">

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

من الصفات المشتركة بين الخوارج قديما وحديثا هي الخروج على ولي أمر المسلمين الجائر والدعوة إلى ذلك والخروج على أمة الإسلام واعتبار بلادهم بلاد كفر وحرب وتكفير حكام المسلمين وأعوانهم وشعوبهم ممن لم يوافقهم وينظم إليهم . 

فالخوارج كفروا علي بن أبي طالب ومعاوية والحكمين ومن رضي بحكمهما وهم من هم ورتبوا على ذلك جميع لوازم الكفر كاستحلال الدم ثم اتفقوا على قتلهم. فكيف يرضون بحكام الآن؟! .

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/ 279) : " وَالْخَوَارِجُ هُمْ أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ الْمُسْلِمِينَ يُكَفِّرُونَ بِالذُّنُوبِ ، وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي بِدْعَتِهِمْ وَيَسْتَحِلُّونَ دَمَهُ وَمَالَهُ . وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْبِدَعِ يَبْتَدِعُونَ بِدْعَةً وَيُكَفِّرُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِيهَا . 

وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يَتَّبِعُونَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَيَتَّبِعُونَ الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ ..". انتهى.

والأصل في المسلم الظاهر العدالة بقاء إسلامه وبقاء عدالته ولا يزول عنه إسلامه بمجرد الشبهة بل لا يزول عنه إلا بيقين وبتحقق قيام الحجة عليه وانقطاع عذره بها .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْقَوْلَ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا فَيُطْلَقُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِ صَاحِبِهِ وَيُقَالُ مَنْ قَالَ كَذَا فَهُوَ كَافِرٌ ، لَكِنَّ الشَّخْصَ الْمُعَيَّنَ الَّذِي قَالَهُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ تَارِكُهَا " انتهى من " مجموع الفتاوى " (23/ 345) .

فمن عمل عملا وهو يجهل أن الله حرم ذلك العمل عليه لم يؤاخذ بما عمله ولم تترتب عليه آثار ذلك العمل حتى يُعَرَّف وتقام عليه الحجة وتتبين له المحجة . قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ). التوبة/115 .

وإليكم الشبهات والرد عليها

الشبهة الأولى :

( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) هل صح أثر ابن عباس، رضي الله عنهما : وهو قوله : "كفر دون كفر". وفي رواية : "ليس الكفر الذي تذهيون إليه". ورواية : "ليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه".؟ لأن نفرا طعنوا فيه، فقالوا : هذا الأثر الوارد ضعيف بجميع رواياته، بألفاظها المختلفة؟؟

الرد عليها :

قد صحّ عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسّر الكفر الذي في قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. [المائدة ٤٤] بأنه الكفر الأصغر الذي لا ينقل عن الملة .

فأخرج عبد الرزاق في " تفسيره " عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : " هي به كفر "، قال ابن طاووس رحمه الله : " وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله ". (١/ ١٨٦/٧١٣) .. وهذا إسناد صحيح لا مطعن فيه.

ويتعلق بهذا ثلاث مسائل

المسألة الأولى :

فسّر البعضُ قوله : " هي به كفر "؛ بالكفر الأكبر، وهذا خطأ لأربعة أمور :

١. جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا، وقد أجمع أهل السنة على أنه كفر أصغر؛ وذلك في قوله : " اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت ". (مسلم ٢٢٤)، فإجماعهم على أن الكفر في الذي الحديث هو الكفر الأصغر؛ دليل على أن الكفر الذي في أثر ابن عباس كذلك، فاحفظه فإنه مهم.

٢. ثبوت تفسير الكفر الذي في الآية بالكفر الأصغر عن اثنين من أصحاب ابن عباس رضي الله عنه (= طاووس وعطاء رحمهما الله)، وقد تقدم (ص ٤١)، ومذهب الصحابي يُعْرَف من مذهب أصحابه.

٣. تفسير ابن طاووس رحمه الله الكفر بأنه الأصغر، والراوي أعلم بمَرْويِّه من غيره .

٤. لم يحك أحد من أهل العلم عن ابن عباس القول بالكفر الأكبر، بل فهموا منه أنه يريد الكفر الأصغر، فمخالفتهم شذوذ وتحريف وإتيان بفهم لا يعرفه أهل العلم.

المسألة الثانية :

زعم البعضُ أن قول ابن طاووس رحمه الله : " وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله " يحتمل الكفر الأكبر، ولكنه كفر أكبر دون الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا خطأ لثلاثة أمور :

١. أن الكفر درجات، وهذا أمر معلوم بداهة، ومن اللغو أن يحمل قول ابن طاووس رحمه الله على تقرير أمرٍ بدهي ليس محل خلاف.

٢. أن الكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ أشد درجات الكفر ولا يكاد يكون في الوجود كفر أكبر إلا وهو دونه، فلو لم يكن مراده الكفر الأصغر لكان كلامه عبثاً؛ لأنه لا يقرر أمراً ذا أهمية.

٣. ثبوت تفسير الكفر الذي في الآية بالكفر الأصغر عن أبيه ( طاووس) وقد تقدم (ص ٤١)، فلا يبعد أن يكون تلقاه من أبيه ثم قال به.

المسألة الثالثة :

روي أثر ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ : " إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة، كفر دون كفر "، وقد تعاقب أهل العلم على تصحيح هذه الرواية، وتأكيد نسبتها، ومنهم من احتج بها، ومنهم من أخذها رأياً له وقال بها.

ولا حجة أيضا فيمن احتج باثر عبدالله ابن مسعود لأن كلام ابن عباس وابن مسعود فى تفسير آية المائدة بلا شك هو فى الكفر الأصغر  . 

فعن مسروق، قال : " سئل عبد الله بن مسعود عن السحت، فقال : الرشى. قيل له : في الحكم؟ قال : ذاك الكفر. قال : ثم قرأ : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ). ومعلوم أن الرشوة لا تخرج المرتشي من الملة. انتهى

( وإليك العلماء الأعلام الذين صرحوا بصحة تفسير ابن عباس واحتجوا به )

الحاكم في المستدرك (2/393)، ووافقه الذهبي، الحافظ ابن كثير في تفسيره (2/64) قال : صحيح على شرط الشيخين، الإمام القدوة محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة (2/520)، الإمام أبو المظفر السمعاني في تفسيره (2/42)، الإمام البغوي في معالم التنزيل (3/61)، الإمام أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن (2/624)، الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (6/190)، الإمام البقاعي في نظم الدرر (2/460)، الإمام الواحدي في الوسيط (2/191)، العلامة صديق حسن خان في نيل المرام (2/472)، العلامة محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان (2/101)، العلامة أبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان (ص 45)، العلامة أبو حيان في البحر لمحيط (3/492)، الإمام ابن بطة في الإبانة (2/723)، الإمام ابن عبد البر في التمهيد (4/237)، العلامة الخازن في تفسيره (1/310)، العلامة السعدي في تفسيره (2/296)، شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (7/312)، العلامة ابن القيم الجوزية في مدارج السالكين (1/335)، محدث العصر العلامة الألباني في "الصحيحة" (6/109).

وإليك أقوال الأكابر فى هذه المسألة

1- قال إسماعيل بن سعد في سؤالات بن هانئ " ٢/١٩٢" : سألت أحمد ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) فما هذا الكفر ؟ قال " كفر لا يخرج من الملة ".انتهى

2- ذكر شيخ الإسلام بن تيمية في مجموع الفتاوى "٧/٢٥٤" ، و تلميذه بن القيم في حكم تارك الصلاة صفحة ( ٥٩/٦) : أن الإمام أحمد رحمه الله سؤل عن الكفر المذكور في آية الحكم فقال " كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض ، فكذلك الكفر حتى يجيئ من ذلك أمر لا يختلف فيه " .انتهى

3- قال البخاري في «صحيحه» : ( باب كفران العشير، وكفر دون كفر). قال القاضي ابن العربي المالكي : " مراد المصنف؛ يعني : البخاري : أن يبين أن الطاعات؛ كما تسمى إيماناً؛ كذلك المعاصي تسمى كفراً؛ لكن حيث يطلق عليها الكفر : لا يراد الكفر المخرج من الملة" كما في «فتح الباري» (1/83)

4- يقول الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم في الإيمان : " وأما الفرق ان الشاهد عليه في التنزيل : فقول الله عز وجل : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَاللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾.
 
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : "ليس بكفر ينقل من الملة"

وقال عطاء بن أبي رباح : "كفر دون كفر". 

فقد تبين لنا إذا كان ليس بناقل عن ملة الإسلام أن الدين باق على حاله،وإن خالطه ذنوب، فلا معنى له إلا أخلاق الكفار وسنتهم؛ لأن من سنن الكافر الحكم بغير ما أنزل الله". 

ألا تسمع قوله : ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾. وتأويله عند أهل التفسير : أن من حكم بغير ما أنزل الله، وهو على ملة الإسلام، كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أن أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون ". انتهى من (كتاب الإيمان(ص89 - 90)

5- يقول ابن جرير الطبري : "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب : قول من قال : نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب؛ لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبراًعنهم أولى.
 
فإن قال قائل : فإن الله تعالى قد عمّ بالخبر بذلك عن جميع من لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصاً؟! 

قيل : إن الله تعالى عمّ بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله، الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبرعنهم أنهم،بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه،كافرون، وكذلك القول في كلّ من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به، هو بالله كافر؛ كما قال ابن عباس"جامع البيان (6/166)

-وقال : يقول تعالى ذكره : ومن كتم حُكم الله، الذي أنـزله في كتابه، وجعله حكمًا يين عباده، فأخفاه وحكم بغيره،كحكم اليهود في الزانيين المحصنين بالتجبيه والتحميم،وكتمانهم الرجم، وكقضائهم في بعض قتلاهم بدية كاملة وفي بعض بنصف الدية، وفي الأشراف بالقِصاص، وفي الأدنياء بالدية، وقد سوَّى الله بين جميعهم في الحكم عليهم في التوراة : ﴿ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنـزل الله في كتابه، ولكن بدَّلواوغيروا حكمه، وكتموا الحقَّ الذي أنـزله في كتابه" هم الكافرون "...: هم الذين سَتَروا الحق الذي كان عليهم كشفه وتبيينُه،وغطَّوه عن الناس،وأظهروا لهم غيره، وقضوا به، لسحتٍ أخذوه منهم عليه. (جامع البيان (6/166)

6-يقول أبو عبد الله ابن بطة العكبري : " باب ذكر الذنوب التي تصير بصاحبها إلى كفر غير خارج به من الملّة" "الإبانة" (2/723) - وذكر ضمن هذا الباب : الحكم بغير ما أنزل الله، وأورد آثار الصحابة والتابعين على أنه كفر أصغر غير ناقل من الملة ". انتهى."الإبانة" (2/ 733-737).

7- يقول الإمام محمد بن نصر المروزي : " ولنا في هذا قدوة بمن روى عنهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين؛ إذ جعلوا للكفر فروعاً- دون أصله - لا تنقل صاحبه عن ملة الإسلام، كما ثبتوا للإيمان من جهة العمل فرعاً للأصل، لا ينقل تركه عن ملة الإسلام، من ذلك قول ابن عباس-أي كفر دون كفر- في قوله تعالى : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُون ﴾. تعظيم قدر الصلاة "(2/520).

