم متنفسا ومخرجا  
فقالوا يسكت الإمام ليتفرغ لقراءة المقتدي ، فهذا في الحقيقة كما يقال " كان تحت المطر وصار تحت الميزراب " لماذا ؟ 

هو استعمل عقله وحكمته وجد غير مهضوم أن يقرأ المقتدي وهو يسمع قراءة الإمام فماذا فعلوا ؟ قالوا للإمام انقلب مقتديا وقلد المقتدي أنصت ليقرأ المقتدي هذا قلب لوظيفة الإمام ، 

ثم هذه السكتة هي من عجائب ما يصدر من بعض الأئمة هم يسكتون ولا سكوت في الشرع في الصلاة،

 لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري ومسلم ( كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان يسكتهما سكتة عند استفتاح الصلاة وسكتة عند الفراغ من قراءة القرآن ).

 ولم يكن هناك سكتة طويلة بين السكتتين إلا السكتة الأولى ، ولذلك جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال : 

( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنية فقلنا يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبيرة والقراءة ماذا تقول ؟ قال أقول " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب .... ) إلى آخر الدعاء ، 

لو كانت هناك سكتة أخرى طويلة تتسع لقراءة الفاتحة لسألوا الرسول عليه السلام كما سألوه في السكتة الأولى ، قالوا له نراك تسكت بين تكبيرة الإحرام وبين القراءة ماذا تقول ؟ أجابهم ، 

فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسكت سكتة أخرى طويلة بمقدار تلك وأيضا تسكت قبل بعد الفاتحة فلماذا ؟ فيقول مثلا ليقرأ المقتدي ، لم يكن شيء من هذا إطلاقا ، 

فهذا الأحداث يكفي لإقناع جماهير الناس أن المذهب الصواب هو مذهب الإمام مالك والإمام أحمد الذين قالوا أنصت في الجهرية واقرأ في السرية ، هذا هو الصواب الذي تجتمع به الأدلة تماما

ليس عندهم حجة إلا حديث ( لا صلاة ) وقد عرفنا أنه دخله تخصيص من عدة نواحي،
 
وهنا أيضا يقال ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) إذا كان لا يسمع قراءة الإمام ، 

أما إذا سمع قراءة الإمام ( فقراءة الإمام له قراءة ) وهذا مقبول بالنظر السليم أن الإنسان لما بسمع من غيره كأنه قرأ لنفسه ،

بل قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه مرة لابن مسعود وأخرى لأبي بن كعب قال : ( اقرأ علي القرآن ، قال قرأ عليك القرآن وعليك أنزل ؟ قال اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري ).

فإذا هو المقتدي الذي يسمع القرآن من الإمام ، فهذا قد يكون أنفع له من أن ينشغل هو بقراءة القرآن بنفسه ، وذاك الذي يرفع صوته يسمع غيره، 

فهذا هو الصواب إن شاء الله أن المقتدي إذا كان يسمع قراءة الإمام فلا يقرأ شيئا من القرآن ولا الفاتحة ، 

أما إذا كانت الصلاة سرية أو كان بعيد مثلا عن الإمام لا تبلغه قراءة الإمام ففي هذه الحالة لابد أن يقرأ.

 ونسأل الله عزوجل أن يهدينا جميعا لما اختلف فيه من الحق بإذنه سبحانه وتعالى . انتهى من (سلسلة الهدى والنور-(075)).

الدليل الثاني :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما جُعل الإمام ليُؤتَم به، فإذا كبَّر فكبِّروا وإذا قرأ فأنصتوا ). (صحيح ابن ماجه)

وجه الدلالة : قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا قرأ فأنصتوا ) وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم للمأموم أن ينصت لقراءة الإمام ،

وهذا يدل على سُقوط القراءة في حقِّه، وأنه لا يجب عليه أن يقرأ وراء الإمام؛ لأنها لو كانت واجبة لأمرهم بالقراءة معه .

ولأن الإنصات إلى قراءة القارئ من تمام الائتمام به ، فإن من قرأ على قوم لا يستمعون لقراءته لم يكونوا مُؤتمين به. 

ونُوقش هذا الحديث من وجهين:

الوجه الأول : أن هذه الرواية ضعيفة لأنها من رواية محمد بن عجلان وهو مع صدقه وأمانته إلا أنه سيء الحفظ.

الوجه الثاني : أن محمد بن عجلان قد تفرَّد بزيادة : ((وإذا قرأ فأنصتوا)) دون الطرق الأُخرى الصحيحة، فتعيَّن أنها من تخاليطه.

وأجيب عن هذه الوجوه :

بأن هذه الزيادة صحيحة فقد صحَّحها الإمام مسلم ولكنه لم يخرجها في صحيحه لأنه لم يُجمع على هذه الزيادة ولكنه ذكر أنها عنده صحيحة.

قيل للإمام مسلم رحمه الله :

حديث أبي هريرة صحيح - يعني : (( وإذا قرأ فأنصتوا )) - قال : هو عندي صحيح ، فقيل له : لم لا تضعه ها هنا؟ - يعني : في كتابه - 

فقال : ليس كل شيء عندي صحيح، وضعته ها هنا إنما وضعت ها هنا ما أجمعوا عليه . انتهى.

 وهذا الحديث ذكره مسلم في صحيحه وصححه، قال : هو عندي حديث صحيح، وأخرجه أبو داود ، و ابن ماجه ، وأخرجه أيضاً النسائي يعني : له شاهد عند النسائي عن أبي هريرة ، 

وقد صححه مع مسلم كما أسلفت أحمد و ابن خزيمة .. وغيرهم من أهل العلم، ( وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا دليلاً على عدم القراءة في الصلاة الجهرية، لكن في السرية ما فيها قراءة للإمام ينصت لها.

الدليل الثالث :

عن أبي موسى رضي الله عنه : قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيَّن لنا سُنتنا وعلَّمَنا صلاتنا، فقال : (( إذا صليتم فأقيموا الصلاة، ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قرأ فأنصتوا )). رواه مُسلم ورواه البيهقي والداقطني وصحَّحه الشيخ الألباني رحمه الله.

وجه الدلالة في هذا الحديث كالحديث الذي قبله. 

ونُوقش هذا الحديث بعدة وجوه:

الوجه الأول : أن هذا اللفظ : (( وإذا قرأ فأنصتوا )) قد ضعَّفه بعض المُحدثين؛ كالبُخاري وأبي داود وأبي حاتم الرازي ويحيى بن معين والدارقطني وأبي علي النيسابوري.

وأجيب عن ذلك :

أنه مع تضعيف أهل العلم لهذا الحديث،فإنه قد صحَّحه أيضًا جمعٌ من أهل العلم؛ كالإمام مسلم والإمام أحمد.

