">

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

من وقع في فاحشة الزنا ثم استغفر الله وندم على ما وقع منه وتاب إلى ربه توبة صادقة خالصة فإن الله سبحانه وتعالى قد وعد بأنه سيقبل توبة التائب بل ويبدل سيئاته حسنات وهذا من كرمه وجوده سبحانه وتعالى ويسقط عنه إقامة الحد عليه رحمة من رب العالمين برفع العقاب عن المذنبين التائبين وذلك ما لم يصل أمره إلى القاضي .

ولكن اعلم رحمك الله أن الأفضل في حقه أن يستتر بستر الله تعالى ويتوب ولا يذكر ذلك لأحد فيفضح نفسه - لأنه إذا رفع أمره إلى القاضي أو نائبه ثم تاب المتهم عن جريمته بعد ذلك لم يسقط الحد عنه بل يجب إقامة الحد عليه سواء كان قاطع طريق أم لصاً أم زانياً أم قاذفاً أو خلافهم فلا يجوز تعطيل الحدود لا بعفو ولا شفاعة لأن الجريمة تمس مصلحة الجماعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب )ولقوله صلى الله عليه وسلم : « اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها، فليستتر بستر الله - تعالى - وليتب إلى الله - تعالى - فإنه من يُبْدِ لَنَا صفحتَهُ نُقِمْ عليه كتاب الله ». صحيح الجامع.

ودليل ذلك :

1 - قال الله تعالى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . (المائدة/33 - 34).

الشاهد من الآية : أن الشارع اعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره قبل القدرة عليه بطريق الأولى، فإنه إذا دفعت عنه توبته حدَّ حرابة مع شدَّة ضررها وتعدِّيه، فلأن تدفع التوبة عنه ما دون حدِّ الحرابة بطريق الأولى والأحرى، وقد قال الله تعالى : {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}. (سورة الأنفال: 38.).

قال ابن كثير رحمه الله :... وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم ، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل ، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء . وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة . انتهى من ( تفسيرابن كثير )

2 - قال الله تعالى : وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . (الأعراف/153).

3 - قوله تعالى - في سياق الكلام عن فاحشة الزنى : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما . ( سورة النساء: 16.).

قال ابن كثير رحمه الله : قوله : ( فإن تابا وأصلحا ) أي : أقلعا ونزعا عما كانا عليه ، وصلحت أعمالهما وحسنت ( فأعرضوا عنهما ) أي : لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ( إن الله كان توابا رحيما ) . انتهى من ( تفسيرابن كثير)

4 - وقوله سبحانه بعد ذكر حد السرقة : فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه . (سورة المائدة: 39.).

قال ابن كثير رحمه الله : قال تعالى : ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ) أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله ، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه ، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور . انتهى من ( تفسيرابن كثير)

5 - حديث أنس قال : « كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل فقال : يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا فأقمه عليَّ، ولم يسأله، قال: وحضرت الصلاة فصلَّى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قام إليه رجل فقال : يا رسول الله، إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال : ولم يسأل عنه، قال : « أليس قد صليت معنا؟ » قال : نعم، قال : « فإن الله عز وجل قد غفر لك ذنبك  ». (أخرجه البخاري) وفي بعض الروايات أنه قال : « إني زنيت ».

قال الحافظ في «الفتح» (12/ 134) : « قد يتمسك به من قال : إنه إذا جاء تائبًا سقط عنه الحد ». اهـ.

فأخبره أن صلاته سبب في غفران ذنبه، خصوصا وقد انضم إليها ما أشعر بإنابته وندمه على هذا الذنب، وهذا مصداق لقول الله تعالى : {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات}. [هود: 114]، وهو يبين أن الأعمال الصالحة -من الصلاة وغيرها- تكفر صغائر الذنوب، أما الكبائر فإنها تحتاج إلى توبة تامة، بشروطها .

6- وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : « أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد – فناداه، فقال : يا رسول الله، إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ردد عليه - أربع مرات - فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أبك جنون؟ قال : لا، قال : فهل أحصنت؟ قال : نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهبوا به، فارجموه »وعند أبي داود : فلما رجم، فوجد مس الحجارة، فجزع، فخرج يشتد، فلقيه عبد الله بن أنيس، وقد عجز أصحابه، فنزع له بوظيف بعير فرماه به، فقتله، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فذكر ذلك له، فقال : هلا تركتموه، لعله أن يتوب فيتوب الله -عز وجل- عليهوفي رواية : أنَّ رجلًا اسمه هَزَّال، هو الذي أشار على ماعز أن يأتي النَّبي صلى الله عليه وسلم فيخبره، فقال له النَّبي صلى الله عليه وسلم يا هَزَّال، لو سَتَرْته بردائك، لكان خيرًا لك (رواه مالك في ((الموطأ)) (5/1198))

قال ابن عبد البر : وفي هذا الحديث من الفقه : أنَّ السَّتْر أولى بالمسلم على نفسه -إذا وقَّع حدًّا من الحدود- من الاعتراف به عند السُّلطان، وذلك مع اعتقاد التَّوبة والنَّدم على الذَّنب، وتكون نيَّته ومعتقده ألَّا يعود، فهذا أولى به من الاعتراف، فإنَّ الله يقبل التَّوبة عن عباده، ويحبُّ التَّــوَّابين . انتهى من ((التمهيد)) (23/119).

 قال النووي - في شرحه على مسلم (6 / 117) عند ذكر حديث ماعز الذي أقرّ على نفسه بالزنا : " وفي هذا الحديث دليل على سقوط إثم المعاصي الكبائر بالتوبة، وهو بإجماع المسلمين ". اهـ. 

وقال الحافظ ابن حجر - في فتح الباري (19 / 238) -: " ويؤخذ من قضيته : أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله - تعالى - ويستر نفسه، ولا يذكر ذلك لأحد؛ كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز، وأن من اطلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا، ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الإمام؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم - في هذه القصة -: " لو سترته بثوبك، لكان خيرًا لك "، 

وبهذا جزم الشافعي - رضي الله عنه - فقال : " أُحب لمن أصاب ذنبًا، فستره الله عليه أن يستره على نفسه، ويتوب، واحتج بقصة ماعز مع أبي بكر وعمر ". اهـ.

قال أبو الوليد الباجي : (وقوله صلى الله عليه وسلم لـهَزَّال ((يا هَزَّال، لو سَتَــرْته بردائك، لكان خيرًا لك)) هَزَّال هذا هو: هَزَّال بن رئاب بن زيد بن كليب الأسلمي. ويريد بقوله : ((لو سَتَــرْته بردائك، لكان خيرًا لك)) يريد : ممَّا أظهرته من إظهار أمره، وإخبار النَّبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر به، فكان ستْره بأن يأمره بالتَّوبة، وكتمان خطيئته، وإنَّما ذكر فيه الرِّداء على وجه المبالغة، بمعنى أنَّه لو لم تجد السَّبيل إلى سِتْره إلَّا بأن تَسْتُره بردائك ممَّن يشهد عليه، لكان أفضل ممَّا أتاه، وتسبَّب إلى إقامة الحدِّ عليه، والله أعلم وأحكم ). انتهى من ((المنتقى شرح الموطأ)) لأبي الوليد الباجي (7/135).

7 - حديث ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « التائب من الذنب كمن لا ذنب له ». (صحيح ابن ماجه)فدلَّ على أنه لا عقاب على التائب مما يوجب حدًّا إذا تاب قبل القدرة عليه لتمحُّض صدقه في توبته .

ولقبول التوبة شروط عرفت من استقراء نصوص كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تلك الشروط : 

أن تكون التوبة خالصة لوجه الله تعالى، فلا يراد بها الدنيا أو مدح الناس وثناؤهم، ثم الإقلاع عن المعصية، ثم الندم على فعلها، مع العزم على عدم العودة إليها، ثم إرجاع الحقوق إلى أصحابها، إن كانت المعصية حقوقا للآخرين، وأن تكون التوبة قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت.

ومن علامات صحة التوبة :

 أن يكون العبد بعد التوبة خيرا منه قبلها؛ فيكثر من عمل الصالحات، ومصاحبة أهل الصلاح، ويحرص على ترك المعاصي والسيئات، والابتعاد عن أهل الزيغ والانحراف، وأن يكون الخوف مصاحبا له فلا يأمن من مكر الله .

وأما الأحاديث التي جاء فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام الحدَّ على من جاء تائبًا يطلب التطهير بإقامة الحد عليه كماعز والغامدية - رضي الله عنهما . وأنه لو كانت التوبة قبل القدرة مسقطة للحدِّ لم يحدَّهم - صلى الله عليه وسلم .