- وقال، معقباً على أثر عطاء - أي كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق-: " وقد صدق عطاء؛ قد يسمى الكافر ظالماً، ويسمى العاصي من المسلمين ظالماً، فظلم ينقل عن ملة الإسلام وظلم لاينقل ". من كتاب تعظيم قدر الصلاة "(2/523).

8- يقول  الإمام ابن الجوزي : " وفصل الخطاب : أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله؛ كما فعلت اليهود؛ فهو كافر. ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود؛ فهو ظالم فاسق، وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ أنه قال : من جحد ما أنزل الله؛ فقد كفر، ومن أقر به؛ ولم يحكم به؛ فهو ظالم فاسق ".انتهى. " زاد المسير" (2/366).

9- يقول  الإمام ابن العربي : " وهذا يختلف : إن حكم بما عنده على أنه من عند الله، فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية، فهو ذنب تدركه المغفرة، على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين . انتهى " أحكام القرآن " (2/624).

10- قال الحافظ ابن كثير (المتوفى سنة :774) رحمه الله في "تفسير القرآن العظيم" (2/61) : ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً، وقال ههنا : (فَأُوْلَـئِكَ هُم الظَّالِمُونَ) لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه، فخالفوا وظلموا وتعدوا ".انتهى

11- قال الإمام الشاطبي (المتوفى سنة :790) في "الموافقات" (4/39) : " هذه الآية والآيتان بعدها نزلت في الكفار، ومن غيّر حكم الله من اليهود، وليس في أهل الإسلام منها شيء؛ لأن المسلم –وإن ارتكب كبيرة- لا يقال له : كافر ".انتهى

12- يقول الإمام القرطبي - وهو شيخ القرطبي صاحب التفسيرالشهير-: "وقوله ﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يحتج بظاهره من يكفر بالذنوب،وهم الخوارج!، ولا حجة لهم فيه؛ لأن هذه الآيات نزلت في اليهود المحرفين كلام الله تعالى، كما جاء في الحديث، وهم كفار،فيشاركهم في حكمها من يشاركهم في سبب النزول". انتهى من المفهم شرح صحيح مسلم (5/117).

-وقال أيضا : " ومقصود هذاالبحث، أنَّ هذه الآيات – آيات المائدة – المراد بها : أهل الكفر والعناد، وأنها وإن كانت ألفاظها عامة، فقد خرج منها المسلمون؛ لأنَّ ترك العمل بالحكم، مع الإيمان بأصله هو دون الشرك، وقد قال تعالى : { إن الله لايَغْفِرُ أن يُشرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ }.النساء:48. وترك الحكم بذلك ليس بشرك بالاتفاق، فيجوز أن يغفر،والكفر لا يغفر، فلا يكون ترك العمل بالحكم كفراً ". انتهى من المفهم (5/117-118)

13- قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله : "وقد ضلّتْ جماعة من أهل البدع، من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب، فاحتجوا بآياتٍ من كتاب الله، ليست على ظاهرها، مثل قوله تعالى ( وساق الآية المتقدمة ) ".انتهى [(التمهيد17/16)].

14- وقال ابن تيمية رحمه الله : " وإذا كان مِن قول السلف : ( إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق )، فكذلك في قولهم : ( إنه يكون فيه إيمان وكفر ) ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.[المائدة ٤٤] قالوا : كفروا كفراً لا ينقل عن الملة، وقد اتبعهم على ذلك : أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة ".انتهى (الفتاوى ٧/ ٣١٢).

وقال رحمه الله : " وقال ابن عباس وغير واحد من السلف في قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. [المائدة ٤٤]، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }. [المائدة ٤٥] و { الظَّالِمُونَ }. [المائدة ٤٧] : كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، وقد ذكر ذلك أحمد والبخاري ". انتهى (الفتاوى ٧/ ٥٢٢).

وقال رحمه الله : " وقد يكون مسلماً وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة - ابن عباس وغيره -: كفر دون كفر. وهذا قول عامة السلف، وهو الذي نص عليه أحمد وغيره ... كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. [المائدة ٤٤] قالوا : كفر لا ينقل عن الملَّة وكفر دون كفر وفسق دون فسق وظلم دون ظلم ". انتهى (الفتاوى ٧/ ٣٥٠).

15- وقال ابن القيم رحمه الله عن الكفر الأصغر: " وهذا تأويل ابن عباس وعامة الصحابة في قوله تعالى : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }. [المائدة ٤٤] قال ابن عباس : ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر. وكذلك قال طاووس. وقال عطاء : هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق". انتهى (مدارج السالكين ١/ ٣٤٥).

وقال أيضا رحمه الله :  ( إنَّ الحُكمَ بغيرِ ما أنزل اللهُ يتناوَلُ الكُفْرينِ؛ الأصغَرَ والأكبَرَ، بحسَبِ حالِ الحاكِمِ؛ فإنَّه إن اعتقد وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ في هذه الواقعةِ، وعَدَل عنه عصيانًا، مع اعترافِه بأنَّه مُستحِقٌّ للعقوبةِ؛ فهذا كُفرٌ أصغَرُ، وإن اعتقد أنَّه غيرُ واجبٍ، وأنَّه مُخيَّرٌ فيه، مع تيقُّنِه أنَّه حُكمُ اللهِ؛ فهذا كُفرٌ أكبَرُ، وإن جَهِلَه وأخطأَه فهذا مخطئٌ له حُكمُ المخطِئين). يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/346).

وقال أيضا في "الصلاة وحكم تاركها" ( ص 72): " وههنا أصل آخر، وهو الكفر نوعان : كفر عمل. وكفر جحود وعناد. فكفر الجحود: أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحوداً وعناداً؛ من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.

وأما كفر العمل : فينقسم إلى ما يضاد الإيمان، وإلى ما لا يضاده : فالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبيِّ، وسبه؛ يضاد الإيمان.  وأما الحكم بغير ما أنزل الله ، وترك الصلاة؛ فهو من الكفر العملي قطعاً ".انتهى.

16- وقال ابنُ أبي العِزِّ رحمه الله : ( هنا أمرٌ يجِبُ أن يُتفطَّن له، وهو أنَّ الحُكمَ بغيرِ ما أنزل اللهُ قد يكون كُفرًا ينقُل عن الملَّةِ، وقد يكونُ مَعصيةً كبيرةً أو صغيرةً، ويكون كُفرًا إمَّا مجازيًّا، وإمَّا كُفرًا أصغَرَ، على القولينِ المذكورينِ، وذلك بحسَبِ حالِ الحاكمِ؛ فإنَّه إن اعتقد أنَّ الحُكمَ بما أنزل اللهُ غيرُ واجبٍ، وأنَّه مخيَّرٌ فيه، أو استهان به، مع تيقُّنِه أنَّه حُكمُ اللهِ؛ فهذا كُفرٌ أكبرُ، وإن اعتقد وجوبَ الحُكمِ بما أنزل اللهُ، وعَلِمَه في هذه الواقعةِ، وعَدَل عنه، مع اعترافِه بأنَّه مُستحِقٌّ للعقوبةِ؛ فهذا عاصٍ، ويُسَمَّى كافرًا كُفرًا مجازيًّا أو كُفرًا أصغَرَ، وإن جَهِل حُكمَ اللهِ فيها، مع بَذْلِ جُهدِه واستفراغِ وُسعِه في معرفةِ الحُكمِ، وأخطَأَه؛ فهذا مخطئٌ، له أجرٌ على اجتهادِه، وخطؤُه مغفورٌ ). يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 446).

17- وقال الشيخ محمد رشيد رضا، رحمه الله : أما ظاهر الآية، فلم يقل به أحدٌ من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد ".انتهى [(تفسير المنار6/406)].

18- قال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ (المتوفى سنة : 1293) في "منهاج التأسيس" ( ص 71) : وإنما يحرُم إذا كان المستند إلى الشريعة باطلة تخالف الكتاب والسنة، كأحكام اليونان والإفرنج والتتر، وقوانينهم التي مصدرها آراؤهم وأهوائهم، وكذلك البادية وعادتهم الجارية... فمن استحل الحكم بهذا في الدماء أو غيرها؛ فهو كافر، قال تعالى : ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ ... وهذه الآية ذكر فيها بعض المفسرين : أن الكفر المراد هنا : كفر دون الكفر الأكبر؛ لأنهم فهموا أنها تتناول من حكم بغير ما أنزل الله، وهو غير مستحل لذلك، لكنهم لا ينازعون في عمومها للمستحل، وأن كفره مخرج عن الملة ".انتهى

-  وقال أيضا رحمه الله : " وما ذكرتَه عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، ومَن لم يستحل؛ فهو الذي عليه العمل، وإليه المرجع عند أهل العلم ".انتهى (عيون الرسائل ٢/ ٦٠٥).

19-  وقال سليمان بن سحمان رحمه الله : " يعني : أن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله ورأى أن حكم الطاغوت أحسن من حكم الله ... فمن اعتقد هذا فهو كافر، وأما من لم يستحل هذا ويرى أن حكم الطاغوت باطل وأن حكم الله ورسوله هو الحق فهذا لا يكفر ولا يخرج من الإسلام ". انتهى (عيون الرسائل ٢/ ٦٠٣).

20- وقال العلامة السَّعديُّ رحمه الله : ( الحُكْمُ بغيرِ ما أنزل اللهُ مِن أعمالِ أهلِ الكُفْرِ، وقد يكونُ كُفرًا يَنقُلُ عن الملَّةِ، وذلك إذا اعتَقَد حِلَّه وجوازَه، وقد يكونُ كبيرةً مِن كبائِرِ الذُّنوبِ ومن أعمالِ الكُفْرِ، قد استحَقَّ مَن فَعَلَه العذابَ الشَّديدَ ) .يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 233).

21- وقال العلامة الشِّنقيطيُّ رحمه الله : ( الظَّاهِرُ المتبادِرُ مِن سياقِ الآياتِ أنَّ آيةَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ نازلةٌ في المُسلِمينَ؛ لأنَّه تعالى قال قَبْلَها مخاطِبًا لمُسلِمي هذه الأُمَّةِ : فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا. [المائدة: 44] ، ثم قال : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. [المائدة: 44] ، فالخِطابُ للمُسلِمين كما هو ظاهِرٌ متبادِرٌ من سياقِ الآيةِ، وعليه فالكُفْرُ إمَّا كُفرٌ دونَ كُفرٍ، وإمَّا أن يكونَ فَعَل ذلك مُستَحِلًّا له، أو قاصِدًا به جَحْدَ أحكامِ اللهِ ورَدَّها مع العِلْمِ بها.