 وهذا الحديث ذكره مسلم في صحيحه وصححه، قال : هو عندي حديث صحيح، وأخرجه أبو داود ، و ابن ماجه ، وأخرجه أيضاً النسائي يعني: له شاهد عند النسائي عن أبي هريرة ، 

وقد صححه مع مسلم كما أسلفت أحمد و ابن خزيمة .. وغيرهم من أهل العلم، ( وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذا دليلاً على عدم القراءة في الصلاة الجهرية، لكن في السرية ما فيها قراءة للإمام ينصت لها.

الوجه الثاني : أن هذا اللفظ غير محفوظ توهم فيه سليمان التيمي.

وأجيب عنه :

لم يتفرد سليمان التيمي في زيادة هذا اللفظ بل تابعه عليه عمر بن عامر سعيد بن أبي عروبة.

 قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (18|20) بعد ذكر الخلاف بين البخاري ومسلم : 

وقد يكون الصواب مع مسلم. وهذا أكثر مثل قوله في حديث أبي موسى : " إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا " فإن هذه الزيادة صححها مسلم وقبله أحمد بن حنبل وغيره وضعفها البخاري.

وهذه الزيادة مطابقة للقرآن فلو لم يرد بها حديث صحيح لوجب العمل بالقرآن فإن في قوله : { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } أجمع الناس على أنها نزلت في الصلاة، وأن القراءة في الصلاة مرادة من هذا النص (وقد سبقه أحمد بنقل هذا الإجماع).

ولهذا كان أعدل الأقوال في القراءة خلف الإمام أن المأموم إذا سمع قراءة الإمام يستمع لها وينصت لا يقرأ بالفاتحة ولا غيرها. وإذا لم يسمع قراءته بها يقرأ الفاتحة وما زاد. 

وهذا قول جمهور السلف والخلف. وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وجمهور أصحابه. وهو أحد قولي الشافعي. 

واختاره طائفة من محققي أصحابه. وهو قول محمد بن الحسن وغيره من أصحاب أبي حنيفة. 

وأما قول طائفة من أهل العلم كأبي حنيفة وأبي يوسف: أنه لا يقرأ خلف الإمام لا بالفاتحة ولا غيرها لا في السر ولا في الجهر، 

فهذا يقابله قول من أوجب قراءة الفاتحة ولو كان يسمع قراءة الإمام كالقول الآخر للشافعي وهو الجديد. وهو قول البخاري وابن حزم وغيرهما.

 وفيها قول ثالث : أنه يستحب القراءة بالفاتحة إذا سمع قراءة الإمام وهذا مروي عن الليث والأوزاعي وهو اختيار جدي أبي البركات. 

ولكن أظهر الأقوال قول الجمهور لأن الكتاب والسنة يدلان على وجوب الإنصات على المأموم إذا سمع قراءة الإمام. 

وقد تنازعوا فيما إذا قرأ المأموم وهو يسمع قراءة الإمام : هل تبطل صلاته؟ على قولين، وقد ذكرهما أبو عبد الله بن حامد على وجهين في مذهب أحمد. 

وقد أجمعوا على أنه فيما زاد على الفاتحة كونه مستمعا لقراءة إمامه، خير من أن يقرأ معه.

فعُلِمَ أن المستمع يحصل له أفضل مما يحصل للقارئ مع الإمام، وعلى هذا فاستماعه لقراءة إمامه بالفاتحة يحصل له به مقصود القراءة وزيادة تغني عن القراءة معه التي نهي عنها...انتهى. 

الدليل الرابع :

روى الزُّهري عن ابن أكيمة الليثي عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها، فقال : (( هل قرأ معي أحد منكم آنفًا؟ ))، فقال رجل : نعم يا رسول الله، قال : (( إني أقول : ما لي أنازع القرآن))، 

فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في الصلوات حين سمِعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ). (صحيح أبي داود) رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حِبَّان وأحمد وعبدالرزاق والبزار.

دل الحديث على : أنه ليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم السكوت حتى يتمكن المأموم من قراءة الفاتحة ، فلو كانت قراءة الفاتحة واجبة على المأموم لسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتمكن المأموم من قراءتها.

قال شيخ الإسلام تعليقاً على قول الزهري :

إن الزهري أعلم التابعين في زمنه بسنة رسول الله . وهذه المسألة مما تتوفر الدواعي والهمم على نقل ما كان يفعل فيها خلف النبي ، ليس ذلك مما ينفرد به الواحد والاثنان. 

فجزم الزهري بهذا، من أحسن الأدلة على أنهم تركوا القراءة خلفه حال الجهر بعدما كانوا يفعلونه. وهذا يؤيد ما تقدم ذكره ويوافق قوله : " وإذا قرأ فأنصتوا " ولم يستثن فاتحة ولا غيرها . انتهى من (مجموع الفتاوى لابن تيمية 1-21 مع الفهارس ج(14)).

ووجه الدلالة في هذا الحديث على النحو التالي:

1- أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على من قرأ خلفه في الصلاة الجهرية ،

وهذا يدل على أن الصلاة السرية يجب على المأموم أن يقرأ فيها بفاتحة الكتاب لأن الأصل وجوبها عليه ،

أما الجهرية فيلزمه الاستماع والإنصات لقراءة الإمام وهذا وجه تفريقهم بين السرية والجهرية.

2- أن هذا الأثر يدل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم ،

فإن الزُّهْري وهو أعلم أهل زمانه بالسنة هو من قال : ( فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة في الصلوات حين سمِعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

3- أن قراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مُستحبة ،

تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان فيكون الزُّهْري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها،

 فكيف إذاً قطع الزُّهْري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم في الجهر. انتهى.

ونُوقش هذا الحديث من وجهين:

الوجه الأول : قد تكلم في هذا الحديث بعض أهل العلم من جهة ابن أكيمة الراوي بأنه ضعيف.

وأجيب عن ذلك :

ليس ذلك بشيء فقد قال عنه يحيى بن سعيد : عمرو بن أكيمة ثقة ووثقه غير واحد من أهل العلم.
 
الوجه الثاني : أنه طعن في الحديث من جهة أن قوله في الحديث : " فانتهى الناس... " مدرج من كلام الزهري كما قاله البخاري والذهلي وأبو داود وغيرهم.

وأجيب عن ذلك :

أن ذلك لا يسقط الاحتجاج بالحديث سواء كان ذلك من قول أبي هريرة أو من قول الزهري. وقد رد هذه الدعوى الإمام ابن القيم في بحث جيد في "تهذيب السنن" وقال : إنها من قول أبي هريرة رضي الله عنه . انتهى.

