من أعمالنا نُحكم :
تُمثّل سلطة الملوك والرؤساء والأمراء والمديرين تجسيدًا واقعيًا لأعمالنا، فكما نكون، يُولّى علينا من يُشبهنا.
* يُؤكّد هذا المبدأ على سنة الله الكونية التي لا تتغيّر، فكما نزرع، نحصد، وكما نتصرف، تُدار بنا الأمور.
* تجد كثيراً من أصحاب الأعمال كصاحب شركة أو مصنع أو ممن لديه أراضي وما شابه ذلك، يظلمون عمالهم الذين يشتغلون عندهم،
فيسلط الله عليهم الملوك بفرض الضرائب عليهم جزاءً وفاقاً.
ومما يدل على ذلك :
قوله صلى الله عليه وسلم: ( يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:
.......ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم...)."صحيح الجامع-رقم: 7978".
فقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته فى هذا الحديث من المعاصي؛ وأنها تَجلِبُ الابتلاءاتِ والعُقوباتِ على الناسِ وتجلب ظلم الحكام لهم.
- قال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي(ت 520) في كتابه"سراج الملوك" (ص: 94):
" لم أزل أسمع الناس يقولون : " أعمالُكم عمّالُكم، كما تكونوا يولَّ عليكم"،
إلى أن ظفرتُ بهذا المعنى في القرآن ؛ قال الله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً}. [الأنعام: 129].
وكان يُقال : ما أنكرت من زمانك فإنما أفسده عليك عملُك.
وقال عبد الملك بن مروان : ما أنصفتمونا يا معشر الرعية، تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرتهما، نسأل الله أن يعين كلٌّ على كلٍّ....
وكتب أخ لمحمد بن يوسف يشكو إليه جور العمال، فكتب إليه محمد بن يوسف :
بلغني كتابك وتذكر ما أنتم فيه، وليس ينبغي لمن يعمل المعصية أن ينكر العقوبة، ولم أر ما أنتم فيه إلا من شؤم الذنوب، والسلام؟ ". انتهى.
- وأسند في (الدر المنثور) عن منصور بن الأسود قال :
سألت الأعمش عن قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً }،
ما سمعتهم يقولون فيه ؟ قال : سمعتهم يقولون : " إذا فسدَ الناس أُمِّر عليهم شرارُهم ". انتهى.
- وقال الرازي في تفسيره" مفاتيح الغيب" (13/ 150) :
" الآية تدلُّ على أنَّ الرعية متى كانوا ظالمين فالله تعالى يُسلّط عليهم ظالما مثلهم، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم". انتهى.
- قال ابن القيم في"مفتاح دار السعادة"(2/ 721-723) :
" وَتَأمل حكمته تَعَالَى فِي تسليط الْعَدو على الْعباد إِذا جَار قويُّهم على ضعيفهم وَلم يُؤْخَذ للمظلوم حَقه من ظالمه،
كَيفَ يُسَلَّط عَلَيْهِم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سَوَاء، وَهَذِه سنة الله تَعَالَى مُنْذُ قَامَت الدُّنْيَا، إلى أن تُطوى الأرض وَيُعِيدهَا كَمَا بدأها.
وَتَأمّل حكمته تَعَالَى في أن جعل مُلُوك الْعباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كَأَنَّ أَعْمَالهم ظَهرت في صُوَر وُلاتهم وملوكهم؛
فَإِن استقاموا استقامت مُلُوكهم، وَإِن عدلوا عدلوا عَلَيْهِم، وَإِن جاروا جارت مُلُوكهمْ وولاتهم،
وَإِن ظهر فيهم الْمَكْر والخديعة فولاتهم كَذَلِك، وَإِن منعُوا حُقُوق الله لديهم وبخلوا بهَا منعت مُلُوكهم وولاتهم مَا لَهُم عِنْدهم من الْحق وبخلوا بهَا عَلَيْهِم،
وَإِن أخذوا مِمَّن يستضعفونه مَالا يستحقونه في معاملتهم أخذت مِنْهُم الْمُلُوك مَالا يستحقونه وَضربت عَلَيْهِم المكوس والوظائف،
وَكلُّ ما يستخرجونه من الضَّعِيف يَسْتَخْرِجهُ الْمُلُوك مِنْهُم بِالْقُوَّةِ؛ فعمَّالهم ظَهرت فِي صور أعمالهم.
وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَة الإلهية أن يُولَّى على الأشرار الْفجار إلا من يكون من جنسهم.