أمَّا من حَكَم بغيرِ حُكمِ اللهِ، وهو عالمٌ أنَّه مرتكِبُ ذنبًا، فاعِلٌ قبيحًا، وإنَّما حمله على ذلك الهوى، فهو من سائِرِ عُصاة المُسلِمين، 

وسياقُ القرآنِ ظاهِرٌ أيضًا في أنَّ آيةَ : فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون. في اليهودِ؛ لأنَّه قال قبلها : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. [المائدة: 45] . فالخِطابُ لهم؛ لوُضوحِ دَلالةِ السِّياقِ عليه، 

كما أنَّه ظاهِرٌ أيضًا في أنَّ آيةَ : فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. فِي النَّصَارَى؛ لأنَّه قال قَبْلَها : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. [المائدة: 47] ، 

واعلَمْ أنَّ تحريرَ المقامِ في هذا البَحثِ : أنَّ الكُفْرَ والظُّلمَ والفِسْقَ، كُلُّ واحدٍ منها ربما أُطلِقَ في الشَّرعِ مرادًا به المعصيةُ تارةً، والكُفْرُ المخرِجُ مِن الملَّةِ أخرى، ومَن لم يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ؛ مُعارضةً للرُّسُلِ، وإبطالًا لأحكامِ اللهِ، فظُلْمُه وفِسْقُه وكُفْرُه، كُلُّها كُفرٌ مخرجٌ عن الملَّةِ، ومن لم يحكُمْ بما أنزل اللهُ، معتَقِدًا أنَّه مرتكِبٌ حَرامًا، فاعِلٌ قبيحًا؛ فكُفْرُه وظُلمُه وفِسقُه غيرُ مخرجٍ عن الملَّةِ، 

وقد عرَفْتَ أنَّ ظاهِرَ القُرآنِ يدُلُّ على أنَّ الأُولى في المُسلِمين، والثَّانيةَ في اليهودِ، والثَّالثةَ في النَّصارى، والعِبرةُ بعُمومِ الألفاظِ لا بخُصوصِ الأسبابِ ). يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 407).

22- قال سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز (المتوفى سنة : 1420) فى مقالة نشرت جريدة الشرق الأوسط في عددها (6156) بتاريخ 12/5/1416 مقالة قال فيها : " اطلعت على الجواب المفيد القيّم الذي تفضل به صاحب الفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – وفقه الله – المنشور في جريدة "الشرق الأوسط" وصحيفة "المسلمون" الذي أجاب به فضيلته من سأله عن تكفير من حكم بغير ما أنزل الله – من غير تفصيل -، فألفيتها كلمة قيمة قد أصاب فيه الحق، وسلك فيها سبيل المؤمنين، وأوضح – وفقه الله – أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يكفر من حكم بغير ما أنزل الله – بمجرد الفعل – من دون أن يعلم أنه استحلّ ذلك بقلبه، واحتج بما جاء في ذلك عن ابن عباس – رضي الله عنهما – وغيره من سلف الأمة.

ولا شك أن ما ذكره في جوابه في تفسير قوله تعالى : ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿...الظَّالِمُونَ ﴾، ﴿ ...الْفَاسِقُونَ﴾، هو الصواب، وقد أوضح – وفقه الله – أن الكفر كفران : أكبر وأصغر، كما أن الظلم ظلمان، وهكذا الفسق فسقان : أكبر وأصغر، فمن استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو الزنا أو الربا أو غيرهما من المحرمات المجمع على تحريمها فقد كفر كفراً أكبر، ومن فعلها بدون استحلال كان كفره كفراً أصغر وظلمه ظلماً أصغر وهكذا فسقه ".انتهى

23- قال محدث العصر العلامة محمد بن ناصر الدين الألباني (المتوفى سنة : 1420) في "التحذير من فتنة التكفير" ( ص 56) : " ... ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾؛ فما المراد بالكفر فيها؟ هل هو الخروج عن الملة؟ أو أنه غير ذلك؟، فأقول : لا بد من الدقة في فهم الآية؛ فإنها قد تعني الكفر العملي؛ وهو الخروج بالأعمال عن بعض أحكام الإسلام.

ويساعدنا في هذا الفهم حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، الذي أجمع المسلمون جميعاً – إلا من كان من الفرق الضالة – على أنه إمام فريد في التفسير.

فكأنه طرق سمعه – يومئذ – ما نسمعه اليوم تماماً من أن هناك أناساً يفهمون هذه الأية فهماً سطحياً، من غير تفصيل، فقال رضي الله عنه : " ليس الكفر الذي تذهبون إليه "، و : " أنه ليس كفراً ينقل عن الملة "، و : "هو كفر دون كفر"، ولعله يعني : بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين، فقال : ليس الأمر كما قالوا! أو كما ظنوا! إنما هو : كفر دون كفر...".انتهى

24- وقال الشيخ العثيمين رحمه الله فى آخر فتاويه :... أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله : فهو كما في الكتاب العزيز ينقسم إلى ثلاثة
أقسام : كفر ، وظلم ، وفسق ؛ على حسب الأسباب التي بُنيَ عليها هذا الحكم .

فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعاً لهواه مع علمه بأن الحق فيما قضى الله به : فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق وظالم.

وأما إذا كان يَشْرَع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة ، يرى أن ذلك من المصلحة ، وقد لُبِّس عليه فيه : فلا يكفر أيضاً؛ لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة ، ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي ، وهم يرونه عالماً كبيراً فيحصل بذلك المخالفة .

وإذا كان يعلم الشرعَ ولكنه حكم بهذا ، أو شَرَع هذا ، وجعله دستوراً يمشي الناس عليه ؛ يَعتقد أنه ظالم في ذلك ، وأن الحق فيما جاء به الكتاب والسنة : فإننا لا نستطيع أن نكفِّر هذا . وإنما نكفِّر : من يرى أن حكم غير الله أولى أن يكون الناس عليه ، أو مثل حكم الله عز وجل ؛ فإن هذا كافر ؛ لأنه مكذب لقول الله تبارك وتعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ )، وقوله : ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) .

ثم هذه المسائل ؛ لا يعني أننا إذا كفرنا أحداً فإنه يجب الخروج عليه ؛ لأن الخروج يترتب عليه مفاسد عظيمة أكبر من السكوت ، ولا نستطيع الآن أن نضرب أمثالاً فيما وقع في الأمة العربية وغير العربية .
وإنما إذا تحققنا جواز الخروج عليه شرعاً فإنه لابد من استعداد وقوة تكون مثل قوة الحاكم أو أعظم .

وأما أن يخرج الناس عليه بالسكاكين والرماح ومعه القنابل والدبابات وما أشبه هذا ؛ فإن هذا من السفه بلا شك وهو مخالف للشرع ». انتهى من شريط : « التحرير في مسألة التكفير » ، إصدار تسجيلات « ابن القيم » بالكويت .

25- سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية
الفتوى رقم (6310) :

 س: ما حكم من يتحاكم إلى القوانين الوضعية، وهو يعلم بطلانها، فلا يحاربها، ولا يعمل على إزالتها؟

فأجابت :

 " الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله، وآله وصحبه؛ وبعد : الواجب التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند الاختلاف، قال تعالى : ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾، وقال تعالى :﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾. والتحاكم يكون إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن يتحاكم إليها مستحلاً التحاكم إلى غيرهما من القوانين الوضعيه بدافع طمع في مال أو منصب؛ فهو مرتكب معصية، وفاسق فسقاً دون فسق، ولا يخرج من دائرة الإيمان ".انتهى

26- وسُئل العلامة الشيخ عبد المحسن العباد البدر – حفظه الله - في المسجد النبوي في درس شرح سنن أبي داود بتاريخ: 16/11/1420 :

هل استبدال الشريعة الإسلامية بالقوانين الوضعية كفر في ذاته؟ أم يحتاج إلى الاستحلال القلبي والاعتقاد بجواز ذلك؟ وهل هناك فرق في الحكم مرة بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين تشريعاً عاماً مع اعتقاد عدم جواز ذلك؟

فأجاب :

 "يبدو أنه لا فرق بين الحكم في مسألة، أو عشرة، أو مئة، أو ألف – أو أقل أو أكثر – لا فرق؛ ما دام الإنسان يعتبر نفسه أنه مخطئ، وأنه فعل أمراً منكراً، وأنه فعل معصية، وانه خائف من الذنب، فهذا كفر دون كفر.

وأما مع الاستحلال – ولو كان في مسألة واحدة، يستحل فيها الحكم بغير ما أنزل الله، يعتبر نفسه حلالاً-؛ فإنه يكون كافراً ".انتهى.

فلماذا التغبيش والتلبيس وإلحاق تهمة الإرجاء لكل من قال بذلك .

تنبيه : لا فرق بين من حكم بغير ما أنزل في " مسألة وحدة أو مسألتين"، وبين من حكم به "اطرادا ". فليس هناك دليل واضح على هذا التفريق المزعوم من كتاب أو سنَّةٍ أو حتى قول لصحابي . " وما كان كذلك كان أولى بالطرح وعدم القبول ".

إذ أن علة الحكم عليه بالكفر هي : أنه حكم بغير ما أنزل الله "مستحلا أو معاندا، أو ترك الحكم بما أنزل الله مستهزئا أو مستهينا مستحقرا ". فليست المسألة متعلقة بمن حكم بغير ما أنزل الله "مرة أو مرتين أو عشرة أو مائة " أو "اطرادا ".

فمناط الحكم عليه بالكفر هو" الاستحلال أو الجحود أو الاستهزاء أو الاحتقار أو الاستهانة "، وليس أنه جعله "تشريعا عاما". 

إذ لا فرق بين من حكم به مرة أو عشرة أو مائة أو ألفا أو عشرة الآلاف متبعا لهواه - ولكنه معتقد بوجوب الحكم بغير ما أنزل الله-، وبين من جعل القانون الوضعي تشريعا عاما - مع اعتقاده لوجوب الحكم بغير ما أنزل الله.

تنبيه آخر : المرء الواقع في أيّ معصيةٍ يصدُقُ عليه أنه حاكمٌ بغير ما أنزل الله ولم يطبق شرع الله؛ فمثلاً : المُرابي يكون كذلك لأن حُكْمَ اللهِ تعالى في ذلك أن الربا حرام فمن ثَمّ كان المُرابي قد حكَّم هواه في شأن نفسه ولم يأخذ بحكم الله تعالى .

اللازم الفاسد لذلك ( النتيجة ) : فيلزم من هذا تكفير كلّ مَن وقع في المعصية ! كالمُرابي في المثال السابق !.

ولأجل فساد هذا الإطلاق فقد قال العلماء عن آية المائدة : « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ». أن ظاهرها ليس بمرادٍ وأنه لا يجوز أخذها على إطلاقها :

قال ابن عبد البر - رحمه الله - ( التمهيد 17/16 ) : « وقد ضلّتْ جماعة من أهل البدع من :الخوارج , والمعتزلة ,في هذا الباب فاحتجوا بآياتٍ من كتاب الله ليست على ظاهرها مثل قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ». انتهى .

وقال العلامة أبوحيان الأندلسي - رحمه الله - ( البحر المحيط 3/493 ) :
« واحتجّت الخوارج بهذه الآية على أن كل من عصى الله تعالى فهو كافر , وقالوا : هي نصٌّ في كل من حكم بغير ما أنزل الله ؛ فهو كافر ».انتهى 

وقال الخطيب البغدادي - رحمه الله - ( تأريخه 10/183 , ترجمة الخليفة المأمون , ترجمة رقم : 5330 ) :« أخبرنا أبو محمد يحيى بن الحسن بن الحسن بن المنذر المحتسب ,أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدّل ,أخبرنا أبو بكر بن دريد ,أخبرنا الحسن بن خضر قال : سمعت ابن أبي دؤاد يقول : 

أُدخل رجلٌ من الخوارج على المأمون ,

فقال : ما حملك على خلافنا ؟

قال : آيةٌ في كتاب الله تعالى .

قال : وما هي ؟

قال : قوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) .

فقال له المأمون : ألكَ عِلْمٌ بأنها مُنزَلة ؟

قال : نعم ,

قال : وما دليلك ؟

قال : إجماع الأمة ,

قال : فكما رضيتَ بإجماعهم في التنزيل فارضَ بإجماعهم في التأويل ,

قال : صدقتَ , السلام عليك يا أمير المؤمنين ». انتهى . 