وقال أيضا ابن تيمية في مجموع الفتاوى(23 / 274):

وهذا إذا كان من كلام الزهري فهو من أدل الدلائل على أن الصحابة لم يكونوا يقرؤون في الجهر مع النبي صلى الله عليه وسلم ،

فإن الزهري من أعلم أهل زمانه أو أعلم أهل زمانه بالسنة وقراءة الصحابة خلف النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت مشروعة واجبة أو مستحبة تكون من الأحكام العامة التي يعرفها عامة الصحابة والتابعين لهم بإحسان ،

فيكون الزهري من أعلم الناس بها فلو لم يبينها لاستدل بذلك على انتفائها فكيف إذا قطع الزهري بأن الصحابة لم يكونوا يقرؤون خلف النبي في الجهر . انتهى كلامه رحمه الله.

** ومما يستأنس به في عدم وجوب القراءة على المأموم في الجهرية الحديث المشهور : " من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة". 

وهذا الحديث أخرجه جمع من الأئمة بطرق متعددة مسنداً ومرسلاً عن جماعة من الصحابة أمثلها حديث جابر على ضعف فيه وكثرة كلام النقاد فيه. 

ومع ذلك فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله في مجموع الفتاوى (18/271-272): 

وهذا الحديث روي مرسلاً ومسنداً لكن أكثر الأئمة الثقات رووه مرسلاً عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأسنده بعضهم ورواه ابن ماجه سندا ،

وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين ومثل هذا المرسل يحتج به باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم . انتهى.

وقال الإمام الألباني رحمه الله :

هذا الحديث بارك الله فيك في نقدنا أولا وفي تعبير علماء الحديث ثانياً صحيح لغيره ، شو معنى صحيح لغيره؟  

يعني ليس له سند صحيح لذاته ولكن له أسانيد كثيرة ، هذه الأسانيد الكثيرة أعطت للحديث قوة . 

وشيء من التفصيل الحديث مروي بسند صحيح عن عبد الله بن شداد تابعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ). 

هذا صحيح مرسل ، يعني ما ذكر الصحابي ، لكن في بعض الروايات ذكر بعضهم عن عبد الله بن شداد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، 

لكن هذا البعض فيه ضعف ، فهو جاء موصولا بسند ضعيف ، وجاء مرسلا بسند صحيح ، ثم جاءت له طرق أخرى موصولة أيضا ، صحيح أن فيها ضعفا ، 

لكن هذه المجموعة من الأسانيد الضعيفة الموصولة تعطي للإسناد المرسل قوة ، فيصبح الحديث صحيحاً لغيره ، أي صحيحاً بمجموع طرقه.

ولذلك فالحديث من جملة الأدلة التي تسقط فرضية قراءة المقتدي وراء الإمام في الصلاة الجهرية لأن قراءة الأمام له قراءة. 

بعدين الاستنباط الفقهي والعلمي يساعد على تصحيح معنى هذا الحديث ، لأنه هو يقول : ( فقراءة الأمام له قراءة ) معروف بالتجربة أن المستمع للقرآن يتمكن من تدبره ومن الاستفادة من تلاوته أكثر من التالي لنفسه بنفسه ، هذا معروف بالتجربة ، 

ويدل على ذلك حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوما لعبد الله بن مسعود : ( اقرأ علي ) قال : أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل ، قال : ( اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيرى ) لماذا ؟

لأن الإنسان يتفرغ للاستماع وللتدبر أكثر مما لو تولى القراءة بنفسه ، لأنه أقل ما يقال أنه بده يهتم لأداء الآية أولا على الوجه الصحيح مقتضى أصول التلاوة الشرعية ، وألا تفوته آية أو يخطأ في تلاوتها،

بينما هذا المستمع مستريح من هذا الجانب ، وموجه جهده كله أن يتدبر ما يسمع من التلاوة ، 

فإذا كان الإمام يجهر بالقراءة ، وأنت تسمع فقراءته لك قراءة ، بل أحسن من قراءتك أنت لنفسك ، شايف كيف .؟

فهذا الحديث : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ). مع كونه كما قلنا قوته جاءت بالأسانيد مجموع أسانيد ، لكن حديث : ( إني أحب أن أسمعه من غيري ) يأخذ بعضد هذا المعنى ويقويه ، ولذلك فهو دليل على أن الذي يسمع تلاوة القرآن فالفاتحة ساقطة عنه ، لأن قراءة الأمام له قراءة . انتهى من (سلسلة الهدى والنور-(162)).

الدليل الخامس :

أقوال الصحابة رضي الله عنهم وأفعالهم ومن ذلك:

1 - روى مُسلم في صحيحه عن عطاء بن يسار : أنه سأل زيد بن ثابت عن القراءة مع الإمام فقال : " لا قراءة مع الإمام في شيء ". 
 
2 - روى مالك في مُوطَّئه عن وهب بن كيسان : أنه سمِع جابر بن عبدالله يقول : " من صلَّى ركعة لم يقرأ فيها لم يصل إلا أن يَكون وراء الإمام ". (صحيح الترمذي).

أي : ليس عليه قِراءةُ الفاتحَة إنْ صلَّى في جَماعَةٍ وراءَ إمامٍ.

قال ابن تيمية رحمه الله فى (مجموع الفتاوى) : 

« وجابر آخر من مات من الصحابة بالمدينة، وهو من أعيان تلك الطبقة ». انتهى.

3 - وروى أيضًا عن نافع أن عبدالله بن عُمر كان إذا سُئل : هل يقرأ خلف الإمام؟ يقول : " إذا صلى أحدكم خلف الإمام تُجزئه قراءة الإمام، وإذا صلى وحده فليقرأ "، قال : وكان عبدالله بن عُمر لا يقرأ خلف الإمام . (قال الشيخ الألباني رحمه الله: سنده صحيح).

4 - وروى البيهقي عن أبي وائل : أن رجلًا سأل ابن مسعود عن القراءة خلف الإمام فقال : " أنصت للقرآن؛ فإن في الصلاة شُغلًا، وسيكفيك ذلك الإمام ". (قال الشيخ الألباني رحمه الله: سنده صحيح).

قال ابن تيمية رحمه الله فى (مجموع الفتاوى) :

وابن مسعود وزيد بن ثابت هما فقيها أهل المدينة وأهل الكوفة من الصحابة وفي كلامهما تنبيه على أن المانع إنصاته لقراءة الإمام .اهـ.

وقال أيضا رحمه الله :

فقول ابن مسعود هذا يبين أنه إنما نهاه عن القراءة خلف الإمام، لأجل الإنصات والاشتغال به، لم ينهه إذا لم يكن مستمعاً كما في صلاة السر وحال السكتات. 