أجيب عن ذلك : 

قال ابن القيم رحمه الله : " فإن قيل : فماعز جاء تائبًا والغامدية جاءت تائبة، وأقام عليهما الحد، قيل: لا ريب أنهما جاءا تائبين، ولا ريب أن الحد أقيم عليهما، وبهما احتج أصحاب القول الآخر، 

وسألت شيخنا عن ذلك، فأجاب بما مضمونه : بأن الحد مطهِّر، وأن التوبة مطهِّرة، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة، وأَبَيَا إلا أن يُطَهَّرا بالحد، فأجابهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ذلك، وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، « فقال في حق ماعز: هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه »، ولو تعيَّن الحد بعد التوبة لما جاز تركه، 

بل الإمام مخير بين أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به : « اذهب فقد غفَر الله لك »، وبيَّن أن يقيم كما أقامه على ماعز والغامدية لما اختارا إقامته وأبَيَا إلا التطهير به، ولذلك ردَّهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرارًا، وهما يأبيان إلا إقامته عليهما،

 وهذا المسلك وسط مسلك من يقول : لا تجوز إقامته بعد التوبة البتة، وبين مسلك من يقول : لا أثر للتوبة في إسقاطه البتة، وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط، والله أعلم". انتهى من (إعلام الموقعين (٢/ ٦٠-٦١)).

إذن ليس للإمام أن يقيم الحدَّ على من تاب توبة صادقة وجاء بنفسه فاعترف قبل أن تقوم البينة عليه ويؤتى به إلى الإمام لكن إذا طلب هو إقامة الحد عليه أُقيم وإلا فلا على أنه ينبغي أن ينتبه إلى أنَّ من قامت عليه البينة وأتى به إلى الإمام ليقيم عليه الحد ثم أظهر التوبة لم يُقبل منه ذلك فإن كان تائبًا في الباطن كان الحد مكفِّرًا وكان مأجورًا على صبره . انظر («مجموع الفتاوى» (16/ 31).)

قال ابن تيمية رحمه الله :

 العقوبات التي تقام من حد أو تعزير: إما أن يثبت سببها بالبينة مثل قيام البينة بأنه زنى أو سرق أو شرب فهذا إذا أظهر التوبة لم يوثق بها، ولو درئ الحد بإظهار هذا لم يقم حد؛ فإنه كل من تقام عليه البينة يقول : قد تبت، وإن كان تائبا في الباطن كان الحد مكفرا وكان مأجورا على صبره . 

وأما إذا جاء هو بنفسه فاعترف وجاء تائبا فهذا لا يجب أن يقام عليه الحد في ظاهر مذهب أحمد نص عليه في غير موضع وهي من مسائل التعليق، واحتج لهذا بعدة أحاديث ،وحديث الذي قال : { أصبت حدا فأقمه علي فأقيمت الصلاة } يدخل في هذا لأنه جاء تائبا، وإن شهد على نفسه كما شهد به ماعز، والغامدية وإذا اختار إقامة الحد أقيم عليه وإلا فلا . كما في حديث ماعز : { فهلا تركتموه ؟ } والغامدية ردها مرة بعد مرة .

 فالإمام والناس ليس عليهم إقامة الحد على مثل هذا ؛ ولكن هو إذا طلب ذلك أقيم عليه كالذي يذنب سرا ،وليس على أحد أن يقيم عليه حدا : لكن إذا اختار هو أن يعترف ويقام عليه الحد أقيم وإن لم يكن تائبا، وهذا كقتل الذي ينغمس في العدو هو مما يرفع الله به درجته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : { لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله } . 

وقد قيل في ماعز إنه رجع عن الإقرار، وهذا هو أحد القولين فيه في مذهب أحمد وغيره ؛ وهو ضعيف والأول أجود . وهؤلاء يقولون : سقط الحد لكونه رجع عن الإقرار ويقولون رجوعه عن الإقرار مقبول وهو ضعيف ; بل فرق بين من أقر تائبا، ومن أقر غير تائب فإسقاط العقوبة بالتوبة – كما دلت عليه النصوص – أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار ; والإقرار شهادة منه على نفسه ; ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار مع أنه قد يكون صادقا . انتهى من ((مجموع الفتاوى)) (ص31-32ج16)

قال الشيخ الألباني رحمه الله :