وإليك تخريج العلامة المحدث الشيخ ناصر الألباني رحمه الله، لأثر ابن عباس :

2552- إن الله عز وجل أنزل : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } و{ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } و{فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ المائدة}.

قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود...... الحديث أخرجه أحمد (1/246) والطبراني في (المعجم الكبير) (3/95/1) من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس قال : فذكره. وعزاه السيوطي في (الدر المنثور) (2/281) لأبي داود أيضا وابن جرير وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردوية عن ابن عباس، وهو عند ابن جرير في (التفسير (12037ج10/352) من هذا الوجه، لكنه لم يذكر في إسناده ابن عباس.

وعند أبي داود (3576) نزول الآيات الثلاث في اليهود خاصة في قريظة والنضير. فقط خلافا لما يوهمه قول ابن كثير في التفسير (6/160) بعد ما ساق رواية أحمد هذه المطولة : (ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه نحوه)!

وقد نقل عن صاحب (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) أنه حسن إسناده. ولم أر هذا في كتابه : (التفسير) فلعله في بعض كتبه الأخرى. وتحسين هذا الإسناد هو الذي تقتضيه قواعد هذا العلم الشريف، فإن مداره على عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو كما قال الحافظ : صدوق، تغير حفظه لما قدم بغداد، وكان فقيها).

فقول الهيثمي (7/16) : (رواه أحمد والطبراني بنحوه، وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهو ضعيف، وقد وثق، وبقية رجال أحمد ثقات).

قلت : فقوله فيه : (ضعيف، وقد وثّق) ليس بجيد؛ لأنه يرجح قول من ضعفه على قول من وثقه، والحق أنه وسط، وأنه حسن الحديث؛ إلا أن يخالف، وهذا مما لا يستفاد من قوله المذكور فيه. والله أعلم.

1- روى ابن جرير الطبري (10/355/12053) بإسناد صحيح عن ابن عباس : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قال : هي به كفر، وليس كفرا بالله وملائكته وكتبه ورسله .

2- وفي رواية عنه في هذه الآية : إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل عن الملة، كفر دون كفرأخرجه الحاكم (2/313)، وقال : (صحيح الإسناد) ووافقه الذهبي، وحقهما أن يقولا : على شرط الشيخين، فإن إسناده كذلك.

ثم رأيت الحافظ ابن كثير نقل في تفسيره (6/163) عن الحاكم أنه قال :(صحيح على شرط الشيخين) فالظاهر أن في نسخة (المستدرك) المطبوعة سقطا، وعزاه ابن كثير لابن أبي حاتم أيضا ببعض اختصار.

3- وفي أخرى عنه من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. أخرجه ابن جرير (12063). قلت : وابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، لكنه جيد في الشواهد.

4- ثم روى (12047-12051)عن عطاء بن أبي رباح قوله : ( وذكر الآيات الثلاث ) : كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. وإسناده صحيح.

5- ثم روى (12052)عن سعيد المكي عن طاووس (وذكر الآية)، قال : ليس بكفر ينقل عن الملة. وإسناده صحيح، وسعيد هذا هو ابن زياد الشيباني المكي، وثقه ابن معين والعجلي وابن حبان وغيرهم، وروى عنه جمع.

6- وروى (12025،12026) من طريقين عن عمران بن حدير قال : أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس ( وفي الطريق الأخرى : نفر من الإباضية ) فقالوا : أرأيت قول الله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } أحق هو؟ قال : نعم. قالوا : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } أحق هو؟ قال : نعم. قالوا : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أحق هو؟ قال نعم. فقالوا : يا أبا مجلز فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال : هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون وإليه يدعون ـ [ يعني الأمراء ] ـ فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم أصابوا ذنبا. فقالوا : لا والله، ولكنك تفرق. قال : أنتم أولى بهذا مني ! لا أرى، وإنكم أنتم ترون هذا ولا تَحَرّجون، ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك. أو نحوا من هذا، وإسناده صحيح.

وجملة القول؛ أن الآية نزلت في اليهود الجاحدين لما أنزل الله. فمن شاركهم في الجحد، فهو كافر كفرا اعتقاديا. ومن لم يشاركهم في الجحد، فكفره عملي؛ لأنه عمل عملهم، فهو بذلك مجرم آثم، ولكن لا يخرج بذلك عن الملة، كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه. وقد شرح هذا وزاده بيانا الإمام الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام في (كتاب الإيمان) (باب الخروج من الإيمان بالمعاصي) (ص 84-97 بتحقيقي)، فليراجعه من شاء المزيد من التحقيق.

وبعد كتابة ماسبق، رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، يقول في تفسير آية الحكم المتقدمة في مجموع الفتاوى ( 3/26: ( أي هو المستحل للحكم بغير ماأنزل الله ). ثم ذكر (7/254) أن الإمام أحمد سُئل عن الكفر المذكور فيها؟ فقال : كفر لا ينقل عن الإيمان، مثل الإيمان بعضه دون بعض، فكذلك الكفر، حتى يجيء من ذلك أمر لا يُختلف فيه. 

وقال (7/312) : ( وإن كان من قول السلف إن الإنسان يكون فيه إيمان ونفاق، فكذلك في قولهم إنه يكون فيه إيمان وكفر؛ ليس هو الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس، وأصحابه، في قوله تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) قالوا : كفر لا ينقل عن الملة. وقد اتبعهم على ذلك أحمد وغيره من أئمة السنة . اه [السلسلة الصحيحة المجلد السادس القسم الأول ص109-116].

وقال العلامة ابن عثيمين في "التحذير من فتنة التكفير" :

لكن لما كان هذا الأثر لا يرضي هؤلاء المفتونين بالتكفير صاروا يقولون : هذا الأثر غير مقبول! ولا يصح عن ابن عباس! فيقال لهم : كيف لا يصحّ؛ وقد تلقاه من هو أكبر منكم، وأفضل، وأعلم بالحديث؟! وتقولون : لا نقبل!!.

فيكفينا أن علماء جهابذة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم  وغيرهما – كلهم تلقوه بالقبول ويتكلمون به، وينقلونه؛ فالأثر صحيح .انتهى

أما القول إنها مدرجة من كلام ابن طاووس، فهل كان ابن طاووس مرجئيا، أو غير معلوم حاله، على الرغم من كونه أحد التلاميذ الكبار لمدارس الصحابة!!؟

 أما قول من قال : " الرواية الصحيحة الثابتة هي رواية عبد الرزاق المطلقة التي تقرر (هي به كفر) "

، فإن قول ابن عباس : " كفر دون كفر"، لا يختلف عن قوله : "هي به كفر". وكلاهما يقصد به مثل ما قاله صلى الله عليه وسلم : " اثنتان فى الناس هما بهم كفر: الطعن فى النسب، والنياحة على الميت ". صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

 وقوله : " من قال مطرنا بنؤ كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب " وقوله : " لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض. وعجبا للشيخ العلوان كيف جازف بالحكم على قول ابن عباس بالنكارة، وهو قول السلف جميعا وهو ماعليه أهل السنة كما نقله شيخ الاسلام عن الإمام البخاري وأقره عليه.

 إذن المقصود بهذه الآيات الثلاث الكفار من اليهود والنصارى وأمثالهم الذين ينكرون الشريعة الإسلامية وأحكامها ويلحق بهم كل من شاركهم في ذلك ولو كان يتظاهر بالإسلام حتى ولو أنكر حكما واحدا منها . 

ولكن مما ينبغي التنبه له أنه ليس كذلك من لا يحكم بشيء منها مع عدم إنكاره ذلك فلا يجوز الحكم على مثله بالكفر وخروجه عن الملة لأنه مؤمن غاية مافي الأمر أن يكون كفره كفرا عمليا . 

وهذه نقطة هامة في هذه المسألة يغفل عنها كثير من الشباب المتحمس لتحكيم الإسلام ولذلك فهم في كثير من الأحيان يقومون بالخروج على الحكام الذين لا يحكمون بالإسلام، فتقع فتن كثيرة وسفك دماء بريئة لمجرد الحماس الذي لم تعد له عدته الواجب عندي تصفية الإسلام مما ليس منه كالعقائد الباطلة والأحكام العاطلة والآراء الكاسدة المخالفة للسنة وتربية الجيل على هذا الإسلام المصفى، والله المستعان . اهـ

الشبهة الثانية : 

قصد ابن عباس

قالوا : إن ابن عباس، رضي الله عنهما، إنما يقصد حكام عصره، لا سيما الأمويين منهم. والفارق هائل بين حكام هذه الأيام وحكام عصر ابن عباس. فما قولكم؟؟

الرد عليها

من صاحب هذا الزعم؟؟ يكفيك من شر سماعه!! أين ذهبت العقول؟؟؟ ومن ثم من هم حكام عصر ابن عباس؟؟ إنهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون الأربعة، رضي الله عنهم أجمعين. فهل يتخيل مسلم أنه يقصدهم بقوله : كفر دون كفر!!؟

أما القول إنه يقصد الخلفاء الأمويين، فهو قول الشيعة الروافض، وهو قول ساقط مختل معتل؛ لما يلي :

·إن كان المقصود هو معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، فهل كان يحكم بغير ما أنزل الله؟؟ سبحانك هذا بهتان عظيم!!

كيف وهو الذي يعدّه عامة أهل السنّة أحد صحابة الرسول، صلّى الله عليه وسلّم، وخال المؤمنين وأحد كتَّاب الوحي، وأحد أشهر الخلفاء في الإسلام. وقد بايعه عامّة الناس سنة 41 هـ، بعدما تخلّى أمير المؤمنين الحسن بن علي عن الخلافة، فسميّ هذا العام عام الجماعة، لاجتماع كلمة المسلمين فيه.

قال الإمام النووي رحمه الله :

 [وأما معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء والصحابة النجباء رضي الله عنه] شرح النووي على صحيح مسلم ٤/٥٣٠.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :

[ ولهذا كانوا – أي الرافضة – أبهت الناس وأشدهم فرية مثل ما يذكرون عن معاوية . فإن معاوية ثبت بالتواتر أنه أمَّره النبي، كما أمره غيره، وجاهد معه، وكان أميناً عنده، يكتب له الوحي، وما اتهمه النبي في كتابة الوحي، وولاه عمر بن الخطاب، الذي كان من أخبر الناس بالرجال، وقد ضرب الله الحق على لسانه وقلبه، ولم يتهمه في ولايته ].مجموع الفتاوى ٤/٤٧٢

وقد وردت أحاديث نبوية في فضل معاوية، رضي الله عنه، منها :

1. عن عبد الرحمن بن أبي عميرة، وكان من أصحاب رسول الله،عن النبي، صلى الله عليه وسلم،أنه قال لمعاوية : " اللهم اجعله هادياً مهدياً واهد به ".(رواه الترمذي 3777)، وقال الألباني : صحيح (السلسلة الصحيحة 1969، وصحيح سنن الترمذي 3/236) .

2. وعن أبي إدريس الخولاني قال : لما عزل عمر بن الخطاب عمير بن سعد عن حمص ولى معاوية فقال الناس : عزل عميراً وولى معاوية !؟ فقال عمير : لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله يقول : اللهم اهد به ". (الترمذي 3778، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/236) .

3. وروى الهيثمي : قال النبي، صلى الله عليه وسلم : " أول هذا الأمرنبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة،ثم يكون ملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة ". (مجمع الزوائد: 5/193(. فمعاوية أول الملوك مباشرةً بعد حقبة الخلافة المباركة.