فإن المأموم حينئذ لا يكون منصتا ولا مشتغلا بشيء. وهذا حجة على من خالف ابن مسعود من الكوفيين . انتهى من (مجموع الفتاوى لابن تيمية 1-21 مع الفهارس ج(14)

- عن علي بن أبي طالب قال : " من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة ". رواه البخاري في كتاب "القراءة خلف الإمام"، والدارقطني وابن أبي شيبة بسند قال فيه الشيخ الألباني رحمه الله: جيد.

والظاهر أن مقصود علي رضي الله عنه في الجهرية لا في السرية؛ لأنه قد صح عنه أنه كان يقرأ في الصلاة السرية. ينظر: [إرواء الغليل تحت حديث رقم (٥٠٣)].

6 - عن ابن عباس قال : اقرأ خلف الإمام بفاتحة الكتاب في الظهر والعصر ". (نخب الافكار للعيني- رقم: 4/11 - خلاصة حكم المحدث : طريقه صحيح).

فهنا الصحابى الجليل عبد الله ابن عباس ذكر صلاتي السر ولم يذكر باقي الصلوات مما يدل على أنه لم يكن يقرأ فيهن.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى (مجموع الفتاوى): 

ومعلوم أن النهي عن القراءة خلف الإمام في الجهر متواتر عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ،

كما أن القراءة خلف الإمام في السرِّ متواترة عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، بل ونفى وجوب القراءة على المأموم مطلقًا مما هو معروف عنهماهـ.
 
الدليل السابع :

قال جمهور أهل العلم :

لو كانت القراءة في الجهر واجبة على المأموم للزم أحد أمرين :

إما أن يقرأ مع الإمام ، وإما أن يجب على الإمام أن يسكت له حتى يقرأ،

 ولم نعلم نزاعًا بين العُلماء أنه لا يجب على الإمام أن يسكت لقراءة المأموم بالفاتحة ولا غيرها وقراءته معه منهيٌّ عنها بالكتاب والسُّنة ، فثبت أنه لا تجب عليه القراءة معه في حال الجهر . ينظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/172).
 
الدليل الثامن :

لو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والإستماع مُستحبة لاستُحِبَّ للإمام أن يسكت لقراءة المأموم، 

ولا يُستحَبُّ للإمام السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العُلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم

وحجتهم في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يسكت ليقرأ المأمومون، ولا نقل هذا أحد عنه بل ثبت عنه في الصحيح سُكوته بعد التكبير للاستفتاح، 

وفي السنن : ( أنه كان له سكتتان : سكتة في أول القراءة، وسكتة بعد الفراغ من القراءة ) وهي سكتة لطيفة للفصل، لا تتسع لقراءة الفاتحة. 

قال الترمذي رحمه الله : وهو قول غير واحد من أهل العلم : يستحبون للإمام أن يسكت بعدما يفتتح الصلاة وبعد الفراغ من القراءة وبه يقول أحمد وإسحاق وأصحابنا ). اهـ.

ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة ، لكان هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله فلما لم ينقل هذا أحد علم أنه لم يكن . ينظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/173).

الدليل التاسع :

- المقصود بالجهر استماع المأمومين ولهذا يؤمنون على قراءة الإمام في الجهر دون السر ،

فإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا يستمعون لقراءته وهو بمنزلة أن يُحدث من لم يستمع لحديثه ويخطب من لم يستمع لخطبته، وهذا سفه تُنَزَّهُ عنه الشريعة . 

ولهذا روي في الحديث : (( مثل الذي يتكلم والإمام يخطب كمثل الحمار يحمل أسفارًا )). فهكذا إذا كان يقرأ والإمام يقرأ عليه.

قال الزيلعي رحمه الله : المأموم مخاطب بالاستماع إجماعا، فلا يجب عليه ما ينافيه؛ إذ لا قدرة له على الجمع بينهما، 

فصار نظير الخطبة، فإنه لما أمر بالاستماع، لا يجب على كل واحد أن يخطب لنفسه، بل لا يجوز، فكذا هذا . ينظر : ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/131).
 
الدليل العاشر :

إن عدم القراءة خلف الإمام في الجهرية هو عمل أهل المدينة. ( نقل ذلك الإمام ابن العربي في تفسيره) 

وقد نقل القرطبي : عن الإمام مالك أنه لا يقرأ في الجهرية بشيء من القرآن خلف الإمام، وأمّا في السرّية فيقرأ بفاتحة الكتاب، فإن ترك قراءتها فقد أساء ولا شيء عليه .انتهى من تفسيره.

ولا شك أن عمل أهل المدينة المُعتبر الذي يُقدمه الإمام مالك على غيره من الأدلة إنما هو إجماع الصحابة والتابعين السابقين للإمام مالك ،

وهم بلا شك من القرون الثلاثة المُعتبرة وإجماع الصحابة والتابعين من أوثق الإجماعات كما قال أهل العلم.
 
الدليل الحادي عشر :

- أن الإمام أحمد نقل الإجماع على أنه لا تجب القراءة على المأموم حال الجهر. ينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/407).

وقد ذكر هذا الإجماع عن الإمام أحمد الإمام أبو داود في مسائله عن أحمد ، ونقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية وهو ذو علم بروايات الإمام أحمد.

الدليل الثاني عشر :

إن الاستماع للإمام له حُكم القراءة بل يُطلق عليه أنه قراءة شرعًا ولُغةً وعُرفًا، 

أما شرعًا فلما يلي :

قال الله تبارك وتعالى: ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ). [يونس: 89،88]. 

فتأمل قوله تعالى : ( قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ) كيف أثبت وجود دعوتين حال كون الداعي هو موسى فقط لقوله تعالى : ( وَقَالَ مُوسَى... )،

والمعلوم أن الداعي الثاني هو هارون الذي كان يستمع ويُؤمن إذ لو كان يدعو معه لقال : "وقال موسى وهارون ". 

ويدل أيضًا على أن المُستمع له حُكم القارئ قوله صلى الله عليه وسلم : ((من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة))صحيح لغيره

وأما لُغة : 

فإن اللُّغة تُطلق على قراءة السِّرِّ (أي القلب) قراءة. 

قال ابن العربي رحمه الله فى أحكام القرآن : وقد وجدنا وجهًا للقراءة مع الجهر وهي قراءة القلب بالتدبُّر والتفكُّر ،

وهذا نظام القرآن والحديث وحفظ العبادة ومراعاة السُّنَّة وعمل بالترجيح، والله أعلموهو المُراد بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ. [الأعراف: 205]). اهـ

وأما عُرفًا :

فمن طالع كتابًا بعينه وفهمه وتدبَّره دون أن يتلو حُروفه أو يتحرك لسانه يصحٌّ له في عرف الناس أن يقول : قرأت هذا الكتاب.
 