 أما ولا يوجد اليوم من يقيم الحد فقد جعل الله عز وجل لمثل هذا الإنسان طريقاً سهلاً سمحاً وذلك أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى، بل إن الشارع الحكيم يرغب ممن يصاب بمثل هذه المعصية أن لا يعرض نفسه لمن يقيم الحد عليه، أي : 

لو كان هناك حاكم مسلم يقيم شريعة الله وحدود الله على من يستحقها، ثم وقع أحد أفراد الشعب في حد من حدود الله فالإسلام يأمره بأن يستر على نفسه، وألا يكشف عن ذنبه لذاك الحاكم الذي يريد أن يطهره منه، ولعلكم تعلمون قصة ماعز الذي زنا بتلك المرأة الغامدية، حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه، وآله وسلم يطلب منه إقامة الحد بقوله : يا رسول الله طهرني، جاءه من الجهة اليمنى فانحرف عنه عليه السلام إلى الجهة اليسرى، واضح جداً كأنه يقول بلسان الحال غيّب وجهك عني ولا تسمعني كلمتك هذه، لكن الرجل يريد أن يطّهر، فجاءه إلى الجهة الأخرى : يا رسول الله طهّرني، أيضاً صرف وجهه عنه هكذا ثلاث مرات .. فجاءه إلى الجهة الأولى : يا رسول الله طهرني، عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ماعزاً هذا جاد في ما يطلبه من إقامة الحد عليه، فقال صلى الله عليه، وآله وسلم : استنكهوه .. استنكهوه، ما معنى هذا اللفظ، يعني شموا رائحته، رائحة فمه لعله رجل شربان وسكران، فهو يهذي بما لا يدري .. استنكِهوه، استنكَهوه رائحة فمه رائحة فم نظيف من الخمر، فأخبروه فأمر عليه الصلاة والسلام برجمه بالحجارة، فرجموه حتى مات، فتكلم بعض الذين رجموه بكلمة فيها غمز وطعن في ماعز لأنه وقع في الزنا فقال عليه السلام : لقد تاب توبة لو قُسّمت على أهل المدينة لوسعتهم .

فنحن نرى في هذه القصة وهي في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد في أول الأمر أن يصرف الرجل ألا يفضح نفسه أمام الناس ولو بطلب إقامة الحد عليه، وعرفتم النتيجة، ولذلك جاء في بعض الأحاديث ما معناه : من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر، فالله عز وجل ستير يحب الستر .

الشاهد : من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر لا يفضح نفسه ولا يقل خاصة في هذا الزمان .. لا يقل لأحد المشائخ أو الأصدقاء أو الإخوان أنا فعلت كذا وكذا، وأنا أريد من يقيم الحد عليّ .. لا الجواب سهل جداً تب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً، ما هي شروط التوبة النصوح؟ 

أولاً : أن تندم على ما فاتك، وأن تعزم على ألا تعود، وثالثاً : أن تُكثر من الأعمال الصالحة، إذاً لا حاجة بالمسلم أن يفضح نفسه بزعم أنه يريد أن يُطهّر بإقامة الحد .. ! لا، التوبة تمحو الحوبة .. التوبة النصوح تقوم مقام الحد، لكن شروطها كما ذكرت لكم آنفاً : 

أن يندم على ما حصل منه إن كان زنا، إن كان سرقة، إن كان شرب خمر، إن كان غيبة، إن كان نميمة .. أي شيء كان يندم على ما فات ويعزم على ألا يعود ويكثر من الأعمال الصالحة، ذلك قوله تعالى الصريح في القرآن الكريم حينما ذكر عباد الرحمن قال تعالى في أوصافهم : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا }. [الفرقان: ٦٨ - ٧١] إذاً كل من ارتكب ذنباً يستحق عليه شرعاً حداً، ولا حدود اليوم مع الأسف فما عليه غير أن يعود إلى الله نادماً على ما فعل، عازماً على ألا يعود مكثراً من الأعمال الصالحة هذا معنى قوله تعالى : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ }. [الفرقان: ٧٠] . انتهى من (الهدى والنور/٧١٦/ ١٠: ٣٠: ٠٠)

وسئل الشيخ العثيمين رحمه الله :

يقول السائل : وقد عشت في مطلع شبابي وحتى قبيل الزواج أرتكب الكثير من المخالفات، وأنا الآن قد تبت إلى الله توبة نصوحاً، ونادم على ما صدر من أفعال وأقوال لا ترضي الله جل وعلا، فهل علي كفارة يا فضيلة الشيخ على ما مضى، أم أن التوبة النصوح تكفي نرجو التوجيه جزاكم الله خيراً؟ 