4. وروى الإمام ابن عساكر : قال نبي الله صلى الله عليه وسلم عن معاوية : " اللهم علمه الكتاب والحساب وقه العذاب ".(تاريخ دمشق:59/80، 85)[3]

5. شهد مع رسول الله حنيناً، وأعطاه مائة من الإبل، وأربعين أوقية من ذهب، وزنها له بلال، رضي الله عنه.

6. وشهد اليمامة، ونقل بعض المؤرخين أن معاوية ممن ساهم في قتل مسيلمة الكذاب.

7. روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. وقال سعد بن أبي وقاص : " ما رأيت أحدًا بعد عثمان أقضى بحقّ من صاحب هذا الباب ـ يعني معاوية ".

بل إن ابن عباس نفسه كان يجل معاوية، وشهد له بالفقه والخير؛ فقال : " ما رأيت رجلا أخلق للملك من معاوية، لم يكن بالضيّق الحصر ".

 وعنه قال : " إذا ذهب بنو حربٍ ذهب حلماء الناس "، -وحرب هذا جد معاوية لأبيه. 

وعن ابن أبي مليكة قال : " أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال : دعه فإنه قد صحب رسول الله. 

وروى البخاري أيضاً بسنده : قيل لابن عباس هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة ؟ قال : إنه فقيه ". (البخاري 3481) .

 قال الحافظ ابن حجر : " وقوله دعه : أي اترك القول فيه، والإنكار عليه؛ فإنه قد صحب : أي فلم يفعل شيئاً إلا بمستند. وفي قوله في الرواية الأخرى : أصاب إنه فقيه ما يؤيد ذلك ".

وقال جبلة بن سحيم، قال عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما: " ما رأيت أحدا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم،أسود (أي: من السيادة) من معاوية" قلت ولا عمر؟ قال : "كان عمر خيراً منه".

قال كعب بن مالك : " لن يملك أحدٌ هذه الأمة ما ملك معاوية ".

وعن قبيصة بن جابر قال : " صحبت معاوية فما رأيت رجلا أثقل حلمًا، ولا أبطل جهلا، ولا أبعد أناةً منه ".

عن أبي إسحاق قال : " كان معاوية؛ وما رأينا بعده مثله ".

·وأما إن كان المقصود هو يزيد بن معاوية، فهو خطأ فادح كذلك : 

·فهل يُعقل أن يؤخر ابن عباس تفسيره لآية الحكم حتى بعد عام 60 للهجرة، (عام ولاية يزيد)، وابن عباس قد جاوز الستين، وهو حبر الأمة، وترجمان القرآن، وتلامذته محيطون به، يتلقون عنه التفسير من قبل ذلك بعشرات السنين!؟؟

·وهل يليق به أن يفسر الآية، ويقصر تفسيرها على زمن معين وشخص معين؛ فيكون بذلك قد خان الآمانة، وأضل الأمة؛ إذ أن أحكام القرآن تشمل كل زمان ومكان!!؟

· ثم من يجرؤ أن يقول إن يزيد حكم بغير ما أنزل الله؟؟ سبحانك هذا بهتان!!

إن يزيد قد صحت خلافته، وبايعه ستون من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، منهم ابن عمر؛ إذ بويع ليزيد، فى حياة أبيه؛ ليكون وليّا للعهد من بعده، ثم أكد البيعة لنفسه بعد موت والده، فى النصف الثانى من رجب سنة ستين، واستمر فى منصبه إلى أن توفى سنة أربع وستين!!.

ولم يكن يزيد بن معاوية – رحمه الله –بذلك الشاب اللاهي، كما تصوره لنا الروايات التاريخية الركيكة؛ بل هو على خلاف ذلك، لكن العجب في المؤلفين من الكتاب الذين لا يبحثون عن الخبر الصحيح ، أو حتى عمّن يأخذوه، فيجمعون في هذه المؤلفات الغث والسمين من الروايات والكلام الفارغ الملفق؛ فتراهم يطعنون فيه؛ فيظهرون صورته ويشوهونها ، بأبشع تصوير.

و للأسف فإن بعض المؤرخين، من أهل السنة، أخذوا من هذه الروايات الباطلة، وأدرجوها في كتبهم، أمثال ابن كثير في البداية والنهاية ، وابن الأثير في الكامل ، وابن خلدون في العبر، والإمام الذهبي في تاريخ الإسلام، وفي غيرها من الكتب. يروون هذا الطعن عن بعض الشيعة المتعصبين أمثال أبي مخنف والواقدي وغيرهم ، وغير هذا أن معظم هذه الكتب أُلفت على عهد العباسيين ، وكما هو معروف مدى العداء بين الأمويين والعباسيين ، فكانوا يبحثون عمّن يطعن في هؤلاء فيملؤون هذه الكتب بالأكاذيب.

منقبة ليزيد بن معاوية :

عن عمير بن الأسود العنسي، أنه أتى عبادة بن الصامت، و هو نازل في ساحة حمص، وهو في بناء له، ومعه أم حرام: فحدثتنا أم حرام أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا ، فقالت أم حرام : قلت يا رسول الله أنا فيهم ؟ قال : أنت فيهم . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم ، فقلت : أنا فيهم قال : لا . (البخاري 2707) .

فتحرك الجيش نحو القسطنطينية، بقيادة بسر بن أرطأة، رضي الله عنه، عام خمسين من الهجرة. فاشتد الأمر على المسلمين، فأرسل بسر يطلب المدد من معاوية؛ فجهز معاوية، رضي الله عنه، جيشاً بقيادة ولده يزيد ، فكان في هذا الجيش كل من : أبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر وابن الزبير وابن عباس وجمع غفير من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين .

وأخرج البخاري أيضاً، عن محمود بن الربيع، في قصة عتبان بن مالك، قال محمود : فحدثتها قوماً فيهم أبو أيوب الأنصاري، صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في غزوته التي توفي فيها ، ويزيد بن معاوية عليهم – أي أميرهم - بأرض الروم . (البخاري 1113) .

* والخلاصة : أن أصحاب هذه الشبهة اتبعوا الشيعة الروافض، فأساءوا إلى القرآن، وإلى ابن عباس، وإلى معاوية، ويزيد، وإلى المسلمين أجمعين.

الشبهة الثالثة : 

الإجماع الذي ذكره إسحاق

سؤال : الإجماع، الذي نقله ابن عبد البر، رحمه الله، عن إسحاق، رحمه الله تعالى، يخالف مفهوم رواية ابن عباس؛ إذ قال فيه : (وقد أجمع العلماء أن من سب الله عز وجل، أو سب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أو دفع شيئا أنزله الله، أو قتل نبيا من أنبياء الله، وهو مع ذلك مقر بما أنزل الله، أنه كافر).[(التمهيد لابن عبد البر ج: 4 ص: 226)] ا.هـ.  وليس معنى الدفع هنا الجحود، أو الاستحلال؛ لقوله رحمه الله: " مقر بما أنزل الله".

فمعنى أنه مقر بما أنزل الله، أي أنه إن كان حكم الله بالوجوب، فإقراره ينافي جحوده. وإن كان حكم الله بالحرمة، فإقراره يعني عدم استحلاله، فيبقى معنى الدفع، وهو " الرد والامتناع عن القبول". فيقول الجصاص، رحمه الله، في قوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...... الآية }: (في هذه الآية دلالة على أن من يرد شيئاً، من أوامر الله، أو أوامر رسوله، صلى الله عليه وسلم، أنه خارج عن دائرة الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة " ترك القبول والامتناع عن التسليم") أ.هـ

وإليك الرد عليها

في الحقيقة هذا تحريف لمقولة الإمام إسحاق بن راهويه، فإنه يجب أخذ كلامه بتمامه، من نقل تلميذه الذي اختص به وأكثر عنه، وهو الإمام محمد بن نصر المروزي، في كتابه "تعظيم قدر الصلاة"، ولفظه : " ومما أجمعوا على تكفيره، وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد؛ فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى، وبما جاء من عنده، ثم قتل نبياً، أو أعان على قتله، وإن كان مقراً، ويقول : قتلُ الأنبياء محرم، فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً، أو رد عليه قوله من غير تقيَّة ولا خوف، ألا ترى إلى ما جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم،: " حين أعطى الأعرابي، ثم قال له : أحسنتُ، قال : لا، ولا أجملت، فغضب أصحابه رضي الله عنهم، حتى هموا بقتله، فأشار إليهم النبي، صلى الله عليه وسلم، بالكف، وقال للأعرابي : " تأتيناه ". فجاءه في بيته، فأعطاه وزاده، ثم قال له : أحسنتُ؟ قال : أي والله وأجملت.."..

ففي هذا تصديق أنه يكفر بالرد على النبي، صلى الله عليه وسلم. ولكن كل من كان كفره من جهة الجهل وغير الاستهانة، رفق به. لأنه كفر دون كفر ". أهـ.

فأنت ترى أن إطلاق كلمة الكفر عليه من إسحاق ابن راهويه لا يعني أنه قد خرج من ملة الإسلام لأنَّ الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حُمل على التشديد والتغليظ .

ويذكر هذا بقول الأنصاري، الذي خاصم الزبير، عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال رسول الله،صلى الله عليه وسلم، للزبير: " اسق يا زبيرُ ثم أرسل الماء إلى جارك "، فغضب الأنصاري، ثم قال : " أن كان ابن عمتك؟!... الحديث.

ولم يحكم النبي، صلى الله عليه وسلم، على الأنصاري بالردَّة، مع أنَّ كلَّ من اتهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الحكم فهو كافر مرتد، وإنما عفا عنه؛ لعلمه أن ما قاله فلتة من فلتات اللسان، وزلة من الشيطان، تمكن بها منه، عند ثورة الغضب، فإطلاق الكفر عليه لا يكون إلا بقصده سب النبي، صلى الله عليه وسلم، أو استحلاله لما حرم الله. كما رفق النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأعرابي..). انتهى كلام الإمام المروزي.

فهذا الأعرابي كان مقرّاً لكل ما أنزل الله على رسوله، صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يرض بحكم النبي، صلى الله عليه وسلم،، بل دفعه وردَّه، ومع ذلك لم يكفره صلى الله عليه وسلم، ولم يخرجه من ملة الإسلام ودائرة الإيمان، بل أقال عثرته، وأعطاه وزاده؛ لعلمه أنه لم يردَّ حكمه عن استهانة أو بغض أو استكبار .

وإذا كان الردُّ أو الدفع لما أنزل الله، لا عن استهانة أو عنادٍ أو إباءٍ، بل عن خوف أو هوى، لم يكن من الكفر في شيء، نحو رد الأعرابي في الحديث السابق. 

وإلى هذا يشير ابنُ راهويه بقوله : " وكذلك من شتم نبياً، أو ردَّ عليه قوله من غير تقية ولا خوف ". وقوله : " يكفر بالرد على النبي، صلى الله عليه وسلم، ولكن كل من كان كفره من جهة الجهل وغير الاستهانة، رفق به حتى يرجع إلى ما أنكره ".

وبذلك لا يبقى للخصم متعلَّقٌ بكلمة ابن راهويه، إن كان منصفاً .اه

الشبهة الرابعة :

 ( الياسق )

 قالوا : يقول ابن كثير، رحمه الله، في معرض تفسير قوله : ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ المائدة﴾. " يُنكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم، المشتمل على كلّ خيرٍ، الناهي عن كلّ شرٍّ، وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال، بلا مستند من الشريعة، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية، المأخوذة عن مَلكهم جنكيز خان، الذي وضع لهم (الياسق)، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره، وهواه؛ فصارت في بنيه شرعاً متَّبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله... فمن فعل ذلك منهم، فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل أو كثير. [ تفسيره (2/6] .