الدليل الثالث عشر :

- إذا افترضنا أن جميع المأمومين يقرؤون خلف الإمام فيكون جهر الإمام حينئذٍ لمن لا يستمع له فلا يكون هناك فائدة في جهر الإمام أصلًا ولا يكون هناك فائدة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا أمَّنَ فأمِّنوا ))؛ لأنهم يكونون قد أمَّنُوا على قرآن لم يستمعوه ولا استمعه أحدٌ منهم.
 
الدليل الرابع عشر :

- جمهور العلماء متفقون على أن الإمام إذا لم يقرأ وقرأ من خلفه، لم ينفعهم قراءتهم . فدل على أن قراءة الإمام هي التي تراعى، وأن قراءته : قراءة لمن خلفه.

 قال ابن عبد البر في الاستذكار (4|243) :

 « وجمهور العلماء مجمعون على أن الإمام إذا لم يقرأ، وقرأ مَن خلفه لم تنفعهم قراءتهم ».انتهى. 

واحتجوا كثيراً باتفاق العلماء على أن المؤتم إذا أدرك الصلاة والإمام راكع، أن صلاته صحيحة وأنه أدرك الركعة، مع أنه لم يقرأ بها فدل على أن قراءة الإمام تكون قراءة له.

 وفي الاستذكار (5|67) :

 « وأجمعوا أن إدراك الركعة بإدراك الركوع مع الإمام ».انتهى.

 وقال الطحاوي (1|218) :

 « رأيناهم جميعا لا يختلفون في الرَّجُلِ، يأتي الإمامَ، وهو راكعٌ أنه يُكَبِّرُ ويركع معه، ويَعتدُّ تلك الركعة، وإن لم يقرأ فيها شيئاً ». انتهى.

---------------------------------------------------------------------

وأما الذين قالوا 

بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الصلاة الجهرية ، فقد تم الرد عليهم فى استدلالاتهم ، ومنها:

دليلهم الأول :

عن عُبادة بن الصامت، قال : كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال : (( لعلكم تقرؤون خلف إمامِكم؟ ))، قلنا : نعم هذا يا رسول الله قال : (( لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها )). رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وابن حِبَّان وابن خُزيمة
 وأحمد والحاكم والدارقطني والبزار، وضعفه الشيخ الألباني رحمه الله.

وأجيب عن ذلك :

بأن هذا الحديث ضعيف فيه ثلاث عِلل؛ فلا يُبنى عليه حُكم:

العِلة الأولى : أنه من رواية مكحول، وهو مُدلِّس، وقد عنعن في جميع الطرق المروية عنه.

العِلة الثانية : أنه من رواية محمد بن إسحاق، وهو وإن كان صرح بالتحديث فقد انفرد بهذه الزيادة : (( لعلكم) )؛ ولذلك لم يعتمدها البُخاري في صحيحه، فروى أصل الحديث: (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ))، 

وقد قال الحافظ أبو زرعة الرازي : 

( إذا انفرد ابن إسحاق بالحديث لا يكون حُجة، ثم روى له حديث القراءة خلف الإمام وما ورد من متابعات لمحمد بن إسحاق فلا يعوَّل عليها لضعفها ). اهـ.

العِلة الثالثة : أن إسناده مُضطرب عن مكحول، فمرة يرويه عن عُبادة، ومرة عن محمود عن عُبادة، ومرة عنه، عن نافع عن عُبادة، وكلها في سُنن أبي داود، ومرة عن محمود عن أبي نعيم عن عُبادة، رواه الدارقطني.

قال ابن تيمية رحمه الله فى (مجموع الفتاوى) :
 
وهذا الحديث مُعلل عند أئمة الحديث بأمور كثيرة، ضعَّفه أحمد وغيره من الأئمة، وقد بسط الكلام على ضعفه في غير هذا الموضع،

 وبيَّن أن الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا صلاة إلا بأُمِّ القرآن))، فهذا هو الذي أخرجاه في الصحيحين، ورواه الزُّهْري عن محمود بن الربيع عن عُبادة،

 وأما هذا الحديث فغلط فيه بعض الشاميين، وأصله أن عُبادة كان يؤمُّ ببيت المقدس، فقال هذا فاشتبه عليهم المرفوع بالموقوف على عُبادة . اهـ.

وقال بعد ذكر من صحّح الحديث وحسنه (23/ 315):

ففي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم هل يقرؤون وراءه بشيء أم لا؟ 

ومعلوم أنه لو كانت القراءة واجبة على المأموم لكان قد أمرهم بذلك وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ،

ولو بيّن ذلك لهم لفعله عامتهم ولم يكن يفعله الواحد أو الاثنان منهم ولم يكن يحتاج إلى استفهامه ،

فهذا دليل على أنه لم يوجب عليهم القراءة خلفه حال الجهر ثم إنه لما علم أنهم يقرؤون نهاهم عن القراءة بغير أم الكتاب ،

وما ذكر من التباس القراءة عليه تكون بالقراءة معه حال الجهر سواء كان بالفاتحة أو غيرها فالعلة متناولة للأمرين فإن ما يوجب ثقل القراءة والتباسها على الإمام منهي عنه .انتهى. 

وقال الشيخ الألباني رحمه الله :

... فقوله - صلى الله عليه وسلم -: « لا تفعلوا »؛ نهي عن القراءة خلف الإمام في الجهرية، واستثناؤه قراءة «الفَاتِحَة» يدل على عدم النهي عن قراءة «الفَاتِحَة»، 

يعني : عدم كراهتها وحرمتِها. ولا دلالة فيه بوجه من الوجوه على ركنية « الفَاتِحَة » أو وجوبها، فإن ثبت بدليل آخر؛ فذاك، وإلا؛ فلا دلالة فيه على ما راموا منه من إثبات الوجوب أو الركنية.

قال بعض المتأخرين من المحققين الحنفيين ونظيره :
 
- قوله تعالى : { لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا }؛ فنهى الله عز وجل عن تصريح المواعدة في العِدَّة، واستثنى منه التعريض والكناية ، 

فالتعريض والكناية بالاستثناء لم يبق حراماً؛ لا أنه صار فرضاً أو واجباً، ولا يبعد أن يكون قريباً من الكراهة.

- قال تعالى : { وَلَا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ }؛ فهل هذا الإغماض والمسامحة واجب عند أحد؟ ! إنما هو إغضاء على القذى وسحب الذيل على الأذى.