الجواب :

 نعم، التوبة النصوح تكفي وتهدم ما كان قبلها من المعاصي؛ بل من الكفر أيضاً لقول الله تعالى : ﴿ قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾. ولقوله تعالى : ﴿ والذين لا يدعون مع الله إله آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلقى آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ﴾

فقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أعلى أنواع المعاصي في حقه تعالى، وفي حق النفوس، وفي حق بني آدم في النفوس، وفي حق بني آدم في الأعراض، فذكر الشرك، وذكر قتل النفس بغير حق، وذكر الزنا، فالشرك جرم في حق الله، وقتل النفس جرم في أنفس الخلق، والزنا جرم في أعراضهم، ومع ذلك قال : ومن يفعل ذلك يلقى آثاماً يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات . 

فأبشر أيها السائل ما دمت تبت إلى الله توبة نصوحاً، فإن الله تعالى سيغفر لك ما سبق من ذنبك مهما عظم؛ ولكن التوبة لابد فيها من شروط خمسة : 

الشرط الأول : أن تكون خالصة لله، بأن لا يحمل عليها شيء من أمور الدنيا لا يبتغي بها الإنسان تقرباً إلى أحد من الناس، ولا رياء، ولا سمعة وإنما يحمله عليها خوف الله ورجاؤه، خوف الله تعالى من معصيته ورجائه بتوبته، 

الشرط الثاني : أن يندم على ما وقع منه من المعصية، بمعنى أنه يتأثر ويحزن مما حصل، ويتمنى أن لم يكن فعله، 

والشرط الثالث : أن يقلع عن المعصية التي تاب منها، فلو قال بلسانه : إنه تاب. ولكنه باق ومصر على المعصية كانت توبته هباء منثوراً؛ بل هي إلى الهزء بالله أقرب منها إلى الجد، فلو قال : أنا تبت إلى الله من الغيبة. ولم يزل يغتاب الناس فأين التوبة؟ لو قال : تبت إلى الله من أكل المال بالباطل. وهو لا يزال مصراً عليه فأين التوبة؟ لو قال : تبت إلى الله من النظر إلى المحرم. وهو مصرٌّ عليه فأين التوبة؟ لابد أن يقلع عن المعصية، ومن ذلك رد الحقوق إلى أهلها، فلو قال : أنا تائب من ظلم الناس، ولكن حقوق الناس في ذمتي. فإنه لم يتب، 

والشرط الرابع : أن يعزم على ألا يعود إلى المعصية في المستقبل، فلو قال : أنا تائب. وندم على ما مضى وأقلع عن الذنب؛ لكن في قلبه أنه لو حصلت له الفرصة لعاد إلى الذنب، لم يكن تائب حقيقة؛ بل لابد أن يعزم على ألا يعود، ويجب أن نتفطن لكلمة يعزم على ألا يعود، فإنه لا يشترط أن ألا يعود فلو كان حين التوبة عازمًا على أن ألا يعود؛ ولكن سولت له نفسه أن يعود، فإن التوبة الأولى لا تبطل؛ لكنه يحتاج إلى توبة جديدة لعودة إلى الذنب، 

الشرط الخامس : أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه؛ وذلك بأن تكون قبل حضور الأجل، وقبل طلوع الشمس من مغربها، فإن وقعت التوبة بعد خروج الأجل لم تقبل، وإن وقعت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل أيضاً، ودليل ذلك قوله تعالى : ﴿ وليست التوبة للذين يعلمون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار﴾ . ولهذا لم يقبل الله توبة فرعون حين أدركه الغرق، وقال : آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين. فقيل له : آلان وقد عصيت من قبل، وكنت من المفسدين. 