وقال رحمه الله تعالى : بعد أن نقل عن الجويني نتفاً من الياسق أو الياسا، التي كان يتحاكم إليها التتار : " فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة، كفر. فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين.[[البداية والنهاية (13/128/ 119) 128/]]. -فهذا إجماع صريح وواضح لا مجال لتحريفه ولا تأويله .

ويقول الشيخ عبد الله بن حميد، رحمه الله تعالى " ومن أصدر تشريعاً عاماً ملزماً للناس يتعارض مع حكم الله فهذا يخرج من الملة كافرا،وقدح الشيخ ابن باز بالإجماع الذي نقله الحافظ ابن كثير مردود عليه، وغير معتبر؛ لأنه لم يذكر دليلاً واحداً، أو قولاً واحداً لعالم معتبر يرد هذا الإجماع الذي ذكره ابن كثير.. وأنَّى!. ["أهمية الجهاد"، ص 196

فالله، عز وجل، يذكر حكم الجاهلية، أي شرعتها ومنهجها، في مقابل حكم الله، أي شرعته ومنهجه. وإذا كانت شرعة الله هي ما جاء في كتابه وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، فماذا تكون شرعة الجاهلية إلا نظمها وقوانينها المخالفة لكتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم؟؟.

وأيُّ فرق بين ما كان عليه هؤلاء القوم، الذين كفَّرهم ابن كثير، وأوجب قتالهم، وبين ما عليه حكامنا الآن؟ أو ليس حكامنا اليوم قد اقتبسوا من شرائع الغرب الكافر قوانين، ما أنزل الله بها من سلطان، وألزموا الناس بالتحاكم إليها والخضوع لها. ولايستثنى من ذلك إلا ما يسمى بقانون الأسرة، أو قانون الأحوال الشخصية، وهو مع ذلك لم يسلم من عبثهم؛ فأدخلوا فيه أيضاً أشياء تخالف كتاب الله وسنة رسوله؟

وإليك الرد عليها :

بالنسبة لمقولة ابن كثير في تفسيره : " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله ........ فصارت في بنيه شرعاً متبعاً، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله،صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم، فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ".[ (التفسير3/131)].

ففي هذا -كما ترى- بيان لما أجمع عليه، وهو أن يجعل ذلك القانون الوضعي شرعاً متبعاً يقدم على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله،صلى الله عليه وسلم. أي جعله شرعاً يتدين به، كان ذلك هو الاستحلال المقصود في كلام العلماء، والذي يكفر صاحبه، سواء كان في مسألة الحكم، أو في باقي المعاصي. وهو المقصود بالتبديل في كلام شيخ الإسلام السابق. وهذا هو واقع التتار. 

فقد بين شيخ الإسلام أن التتار كانوا يتعبدون الله بالياسق، الذي اقتبسوه من شرائع شتى. فقال عنهم : " يجعلون دين الإسلام كدين اليهود والنصارى، وأن هذه كلها طرق إلى الله، بمنزلة المذاهب الأربعة عند المسلمين. ثم منهم من يُرجِّح دين اليهود أو دين النصارى، ومنهم من يُرجِّح دين المسلمين ". اهـ [(مجموع الفتاوى28/523)].

ولزيادة التوضيح :

لقد وضع جنكيز خان تشريعات الياسق، عام 1206 م، محفوظة في الألواح، وكانت تظهر عند كل مناسبة في تولية خاناتهم وأمرائهم، وكانت تنص على :

تنظيم العلاقات بين افراد الأسرة الواحدة:

فأحلت زواج الرجل من أختين.

وأحلت زواج الإبن من زوجات أبيه بإستثناء أمه.

وأحلت التجسس و كشف عورات الآخرين وتلويث المياه، وترك جوعان دون إطعامه أو عطشان دون سقيه عقوبتها الموت. [أوربا و التتار د/محمد الشيخ جامعة الأسكندرية]. 

يقول المقريزي : ( وكان جنكيز خان قد قرر قواعد وعقوبات أثبتها في كتاب سماه (ياسا) ونقشه في صفائح الفولاذ، وجعله شريعة لقومه، فالتزموه بعده. وكان جنكيز خان لا يتدين بشئ من أديان أهل الأرض. فصار (الياسا) حكما بتا بقي في أعقابه، لا يخرجون عن شئ من حكمه، ومن جملة ما شرعه جنكيز خان في الياسا: أن من زنى قُتل، ولم يفرق بين المحصن وغير المحصن، ومن لاط قُتل، ومن تعمد الكذب، أو سحر، أو تجسس على أحد، أو دخل بين اثنين وهما يتخاصمان، وأعان أحدهما على الآخر قُتل، ومن بال في الماء أو على الرماد قُتل، ومن أعطى بضاعة، فخسر فيها، فأنه يقتل بعد الثالثة، ومن أطعم أسير قوم أو كساه بغير إذنهم قُتل، ومن وجد عبداً هارباً أو أسيراً قد هرب، ولم يرده على من كان في يده قُتل، وأن الحيوان تُكتف قوائمه، ويشق بطنه ويمرس قلبه إلى أن يموت، ثم يؤكل لحمه، وأن من ذبح حيواناً كذبيحة المسلمين قُتل، إلى غير ذلك من الأحكام. [الشيخ عبد العزيز المراغي، " الفقه والفقهاء في مصر على عهد المماليك"، صفحة 52 ـ 54]. 

وألزمهم عند رأس كل سنة بعرض سائر بناتهم الأبكار على السلطان؛ ليختار منهن لنفسه وأولاده!!.

وبين ابن تيمية كيف أنهم كانوا يعظمون جنكيزخان، ويقرنونه بالرسول، صلى الله عليه وسلم، ثم قال : " ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، باتفاق جميع المسلمين، أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام، أو اتباع غير شريعة محمد، صلى الله عليه وسلم، فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض الكتاب ". [(فتاوى28/524)]اهـ.

* فمراد ابن كثير، في حكايته الإجماع، أن الإجماع منعقدٌ على تكفير التتار، ومن فعل فعلهم؛ نظراً لحالتهم هذه التي سبق بيانها، وهذا مما لا نختلف فيه؛ فكأن عبارته –كما يقول بندر بن نايف العتيبي- هكذا : " فمن ترك الشرع المحكم [ كالتتار]، المنزل على محمد بن عبد الله، خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة، كفر؛ [لاستحلاله]، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق، وقدمها عليه؟ [ يعني : فكيف وقد قدموا الياسق ]. من فعل ذلك، كفر بإجماع المسلمين [ يعني : من استحلّ وقدّم حكم غير الله على حكمه تعالى ].

وبهذا يتّفق كلام الحافظ ابن كثير،رحمه الله، مع أئمة السنة، في نقلهم الإجماع الثابت المتقرر في المُستحِلّ والمُفضِّل.

 ثم إنه لو كان في ترك الشريعة والتحاكم لغيرها من دون استحلال أو تفضيل إجماع - كما يقول البعض - لرأيت العلماء يتناقلونه ويقررونه سواء منهم من عاصر ابن كثير رحمه الله أو من تقدمه، أو حتى من جاء بعده. كيف وقد حكوا الإجماع على خلافه؟! وهو : الإجماع على عدم كفر الجائر.

فالتحاكم إلى قانون لا يقره الشرع، ونسبة ذلك إلى الشرع، أو أن الشرع يقره، أو القول بجواز الحكم به، أو تفضيله على الشرع وتقديمه عليه -( أي : تقديما قلبيا، أو أن يفصح عن ذلك بلسانه. ولا يقال إن المحكِم للقوانين الوضعية، هو مقدم لها بذلك على الشرع؛ لأن مجرد هذا الفعل لا يدل على الكفر. فهو كمن يعلم أن الله حرّم الخمر، ولكنه، مع ذلك يشربها، ويجبر غيره على شربها وشرائها وبيعها. فهل يقال فيه إنه كافر. والله لا يحدث إلا إذا استحل أو جحد)- كَفَرَ بالإجماع".

قال الحافظ اسماعيل بن اسحاق القاضي، في آيات الحكم بغير ما أنزل الله : " فمن فعل مثل ما فعلوا (أي اليهود)، واقترح حكماً يخالف به حكم الله، وجعله ديناً يُعمل به، فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور، حاكماً كان أو غيره ".[ (نقله عنه أبو رائد المالكي في مقاله الماتع "الحكم بما أنزل الله.. مسألة العصر")]. والإجماع منعقد على أن الحكم بغير ما أنزل من الكبائر، التي هي دون الكفر.

فمن الواضح أن بعض المخالفين يذكر قول ابن كثير، ويحذف منه كلمة، يتعمى بها المقصود؛ إذ يقول ابن كثير في آخر كلامه : " فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكَّم سواه في قليل ولا كثير". فيعمد بعض المخالفين إلى حذف كلمة "منهم"؛ ليوهم القرَّاء أن مقصود ابن كثير بالتكفير عام، يشمل كل من حكم بغير ما أنزل الله، دون تفصيل، فالله حسيبهم، فحذف كلمة (منهم)، التي تعود على التتار، يضيع مقصود ابن كثير.

تنبيه : وردت كلمة (منهم) في تفسير ابن كثير للمائدة آية 50، وفي عمدة التفسير-وهو ملخص لتفسير ابن كثير- للعلامة أحمد شاكر.

فالمقصود بالإجماع هنا الاستحلال والتبديل. وهذا منقول فيه الإجماع في كل المعاصي، وليس فقط الحكم بغير ما أنزل الله وحده. ويدل على ذلك قول شيخ الإسلام، كما في مجموع الفتاوى : " الشرع المبدل، هو الكذب على الله ورسوله، أو على الناس بشهادات الزور ونحوها والظلم البين، فمن قال: إن هذا من شرع الله، فقد كفر بلا نزاع، كمن قال إن الدم والميتة حرام ". [الموضع السابق نفسه]. انتهى.

الشبهة الخامسة :

التشريع العام

 قالوا : لا شك أن من شرع للناس تشريعا عاما، مخالفا لشرع الله، وألزمهم به، كافر كفرا أكبر مخرجا من الملة، استحل أو لم يستحل، أليس كذلك؟؟

الرد عليها :

التشريع العام مصطلح قال عنه البعض إنه محدث. ومع ذلك فإن "التشريع العام" هو الإسلام بكليته، من لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق، فهذه الشُعب هي عرى الإسلام بأكمله، وهو محيط بالعام والخاص، والفرد والجماعة، والمجتمع والأمة، ويضبط أحوال الناس على مدارها في هذه الدنيا، والقوانين لا تحيط أحكامها بكلية أحوال الناس الخاصة والعامة، وإذا ما وصل النقض إلى عروة الصلاة، جاز الخروج بضوابطه من العامة..!! كما صح عنه، صلى الله عليه وآله وسلم : " ‏ ‏لينقضن‏ ‏عرى ‏ ‏الإسلام‏ عروة‏ عروة،‏ ‏فكلما انتقضت‏ ‏عروة،‏ ‏تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة ". (أحمد 21139).[صحيح الجامع]، 

فسمى الحكم عروة، وأنّها أول ما ينقض منه، ولم يقل إنّ نقض الحكم ينقض عرى الإسلام كلها، حيث أنّ تشريعها للحاكم وللمحكوم كل في حدود مسؤوليته. فلا يجوز لأحد أن يُعرّْف التشريع العام بغير ما سبق ذكره، ولا يستطيع أحد -ولو اجتهد سنين وعقود- أن يثبت أنّ التشريع العام يحصر في القضايا الجزئية.