فثبت من هذا الاستثناء : أن الاستثناء بعد النهي لا يفيد الوجوب والركنية، وإنما يفيد الإباحة؛ لا سيما إذا وردت هذه الإباحة على سببٍ حادثٍ؛ لا ابتداءً؛

فلا يبقى ريبة في أنها إباحة مرجوحة غير مستحسنة ولا مرضية...انتهى باختصار من [أصل صفة الصلاة (١/ ٣٢٧)].

دليلهم الثاني :

عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )). رواه البُخاري ومُسلم.

وأجيب عن ذلك :

بأن هذا الحديث يتعلَّق حُكمه بالإمام والمُنفرد أما المأموم فلا يشمله هذا الحُكم في الصلاة الجهرية بدلالة الآية : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ). [الأعراف: 204]؛

 لأن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن في الصلاة الجهرية فيحمل مدلول الآية على الصلاة الجهرية، 

ويحمل مدلول الحديث على الصلاة السرية جمعًا بين دلائل الكتاب والسُّنة ،

فيكون الحديث بهذا بشأن الإمام والمُنفرد، أما المأموم فينصت لقراءة إمامه إذا جهر بدلالة هذه الآية.

وأجيب أيضا :

- إن حديث عبادة : (( لا صلاة...)) لا يدل على العُموم لأن كثيرًا من الأحاديث التي وردت على نفس صيغة النفي للجنس لم تدل على العُموم لورود المُخصِّص بأدلة أخرى منها :

- حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من سمِعَ النداء فلم يُجب، فلا صلاة له، إلَّا من عُذْر ))؛ رواه الترمذي والبيهقي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والدارقطني والطبراني، وعبدالرزاق، وصحَّحه الشيخ الألباني رحمه الله.

 والجمهور على أن صلاة الرجل في بيته مع عدم وجود العُذْر صحيحة مع اختلافهم : هل يلحقه الإثم بذلك أم لا؟.

ومنه حديث عن عائشة رضي الله عنها : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يُدافعه الأخبثانِ )). رواه مُسلم. 

ومعلوم أن الصلاة بحضرة الطعام ليست باطلة على قول عامة أهل العلم.

قال الإمام الألباني رحمه الله :

أما الاحتجاج بالحديث السابق ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ). فهو احتجاج بالعموم وهنا الدقة في المسألة ولابد من التعرض لها في الحقيقة ،

الآية بعمومها تشمل الصلاة وتشمل الفاتحة لأنها قرآن بل هي أم القرآن الحديث بعمومه يشمل كل صلاة ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ).

 فأي العمومين يسلط على الآخر ويخصصه ، هنا يقول بعض العلماء العام الذي بقي على عمومه وشموله ولم يدخله تخصيص ما أقوى في عمومه وشموله من العام الذي دخله تخصيص وحينذاك يسلط العام الأعم على العام المخصص ، 

وقد ذكرنا في حديثنا السابق بأن حديث
 ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ). قد خصص واستثني منه بعض الفروع ، 

ذكرنا من ذلك : المسبوق الذي أدرك الإمام راكعا فقلنا إنه يعتبر قد أدرك الركعة مع أنه ما قرأ الفاتحة ، فماذا فعل العلماء بحديث ( لا صلاة ).

 قالوا لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا لمن أدرك الإمام راكعا عام بخصوص أي ضعف عمومه ، 

كذلك مثلا : حديث الذي أسلم حديثا لا يحسن قراءة الفاتحة لكن يسبح كما ذكرنا أيضا هذا بشيء من التفصيل فتكون صلاته صحيحة أيضا على الرغم من أنه لم يقرأ بفاتحة الكتاب فماذا يقال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا الأعجمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة ".

 أما الآية فلم يدخلها أي تخصيص إطلاقا حينئذ يستثنى من الحديث من كان يسمع التلاوة أعمالا للآية وتخصيصا للحديث ،

ومن العجيب : أن هذا المذهب قد وضح للفريق الأول الذي قال بوجوب القراءة حتى في الجهرية وتبين له أنه ليس من المقبول أن يقرأ المقتدي وهو يسمع قراءة الإمام ، 

ولذلك وجدوا لأنفسهم أو أوجدوا لأنفسهم متنفسا ومخرجا  
فقالوا يسكت الإمام ليتفرغ لقراءة المقتدي ، فهذا في الحقيقة كما يقال " كان تحت المطر وصار تحت الميزراب " لماذا ؟ 

هو استعمل عقله وحكمته وجد غير مهضوم أن يقرأ المقتدي وهو يسمع قراءة الإمام فماذا فعلوا ؟ قالوا للإمام انقلب مقتديا وقلد المقتدي أنصت ليقرأ المقتدي هذا قلب لوظيفة الإمام ، 

ثم هذه السكتة هي من عجائب ما يصدر من بعض الأئمة هم يسكتون ولا سكوت في الشرع في الصلاة،

 لأن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري ومسلم ( كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتتان يسكتهما سكتة عند استفتاح الصلاة وسكتة عند الفراغ من قراءة القرآن ).

 ولم يكن هناك سكتة طويلة بين السكتتين إلا السكتة الأولى ، ولذلك جاء في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال : 

( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنية فقلنا يا رسول الله أرأيت سكوتك بين التكبيرة والقراءة ماذا تقول ؟ قال أقول " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب .... ) إلى آخر الدعاء ، 

لو كانت هناك سكتة أخرى طويلة تتسع لقراءة الفاتحة لسألوا الرسول عليه السلام كما سألوه في السكتة الأولى ، قالوا له نراك تسكت بين تكبيرة الإحرام وبين القراءة ماذا تقول ؟ أجابهم ، 

فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يسكت سكتة أخرى طويلة بمقدار تلك وأيضا تسكت قبل بعد الفاتحة فلماذا ؟ فيقول مثلا ليقرأ المقتدي ، لم يكن شيء من هذا إطلاقا ، 

فهذا الأحداث يكفي لإقناع جماهير الناس أن المذهب الصواب هو مذهب الإمام مالك والإمام أحمد الذين قالوا أنصت في الجهرية واقرأ في السرية ، هذا هو الصواب الذي تجتمع به الأدلة تماما

ليس عندهم حجة إلا حديث ( لا صلاة ) وقد عرفنا أنه دخله تخصيص من عدة نواحي،
 
وهنا أيضا يقال ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) إذا كان لا يسمع قراءة الإمام ، 

أما إذا سمع قراءة الإمام ( فقراءة الإمام له قراءة ) وهذا مقبول بالنظر السليم أن الإنسان لما بسمع من غيره كأنه قرأ لنفسه ،

بل قد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأحد أصحابه مرة لابن مسعود وأخرى لأبي بن كعب قال : ( اقرأ علي القرآن ، قال قرأ عليك القرآن وعليك أنزل ؟ قال اقرأ فإني أحب أن أسمعه من غيري ).