وَلما كَانَ الصَّدْرُ الأول خِيَارَ الْقُرُون وأبرَّها كَانَت ولاتهم كَذَلِك، فَلَمَّا شابوا شابت لَهُم الْوُلَاة،
فَحكمة الله تأبى أن يُولّي علينا فِي مثل هَذِه الأزمان مثلُ : مُعَاوِيَة وَعمر بن عبد العزيز، فضلاً عَن مثل أبي بكر وَعمر،
بل ولاتنا على قَدْرنَا، وولاة من قبلنَا على قَدْرهم، وكلٌّ من الأمرين مُوجَبُ الْحِكْمَة ومقتضاها...
فإياك أن تظنَّ بظنك الفاسد أنَّ شَيْئاً من أقضيته وأقداره عَارٍ عَن الْحِكْمَة الْبَالِغَة، بل جَمِيعُ أقضيته تَعَالَى وأقداره وَاقعَةٌ على أتمِّ وُجُوه الْحِكْمَة وَالصَّوَاب...انتهى باختصار.
- وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
كثير من الناس يريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون ، ولا شك أننا نريد من الرعاة أن يكونوا على أكمل ما يكون،
لكننا لا نعطيهم في المعاملة أكمل ما يكون ، بمعنى أن بعض الرعية يقول:
يجب أن يكون الراعي على أكمل ما يكون، ومع ذلك تجد الرعية على أنقص ما يكون.. أهذا عدل؟ لا والله ما هو بعدل،
إذا كنت تريد أن تعطى الحق كاملاً ، فأعط الحق الذي عليك كاملاً ، وإلا فلا تطلب.
ومن حكمة الله عز وجل أن المُوَلَّى على حسب المولَّى عليه.. وهذه من الحكمة أن يكون المولى -ولي الأمر- على حسب من ولي عليه،
إن صلح هذا صلح هذا ، وإن فسد هذا فسد هذا، وفي الأثر : [ كما تكونوا يول عليكم ] يعني : أن الله يولي على الناس على حسب حالهم،
وهذا الأثر وإن لم يكن صحيحاً مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكنه صحيح المعنى،
اقرأ قول الله تعالى : وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً. [الأنعام:129] أي: نجعل الظالم فوق الظالم، بماذا؟ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. [الأنعام:129].
فإذا ظلمت الرعية سلطت عليها الرعاة، وإذا صلحت الرعية صلح الرعاة، وكذلك بالعكس : إذا صلح الراعي صلحت الرعية..... انتهى باختصار من (سلسلة اللقاء الشهري-(51)).
- وقال أيضا رحمه الله في " لقاء الباب المفتوح ":
.... وإذا نظرنا إلى أحوال الرعية وجدنا أنفسنا نحن الرعية عندنا تفريط في الواجبات وإخلال وتهاون، وتهافت على المحرمات،
نجد الغش في المعاملات، والكذب والتزوير وشهادة الزور وأشياء كثيرة
، فلو أن الإنسان تعمق وسلط الأضواء على حال المجتمع الإسلامي اليوم لعرف القصور والتقصير...
فإذا أضعنا نحن الأمانة فيما نحن أمناء فيه -وليس عندنا ولاية كبيرة- فكيف من له ولاية أمرنا؟
قد يكون أشد منا إضاعة للأمانة، لكن استقيموا يول الله عليكم من يستقيم.... انتهى باختصار.
* وليس معنى ذلك أن الظالمين المتسلطين من حكامٍ وغيرهم معذورون ولا لوم عليهم، بل هم محاسبون على أعمالهم،
وهم مسؤولون عن رعيتهم، وحسابهم عريضٌ وشديدٌ ولن ينجيهم يوم القيامة إلا العدل.
* فإن قيل: فما شأن الصالحين من الرعية أن يقع عليهم الظلم؟!
قيل : إن كانت العقوبةُ جماعيةً فإنها تعمُّ الصالح والطالح ، كما قال تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }. [الأنفال: 25].
وفي الصحيحين عن زينب بنت جحش، رضي الله عنها أنها قالت : .... فقلت يا رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :" نعم إذا كثر الخبث".
* ولكن تكون المصيبة على المؤمن لطيفة القَدْر والوَقْع، وكلما ارتقى بإيمانه حصل له من الخير في السراء والضراء، لقوله صلى الله عليه وسلم:
" عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له".
* وأما إذا أردنا أن نُغيّر واقعنا، فينبغي أن نلجأ إلى من بيده الأمور، ونتخذ الأسباب والوسائل الشرعية المقدور عليها، حتى يتحقق التغيير بإذن الله الواحد القدير،
قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }. [الرعد: 11]،
وقال أيضا : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ }. [الأنفال: 53، 54].
هذا والله أعلم.
اقرأ أيضا : هل يجوز الخروج على الحاكم الظالم الفاجر؟
تعليقات
إرسال تعليق