ومن يأخذ هذا المصطلح – "التشريع العام" – ويحصره في جزئيات في الأحكام، ليس من لغة الشرع، لأنّ الشرع الحنيف بجميع شعبه هو التشريع العام الذي أنزل الله، وهو ما شُرّع لعامة المسلمين وخاصتهم، فرداً كان أو جماعة كانت، فإنّه يلزم كل في حدود ما هو موكل إليه؛ فعن ‏ابن عمر، رضي الله عتهما، أن النبي،‏ ‏صلى الله عليه وسلم، قال : " ‏ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه: ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته..". (البخاري 2232، ومسلم 340.

وليس الأمر كما ذهب إليه بعض المدّعين المعاصرين؛ بأنّ جزئيات الأحكام هي كل التشريع العام للإسلام، أو تنقضه بكامله، في حال مخالفتها، ولو في حكومة واحدة! وكفّروا تاركها أو مخالفها، وأبعدوا عنها شعب الإسلام الأخرى، وقد تكون أعلى الشعب – كالتوحيد بأنواعه الثلاثة المعتمدة، أو أدناها – كإماطة الأذى عن الطريق – أليست هذه الشعب من التشريع العام، ومن الحكم بما أنزل الله، فلماذا تبعد؟!!فالحكومات الجزئية لا تُحصر بمفهوم الكلية للتشريع العام!!

قال ابن القيم، رحمه الله :

 "فصل : في هديه، صلى الله عليه وآله وسلم، في الأقضية، والأنكحة، والبيوع، وقال : وليس الغرض من ذلك ذكر التشريع العام، وإن كانت أقضيته الخاصة تشريعاً عاماً، وإنّما ذكر هديه في الحكومات الجزئية التي فصل بها بين الخصوم، وكيف كان هديه في ما بين الناس، ونذكر مع ذلك قضايا من أحكامه الكلية. ". [(زاد المعاد 5 \ 5)].

ففرّق بين القضايا الجزئية ولم يحصرها بأنّها التشريع العام، وإنّما ذكر هديه في الحكومات الجزئية..!!". فكل جزئية تشريع عام للمسلمين، وليست الجزئية كل التشريع العام، وإنّما هي من شعب أحكامه.

 فالذي يحصر إقامة الحدود، أو أكل الربا بأنّه هو التشريع العام، فهذا لم يقل به إمام معتبر على مدار قرون الإسلام! وإنّما هو مفهوم الخوارج للحكم بما أنزل الله، الذين أخرجوا بقية شعب الإيمان – وعلى رأسها الشهادتان والمباني الأربعة – ولو ردّدوا الشهادتين على المآذن!.

 وقال قائلهم : " ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: لا إله إلا الله "!!!. [(ظلال القرآن 2 \ 1705 طبعة الشروق)].

وإنّما مقصودهم قوانين الاستعمار التي تحكم في الجزئيات، فكفّروا بها المحكومين والحكام؛ ولو في حكومة واحدة! وهذا موافق لمذهب البيهسية من فرق الخوارج. [راجع: الأشعري: مقالات الإسلاميين 1/113 ـ 118، والشهرستاني: الملل والنحل 1/125 ـ 127 .]!!

في حين أنّ الأصل في الحكم على دار القوانين – التي سكانها مسلمون – بأنّهاً دار إسلام، وأهلها ما زالوا كذلك جملة، ولكنها فسقت فسقاً دون فسق بتحكيمها للقوانين .

وهذا ماقرّره شيخ الإسلام مفصلا، حيث قال :

 "الأمكنة والبقاع تتغير أحكامها بتغير أحوال أهلها، فقد تكون البقعة دار كفر، إذا كان أهلها كفاراً، ثم تصير دار إسلام إذا أسلم أهلها، كما كانت مكة شرّفها الله، في أول الأمر، دار كفر وحرب، وهذا أصل يجب أن يعرف؛ فإنّ البلد قد يُحمد أو يُذم في بعض الأوقات لحال أهله، ثم يتغير حال أهله، فيتغير الحكم فيهم؛ إذ المدح والذم والثواب والعقاب إنّما يترتّب على الإيمان والعمل الصالح، أو على ضد ذلك من الكفر والفسوق والعصيان ".[(الفتاوى 4 \ 377)].

فقرّر أحكام البلد بتغير أحوال أهلها، وأنّ ذم البلد أو الثناء عليه مقيد بحال أهله..!

وقال : " فعامة ما يوجد في كلام المتقدمين من فضل عسقلان والإسكندرية أو عكة أو قزوين أو غير ذلك، وما يوجد من أخبار الصالحين بهذه الأمكنة، فهو لأجل كونها كانت ثغوراً، لا لأجل خاصية ذلك المكان، وكون البقعة ثغراً للمسلمين أو غير ثغر. وهو من الصفات العارضة لها، لا اللازمة لها، بمنزلة كونها دار إسلام، أو دار حرب، أو دار سلم، أو دار علم وإيمان، أو دار جهل ونفاق، فذلك يختلف باختلاف سكانها ".[ (الفتاوى 27 \ 25)].

فصنف السكان وإيمانهم، وقيامهم بالعمل الصالح؛ هو الذي يقرر الحكم على الدار، وليس القضاء في جزئيات الأحكام هو المقرر.

 وهذا هو قول السلف الصالح، على من حكم بغير ما أنزل الله، سواء أكان حاكماً أو محكوماً، في حكومة واحدة أو عدة حكومات.. وهو كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم. وهو اختيارهم على مدار القرون من ابن عباس – رضي الله عنهما – إلى ابن باز والألباني – رحمهما الله -، فأي دار للإسلام تحكم بالقوانين فهي دار فسق؛ ولكن فسق دون فسق، وليست دار فسق أكبر!!.

فحالة التشريع العام قد وقعت قبل قرون، ولم يُفت أحد من أهل العلم بالتكفير بها، ومن أمثلة ذلك : الضرائب التي ابتليت بها كثير من بلاد المسلمين منذ عصور، ومن المعلوم أن واضعها يلزِم بها ويعاقب على تركها، مع أنها محرمة، بل من صور الحكم بغير ما أنزل الله، ولو كان هذا الفعل مكفراً؛ لقال به أهل العلم، ولقرروا أن التشريع العام كفر، ولما سكتوا عن بيانه مع معاصرتهم له.

 ففي زمن (المحنة) قد دعا ثلاثة من الخلفاء -وهم المأمون والمعتصم والواثق- إلى الكفر الصريح! وهو القول بخلق القرآن .

 قال أبو حاتم وأبو زرعة الرازيين:

 "أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم ... [أن] من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر" .اهـ. أخرجه اللالكائي في "الاعتقاد".

فألزم هؤلاء الخلفاء الناس بذلك الكفر مع أن قولهم كذب على الله وافتراء عليه بل وحكم بغير ما انزل الله في التشريع العام -، فهل هناك تبديل للشرع أكبر من ذلك؟!. قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }. وقال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ }.

فهؤلاء الخلفاء عاقبوا من خالفهم من العلماء بالقتل والضرب والحبس والعزل عن الولايات وأنواع الإهانة! وقطعوا أرزاق من يخالفهم من بيت المال! وبرغم كل ذلك لم يقل أحد –من أهل السنة- بسقوط ولايتهم أو الخروج عليهم بل ثبت عنهم خلاف ذلك كله فكان فعلهم هذا منقبة من أهم مناقبهم التي يرويها عنهم أهل العلم في كتب الاعتقاد وغيرها .

قال حنبل رحمه الله :

 " اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلي أبي عبد الله [ يعني : الإمام أحمد ] وقالوا له : إن الأمر قد تفاقم وفشا -يعنون : إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك-، ولا نرضي بإمرته ولا سلطانه!؛ فناظرهم في ذلك، وقال : عليكم بالإنكار في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دمائكم ودماء المسلمين معكم وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريحَ بَرٌ، ويُسْتَراحَ من فاجر. وقال ليس هذا [ يعني: نزع أيديهم من طاعته ] بصواب، هذا خلاف الآثار" اهـ من "الآداب الشرعية" لابن مفلح (1/ 196)، وانظر "السنة" للخلال (1/ 133 - 134).

قال الشيخ ابن برجس في "معاملة الحكام" ص (9) : " فهذه صورة من أروع الصور التي نقلها الناقلون، تبين مدي اهتمام السلف بهذا الباب،وتشرح –صراحة- (التطبيق العملي) لمذهب أهل السنة والجماعة فيه ". أهـ.

وفي ذلك يقول شيخ الإسلام -في "مجموع الفتاوى" (7/ 507 - 508) -: "مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية، ولا كل من قال إنه جهمي كفره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم؛ بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة. 

لم يكفرهم أحمد وأمثاله بل كان يعتقد إيمانهم (((وإمامتهم))) ويدعو لهم ويرى الإئتمام بهم في الصلوات خلفهم والحج والغزو معهم والمنع من الخروج عليهم ((ما يراه لأمثالهم من الأئمة)) وينكر ما أحدثوا من القول الباطل الذي هو كفر عظيم وإن لم يعلموا هم أنه كفر وكان ينكره ويجاهدهم على رده بحسب الإمكان فيجمع بين طاعة الله ورسوله في إظهار السنة والدين وإنكار بدع الجهمية الملحدين وبين رعاية حقوق المؤمنين من الأئمة والأمة وإن كانوا ((جهالاً مبتدعين)) وظلمة فاسقين" أهـ.

ويقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ رحمه الله :

" ... ولم يَدْرِ هؤلاء المفتونون أن أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن مُعَاوِيَة -حاشا عُمَر بن عبد العزيز ومن شاء الله من بني أمية - قد وقع منهم من الجرأة والحوادث العظام والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام، ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام والسادة العظام معهم معروفة مشهورة، لا ينْزعونَ يدًا من طاعة فيما أمر الله به ورسوله من شرائع الإسلام، وواجبات الدين

وأضربُ لك مثلاً ... الطبقة الثانية من أهل العلم، كأحمد بن حنبل، وَمُحَمَّد بن إسْمَاعيل، وَمُحَمَّد بن إدريس، وَأَحْمَد بن نوح، وإسحاق بن راهويه، وإخوانهم ... وقع فِي عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام وإنكارالصفات، ودُعُوا إلى ذَلِكَ، وامتُحِنُوا فيه، وقُتِلَ من قُتِلَ، كمحمد بن نصر، ومع ذَلِكَ، فلا يُعْلَم أنَّ أحدًا منهم نزَعَ يدًا من طاعة ولا رأى الخروج عليهم ". اهـ باختصار من (الدرر السنية (8 / 378)) .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :

"وغالب الحكام الموجودين الآن جهلة!، لا يعرفون شيئاً، فإذا جاء إنسان كبير العمامة طويل الأذيال واسع الأكمام وقال له : هذا أمر يرجع إلى المصالح، والمصالح تختلف بحسب الزمان والمكان والأحوال، والنبي (ص) قال : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ولا بأس أن تغيروا القوانين التي كانت مقننة في عهد الصحابة وفي وقت مناسب إلى قوانين توافق ما عليه الناس في هذا الوقت؛ فيحللون ما حرم الله، ... ثم يقولون : اكتب هذه المادة!؛ فيكون هذا جاهلاً ". اهـ من "لقاءات الباب المفتوح" رقم (87) الوجه (ب) الدقيقة (00:28:24).