فإذا هو المقتدي الذي يسمع القرآن من الإمام ، فهذا قد يكون أنفع له من أن ينشغل هو بقراءة القرآن بنفسه ، وذاك الذي يرفع صوته يسمع غيره، 

فهذا هو الصواب إن شاء الله أن المقتدي إذا كان يسمع قراءة الإمام فلا يقرأ شيئا من القرآن ولا الفاتحة ، 

أما إذا كانت الصلاة سرية أو كان بعيد مثلا عن الإمام لا تبلغه قراءة الإمام ففي هذه الحالة لابد أن يقرأ.

 ونسأل الله عزوجل أن يهدينا جميعا لما اختلف فيه من الحق بإذنه سبحانه وتعالى . انتهى من (سلسلة الهدى والنور-(075)).

وسئل أيضا رحمه الله :

كيف الجمع بين قول الله - تعالى - : (( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا )) الآية ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ؟

فأجاب :

لقد ذكر الحافظ العراقي في شرحه على " مقدمة المصطلح " بأن العلماء قد ذكروا أكثر من مائة وجه من وجوه التوفيق بين الأحاديث المختلفة ، ومن ذلك أو من تلك الوجوه :

" إذا تعارض عامَّان أحدهما عامٌّ مطلق ، والآخر عامٌّ مقيَّد صُرِّف العام المطلق على العام المقيَّد ؛ لأن العامَّ المطلق أقوى في دلالته بعمومه عموم المقيد "

ملاحظة هذه القاعدة يفتح لطلاب العلم بابًا من العلم رائع جدًّا ، من ذلك ما طبَّقه شيخ الإسلام ابن تيمية وما رأيت ذلك لغيره وإن كان الحافظ العراقي قد أشار إلى ذلك ، ولعله اقتبسه من ابن تيمية - رحمه الله - .

الآن نعرض لكم عمومين من حديث الرسول متعارضان ، وكثيرًا ما يشكل الأمر على بعض أهل العلم فضلًا عن طلاب العلم ؛ 

قال - عليه الصلاة والسلام - : ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) ، هذا نصٌّ عام ، قال - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، عمومان تعارضا ؛ ذاك يقول : لا تصلي ، وهذا يقول : لا تجلس حتى تصلي ؛ كيف التوفيق؟

 قال ابن تيمية : " حديث لا صلاة بعد الفجر ولا صلاة بعد العصر عامٌّ مخصَّص بكثير من الأدلة " ، 

وأنا أقول بأن هناك كتابًا هامًّا جدًّا لأحد علماء الحديث في الهند ؛ ألا وهو " شمس الدين العظيم الآبادي " في الكتاب الذي ألَّفه هو " إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي سنة الفجر " ، 

لقد ذكر في هذا الكتاب المخصِّصات الكثيرة للحديث الأول : ( لا صلاة بعد الفجر ) ، و ( لا صلاة بعد العصر ) ، 

** من ذلك مثلًا قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( من نسي صلاة أو نام عنها ؛ فليصلِّها حين يذكرها ) ، إنسان تذكَّر صلاةً ما بعد أن صلى الفجر ؛ فعليه أن يصلِّيها وقت التذكر ، ماذا فعلنا بقوله : ( لا صلاة بعد العصر ) ؟ خصَّصناه بهذا الحديث .

** رجل دخل المسجد فوجد الإمام داخلًا في الصلاة ، وهو لم يكن قد صلى بعدُ سنة الفجر ، فإذا سلم مع الإمام قام وجاء بركعتي سنة الفجر بعد الفجر ؛ هذا خلاف قوله - عليه السلام - بعمومه : ( لا صلاة بعد الفجر ).

** رجل كان قد صلى الفجر الفرض في مسجد ، ثم أتى مسجدًا آخر فوجدهم يصلون ؛ فعليه أن يصلي ، فيه تكرار لفريضة ؛ وهو قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة في يوم مرتين ) ، هذا عامٌّ خُصِّص ، 

وهكذا يجري إعمال العام مع الخاص ، فإذا خُصِّص عموم ما ضعف دلالته من حيث عمومه ، وحينئذٍ يتسلَّط عليه بالتخصيص العام الذي لم يقع عليه تخصيص .

طيب ؛ فيما يتعلق بتحية المسجد بهذا الجمع أجاب ابن تيمية - رحمه الله - فقال : قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة بعد العصر أو بعد الفجر ) عامٌّ قد خُصِّص بكثير من المُخصِّصات ، وأشرتُ إلى بعضها آنفًا ، 

فحينما يأتي حديث عامٌّ آخر يُخالف هذا العام المطلق ؛ ألا وهو قوله - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، وفي الرواية الأخرى : ( فليصلِّ ركعتين ثم ليجلس ) ؛ 

يقول ابن تيمية : هذا الحديث يُخصِّص حديث : لا صلاة بعد العصر وبعد الفجر ؛ لأن هذا لم يُخصَّص ، بل بقي على عمومه وشموله من ناحيتين :

الناحية الأولى : أنه لم يجرِ عليه تخصيص بتسليط حديث عامٍّ عليه .

والناحية الأخرى - وهي هامَّة جدًّا - : أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد لفتَ نظر المسلمين إلى بقاء هذا العموم على عمومه ،

حينما يكون الخطيب يخطب يوم الجمعة ؛ حيث لا يجوز والخطيب يخطب أن يأمر الجالس يسمع خطبته بمعروف أو ينهى عن منكر ، 

مع ذلك فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قوله : ( إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليصلِّ ركعتين ، وليتجوَّز فيهما ) ، لقد أمر - عليه السلام - بهاتَين الركعتين تحية المسجد والخطيب يخطب في الوقت الذي لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وهو واجب - والخطيب يخطب لا يجوز ، 

فإذ أمرَ بتحيَّة المسجد والخطيب يخطب ونهى عن أن تقول لمن يتكلَّم والخطيب يخطب : أنصت وقال : فقد لغوت ، 

فإذًا هذا يؤكد أن قوله - عليه السلام - : ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلِّي ركعتين ) ، أو في الرواية الأخرى : ( فليصلِّ ركعتين ثمَّ ليجلس ) دليلٌ على أن هذا العموم لا يزال على شموله وإطلاقه ؛

 حينذاك يُسلَّط هذا العموم على العموم المُخصَّص ؛ وهو : ( لا صلاة بعد الفجر ) ( لا صلاة بعد العصر ) ، هذه قاعدة مهمة جدًّا تُزيل العقبات والإشكالات أمام التوفيق بين بعض الأحاديث التي يبدو منها التعارض .