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر؛ يعني بروحه؛ وذلك بحضور أجله، وإن وقعت التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل أيضاً؛ لقوله تعالى : ﴿ إن ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً﴾ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن التوبة تنقطع إذا طلعت الشمس من مغربها، والشمس الآن تشرق من المشرق وتغرب من المغرب؛ فإذا أذن الله لها أن ترجع من حيث جاءت رجعت فخرجت من المغرب، وهذا في آخر الزمان؛ فإذا رآها الناس آمنوا أجمعون؛ ولكن لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً، 

وخلاصة شروط التوبة أنها خمسة : الإخلاص لله، والندم على ما حصل من الذنب، والإقلاع عنه، والعزم على ألا يعود، وأن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، نسأل الله أن يتوب علينا جميعاً . انتهى من (فتاوى نور على الدرب>الشريط رقم [203])

وجاء فى فتاوى اللجنة الدائمة :

إذا تاب الإنسان إلى ربه توبة صادقة خالصة، فإن الله - سبحانه وتعالى - قد وعد بأنه سيقبل توبة التائب، بل ويعوضه حسنات، وهذا من كرمه وجوده سبحانه وتعالى، قال تعالى : {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (١) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (٢) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} .

والتوبة من شروطها : الإقلاع عن الذنب، والندم على ما تقدم منه، والعزم على ألا يعود إليه، وإن كان حق من حقوق الآدميين فيطلب منهم المسامحة. وقد ثبت عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - في بيعة النساء : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «. . . فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا من ذلك، فستره الله، فهو إلى الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له »(البخاري) 

وقد حث - صلى الله عليه وسلم - على التوبة الصادقة، وقال في قصة ماعز : « هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه ». (البيهقي) . 

وروى مالك في (الموطأ) عن زيد بن أسلم وفيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أيها الناس : قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله،، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله ». فعليك بالتوبة الصادقة والمحافظة على الصلوات مع الجماعة والإكثار من الحسنات . وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . انتهى من (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - الفتوى رقم (١٤٢٧٢))

وجاء أيضا فيها :

من ارتكب فاحشة الزنا ثم تاب عنها ولم يستطع إكمال توبته، بل رجع إليها، وبعد أن تزوج وجد نفسه لا تميل إلى الزنا كما كانت سابقا وجرد توبته - فإنها تقبل إذا توافرت شروطها، فشروط التوبة من حقوق الله ثلاثة : الاعتراف بالذنب، والندم على فعله تعظيما لله وإخلاصا له، والعزم على أن لا يعود إليه. والتوبة من حقوق الخلق لها  شروط أربعة : الثلاثة المذكورة، والرابع إعادة الحق إلى صاحبه ما استطاع إلى ذلك سبيلا وتحلله منه، ونذكرك بقول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا }. الآية من سورة التحريم، وقوله تعالى : والذين لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (١) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (٢) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . انتهى من (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - الفتوى رقم (٤٢٧١))

وسئلت اللجنة أيضا :

هل التوبة من الكبائر التي فرض الإسلام لها حدودا في القرآن والسنة؛ كالسرقة والزنا وغيرهما، تمنع من إقامة تلك الحدود، وإذا كانت التوبة من هذه الكبائر لا تمنع من إقامة الحدود المقررة لها شرعا، فماذا يفعل إنسان ارتكب ذنبا يوجب الحد في بلد لا تقام فيها الحدود؟

فأجابت :

 الحدود إذا بلغت الحاكم الشرعي وثبتت بالأدلة الكافية وجب إقامتها ولا تسقط بالتوبة بالإجماع، قد جاءت الغامدية إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طالبة إقامة الحد عليها بعد أن تابت، وقال في حقها : « لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لوسعتهم » ، ومع ذلك قد أقام عليها الحد الشرعي، وليس ذلك لغير السلطان .

أما إذا لم تبلغ العقوبة السلطان، فعلى العبد المسلم أن يستتر بستر الله، ويتوب إلى الله توبة صادقة، عسى الله أن يقبل منه . وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . انتهى من (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - الفتوى رقم (٩٠٠٠))

وسئلت اللجنة أيضا :

 إذا اعتدى إنسان على فتاة وأنجب منها، وبعد ذلك تزوجها، هل يعتبر هذا الزواج توبة أم لا ؟

فأجابت :

مجرد زواجه بها لا يعتبر توبة، وإنما التوبة بالرجوع إلى الله، والندم على ما حصل من الزنا، والعزم على عدم العود إلى الزنا لو أتيحت الفرصة، فإذا تابا هذه التوبة ثم تزوجها بعد استبرائها بحيضة أو ولادتها إذا كانت حاملا، وكان ذلك عن طريق وليها الشرعي مع المهر ورضاها - صح العقد وصارت زوجة له وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . انتهى من (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء - الفتوى رقم (٩٦٤٣))


والله اعلم


وللفائدة..


هل اعجبك الموضوع :
author-img
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تعليقات