على هذا المنوال يُوفَّق بين قوله - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون )) نصٌّ عامٌّ مُطلق لم يدخله تخصيص ، وبين قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) ، فقد دخله التَّخصيص بإجماع علماء الجمهور ، 

لا أقول علماء المسلمين قاطبة ؛ لكن مع الجمهور أدلة من السنة لو كان الجمهور مخالفًا لهذه الأدلة لَمَا التَفَتْنا إلى مخالفتهم ؛ 

لأن الحديث صريح وصحيح خلافًا لمن يظنُّ ضعفه أن من جاء المسجد فوجد الإمام راكعًا فوجده راكعًا فقد أدرك الركعة ؛ بخلاف ما إذا لم يُدرك الركوع ، وإنما أدرك الإمام ساجدًا فلم يدرك الركعة ، 

فهذا يُخصِّص مع آثار سلفية صحيحة بدءًا من أبي بكر - رضي الله عنه - وانتهاءً إلى ابن عمر أنهم قالوا : من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة ؛ 

فحينئذٍ نخصِّص عموم قوله - عليه السلام - : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) بعموم قوله - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن )) ، وتكون الحصيلة وتكون النتيجة كما يأتي : 

لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا من أدرك الإمام راكعًا فله صلاة ؛ لماذا ؟ 

لأننا راعينا الأدلة المثبتة لصحة هذه الصلاة ، و - أيضًا - لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إلا لمن سمعها من الإمام ؛ لماذا ؟ لأنه - تعالى - يقول : (( فأنصتوا )) ، 

ولأن الرسول - عليه السلام - يقول : ( إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به ؛ فإذا كبَّر فكبِّروا ، وإذا قرأ فأنصتوا ) .

بعض العلماء يقولون : نحن نعكس القضية ؛ فنقول : نخصِّص الآية بالحديث ، والحصيلة عندهم كالتالي - لكنه خطأ - : قال - تعالى - : (( فإذا قرئ القرآن فاستمعوا )) إلا في قراءة الفاتحة فلا بد من قراءتها ولو لم ينصت ولو لم يستمع ؛ 

أي : يخصِّصون الآية في الحديث على خلاف ما ذكرنا آنفًا ،

لكن هذا قلب لما ذكرنا آنفًا ممَّا تبيَّن لعلماء الحديث والفقه أن النَّصَّ العام إذا خُصِّص لا يجوز أن يُخصَّص به النَّصُّ العام الذي لم يُخصَّص ، 

ولذلك فالصَّواب ما ذكرناه آنفًا من تخصيص الحديث بالآية ، وليس تخصيص الآية بالحديث . انتهى من ( فتاوى جدة - شريط : 33 توقيت الفهرسة : 00:32:51)

دليلهم الثالث :

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداج ثلاثًا غير تمام ))، فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام، فقال : اقرأ بها في نفسك...". رواه مُسلم.

وأجيب عن ذلك : 

- الحديث دل على أن قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة ويستثنى المأموم لأنه يجتزئ بقراءة إمامه فيجب عليه الإستماع والإِنصات في الصلاة الجهرية؛ لقول الله تعالى : { وإِذا قُرئ القرآن فاستمِعوا له وأنصِتوا لعلكم تُرحَمون } .(الأعراف: ٢٠٤).

ولقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِذا كبّر الإمام فكبِّروا وإذا قرأ فانصِتوا ". (أخرجه مسلم)، فجعَل الإِنصات لقراءة الإِمام من تمام الائتمام به. انظر: "تمام المنّة -للألبانى" (ص ١٨٧).

قول أبي هريرة : قرأ بها في نفسك". هو من رأيه وكلامه وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله على الصلاة السرية ، 

وأما حمله فى الجهرية على سكتات الإمام فشيء لا يخطر على بال أبي هريرة إذ ليس في السنة سكتات تتسع لقراءة «الفَاتِحَة».

قال الإمام أحمد رحمه الله :

 ما سمعنا أحدا من أهل الإسلام يقول : إن الإمام إذا جهر بالقراءة لا تجزئ صلاة من خلفه إذا لم يقرأ .

 وقال : هذا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون ، وهذا مالك في أهل الحجاز وهذا الثوري ، في أهل العراق ، وهذا الأوزاعي ، في أهل الشام ، وهذا الليث ، في أهل مصر ، 

ما قالوا لرجل صلى خلف الإمام ، وقرأ إمامه ، ولم يقرأ هو : صلاته باطلة .

ولأنها قراءة لا تجب على المسبوق فلا تجب على غيره  كقراءة السورة يحققه أنها لو وجبت على غير المسبوق لوجبت على المسبوق ، كسائر أركان الصلاة .

 فأما حديث عبادة ، الصحيح فهو محمول على غير المأموم ، وكذلك حديث أبي هريرة ، وقول أبي هريرة : اقرأ بها في نفسك . من كلامه ،

 وقد خالفه جابر ، وابن الزبير ، وغيرهما ، ثم يحتمل أنه أراد : اقرأ بها في سكتات الإمام ، أو في حال إسراره . انتهى من (المغنى / باب صفة الصلاة). 

ومن أراد الإستزادة فى هذا الباب فعليه بكتاب (أصل صفة الصلاة) للعلامة الألباني رحمه الله.

الخلاصة

الراجح إن شاء الله هو وجوب قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة السرية ولا تجب في الصلاة الجهرية،

فالمأموم أمر بالإنصات والإستماع إلى الإمام فلا يصح أن يجهر الإمام وينشغل المؤموم بالقراءة عن الإصغاء والاستماع إليه،

فلو كانت قراءة المأموم في حال الجهر والاستماع مُستحبة لاستُحِبَّ للإمام أن يسكت لقراءة المأموم ولا يُستحَبُّ للإمام السكوت ليقرأ المأموم عند جماهير العُلماء أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل وغيرهم،

ولو كان الصحابة كلهم يقرؤون الفاتحة خلفه إما في السكتة الأولى وإما في الثانية لكان هذا مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله،

فكيف ولم ينقل هذا أحد عن أحد من الصحابة أنهم كانوا في السكتة الثانية خلفه يقرؤون الفاتحة مع أن ذلك لو كان مشروعًا لكان الصحابة أحق الناس بعلمه وعمله فعلم أنه لم يكن.

وفى النهاية نسأل الله عزوجل أن يهدينا جميعا لما اختلف فيه من الحق بإذنه سبحانه وتعالى .


والله اعلم


وللفائدة..


هل اعجبك الموضوع :
author-img
الحمدلله الذى بنعمته تتم الصالحات فاللهم انفعنى بما علمتنى وعلمنى ما ينفعنى وزدنى علما واهدنى واهد بى واجعلنى سببا لمن اهتدى.

تعليقات