وسئل أيضا رحمه الله :

السؤال : هناك قضية تثار الآن حول ما يناط للتشريع العام فيما يحكم به الحكام، ويستدل أصحاب هذا الرأي بفتواكم حفظكم الله في المجموع الثمين بأن هذا الكفر وأنه واضح؛ لأنه تبديل لشرع الله، كذلك ينسب هذا إلى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله. فالسؤال هنا : هل ترد موانع التكفير أو ما اشترطه أهل السنة والجماعة في إقامة الحجة على من حكم بغير ما أنزل الله تشريعاً عاماً؟

فأجاب :

 كل إنسان فعل مكفراً فلا بد ألا يوجد فيه مانع التكفير، ولهذا جاء في الحديث الصحيح لما سألوه هل ننابذ الحكام؟ قال : [ إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان ] فلا بد من الكفر الصريح المعروف الذي لا يحتمل التأويل، فإن كان يحتمل التأويل فإنه لا يكفر صاحبه وإن قلنا إنه كفر.

فيفرق بين القول والقائل، وبين الفعل والفاعل، قد تكون الفعلة فسقاً ولا يفسق الفاعل لوجود مانع يمنع من تفسيقه، وقد تكون كفراً ولا يكفر الفاعل لوجود ما يمنع من تكفيره، وما ضر الأمة الإسلامية في خروج الخوارج إلا هذا التأويل، فالخوارج كانوا مع علي بن أبي طالب على جيش أهل الشام ، فلما حصلت المصالحة بين علي بن أبي طالب وأهل الشام خرجت الخوارج الذين كانوا معه عليه حتى قاتلهم وقتلهم والحمد لله، لكن الشاهد أنهم قالوا : حكمت بغير ما أنزل الله؛ لأنك حكمت البشر، فخرجوا عليه. 

فالتأويل الفاسد هو بلاء الأمة؛ فقد يكون الشيء غير كفرٍ فيعتقدها هذا الإنسان أنه كفر بواح فيخرج، وقد يكون الشيء كفراً لكن الفاعل ليس بكافر لوجود مانع يمنع من تكفيره، فيعتقد هذا الخارج أنه لا عذر له فيخرج. ولهذا يجب على الإنسان التحرز من التسرع في تكفير الناس أو تفسيق الناس، ربما يفعل الإنسان فعلاً فسقاً لا إشكال فيه، لكنه لا يدري، فإذا قلت : يا أخي! هذا حرام. قال : جزاك الله خيراً. وانتهى عنه. 

إذاً : كيف أحكم على إنسان بأنه فاسق دون أن تقوم عليه الحجة؟ فهؤلاء الذي تشير إليهم من حكام العرب والمسلمين قد يكونون معذورين لم تتبين لهم الحجة، أو بينت لهم وجاءهم من يلبس عليهم ويشبه عليهم. فلا بد من التأني في الأمر.

ثم على فرض أننا رأينا كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان، وكلمة ( رأينا ) شرط، و[ كفراً ] شرط، و[ بواحاً ] شرط، و( عندنا فيه من الله برهان ) شرط.. أربعة شروط :

فنقول : [ أن تروا ] أي : تعلموا يقيناً احترازاً من الشائعات التي لا حقيقة لها.

وكلمة [ كفراً ] احترازاً من الفسق، يعني : لو كان الحاكم فاسقاً فاجراً لكن لم يصل إلى حد الكفر فإنه لا يجوز الخروج عليه.

الثالث : [ بواحاً ] أي : صريحاً لا يتحمل التأويل، وقيل البواح: المعلن.

والرابع : ( عندكم فيه من الله برهان ) يعني : ليس صريحاً في أنفسنا فقط، بل نحن مستندون على دليل واضح قاطع.

هذه الشروط الأربعة شرط لجواز الخروج، 

لكن يبقى عندنا شرط خامس لوجوب الخروج وهو : هل يجب علينا إذا جاز لنا أن نخرج على الحاكم؟ هل يجب علينا أن نخرج؟ ينظر للمصلحة، إن كنا قادرين على إزالته فحينئذٍ نخرج، وإذا كنا غير قادرين فلا نخرج، لأن جميع الواجبات الشرعية مشروطة بالقدرة والاستطاعة. ثم إذا خرجنا فقد يترتب على خروجنا مفسدة أكبر وأعظم مما لو بقي هذا الرجل على ما هو عليه، لأننا خرجنا ثم ظهرت العزة له، صرنا أذلة أكثر، وتمادى في طغيانه وكفره أكثر، 

فهذه المسائل تحتاج إلى تعقل، وأن يقترن الشرع بالعقل، وأن تبعد العاطفة في هذه الأمور، فنحن محتاجون للعاطفة لأجل تحمسنا، ومحتاجون للعقل والشرع حتى لا ننساق وراء العاطفة التي تؤدي إلى الهلاك ". انتهى من (لقاء الباب المفتوح الشريط رقم 51 الوجه ب)

وسئل أيضا رحمه الله :

هل يعتبر الذين لا يحكِّمون القرآن والسنة ويحكِّمون القوانين الفرنسية أو الإنجليزية كفاراً؟

فأجاب :

هذا يحتاج إلى النظر إلى السبب الذي حملهم على هذا، وهل أحدٌ غرَّهم ممن يدعي العلم، وقال : إن هذا لا يخالف الشرع، أم ماذا؟! فالحكم في هذه المسألة لا يمكن إلا على كل قضية بعينها . انتهى من (لقاء الباب المفتوح الشريط رقم واحد الوجه أ)

* سُئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :

ما الحكم فيمن شرَّع شريعةً عامةً للنَّاسِ، بغيرِ ما أَنزلَ اللهِ، ثُمَّ أَلزمهم بها؟

فأجاب :

"إن كان يعتقد أن هذه الشريعة اللي حطَّها، أو النَّظام اللي حطه مساو أو أحسن أو جائز فهو مرتد عن دين الإسلام."

قال السائل : 

قسَّم العلماء -رحمهم الله- الكفر العملي إلى قسمين : أكبر وأصغر، وسؤالي : هل الحكم بغير ما أنزل الله من الأصغر، أو من الأكبر؟ وما الدليل على ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم؟

فأجاب :

" هذه مسألة واضحة ومبينة في كلام أهل العلم والأئمة،
 
ـ أن من حكم بغير ما أنزل الله، يعتقد جواز ذلك، أو أنه أحسن من حكم الله، أو أنه مساو لحكم الله، أو أنه مخير إن شاء حكم بحكم الله، وإن شاء حكم بغيره، هذا كافر بالإجماع، هذا كافر بإجماع أهل العلم.

ـ أما إذا كان يعتقد أن الواجب حكم الله -عز وجل-، وأنه هو الحق، وأن حكم غيره باطل، ولكن حكم بذلك لأجل رشوة، أو لأجل هوى في نفسه، في مسألة من المسائل، خالف حكم الله، متعمدا في مسألة من المسائل لغرض من أغراضه؛ إما لهوى في نفسه، أو لأجل أخذ منه رشوة، أو مداراة لأحد، فهذا كبيرة من كبائر الذنوب. ولكن لا يخرج إلى الكفر؛ لأنه يعتقد تحريم ذلك، وأنه مخطئ، وأنه مخالف، فيكون كبيرة من كبائر الذنوب، هذا هو التفصيل في هذه المسألة ". انتهى من [شرح نواقض الإسلام الشريط 6 الوجه 2].

الشبهة السادسة :

 الله أقسم بذاته العلية على نفي إيمان من لم يحكم بالشرع!!

قالوا : وما القول وقد أقسم الله بذاته العلية على نفي إيمان من لم يحكم بالشرع؛ إذ قال :{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا النساء}.

وإليك الرد عليها

هذه الآية تنفي كمال الإيمان، ولا تنفي أصل الإيمان، يعني لا دليل في ذلك على الكفر الأكبر مطلقا؛ فقد نزلت في رجلٍ أنصاريٍّ بدريٍّ، والبدريون معصومون من الوقوع في الكفر الأكبر، فعن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، رضي الله عنهما،‏ أنه حدثه أن رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في شراج من الحرة، يسقي بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك". فغضب الأنصاري، ثم قال:أن كان ابن عمتك!! فتلون وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدار واستوعى ‏ ‏له حقه ", فقال الزبير: والله لأني أحسب هذه الآية نزلت في ذلك . ‏( البخاري 2189، ومسلم 4347)

فانظر كيف ضاق صدر ذاك البدريّ، ولم يقع منه التسليمُ الكاملُ بقضاء النبي، صلى الله عليه وسلم،. فالآية تقرر نفي كمال الإيمان، لا نفي أصل الإيمان. بمعنى : لا يؤمنون الإيمان الكامل. وليس المعنى : لا يكونوا مؤمنين. وبينهما فرقٌ كيبر .

ومن أمثلة ذلك أيضا : قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ". (البخاري ١٣، مسلم ١٦٨). 

و قوله صلى الله عليه وسلم : " والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن ". قيل : ومن يا رسول الله؟ قال : " الذي لا يأمن جاره بوائقه ". (البخاري ٦٠١٦).

والدليل موجودٌ في الآية نفسها، فقد نفى الله الإيمان عن ثلاثة أصناف :

1. من لا يُحكِّم الشريعة.

2. من وجد حرجاً في نفسه.

3. من لم يُسلِّم تسليماً تامَّاً.

وقد دلت الأدلة على أن الصنف الثاني والثالث لا يكفران :

فقد ثبت اعتراض بعض الأنصار على قسمة غنائم حنين، وعدم تسلميهم لحكم رسول الله،صلى الله عليه وسلم،. قال أنس بن مالك – رضي الله عنه –: لما فتحت مكة قسم الغنائمَ في قريش، فقالت الأنصار: إن هذا لهو العجب ! إن سيوفنا تقطر من دمائهم، وإن غنائمنا ترد عليهم ! فبلغ ذلك رسول الله،صلى الله عليه وسلم، فجمعهم، فقال : " ما الذي بلغني عنكم؟ ".

قالوا: هو الذي بلغك. قال : " أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم، وترجعون برسول الله،إلى بيوتكم؟ لو سلك الناس وادياً أو شعباً وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً؛ لسلكتُ وادي الأنصار أو شعب الأنصار".(البخاري: 3778، مسلم: 2437). فإن كان المنفي هو الإيمان كله، فيلزم تكفير الأنصار، رضي الله عنهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله :

" كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة : كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك؛فإنما يكون لترك واجبٍ من ذلك المسمى. ومن هذا قوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا النساء }، فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية؛ دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب، الذي وُعِدَ أهله بدخول الجنة بلا عذاب ". [(مجموع الفتاوى 7/37)]

وقال : " وهذه الآية مما يستدل بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر، الذين لا يحكمون بما أنزل الله ". انتهى كلامه. [(منهاج السنة 5/131)]

ألا ترى قدامة بن مظعون ـ و كان بدريا ـ تأول في خلافة عمر ما تأول في استحلال الخمر من قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا }. [ المائدة: 93 ]، حتى أجمع رأى عمر وأهل الشورى أن يستتاب هو وأصحابه؛ فإن أقروا بالتحريم، جُلدوا. وإن لم يقروا به، كفروا. ثم إنه تاب، وكاد ييأس؛ لعظم ذنبه في نفسه، حتى أرسل إليه عمر، رضي الله عنه، بأول سورة غافر، فعُلم أن المضمون للبدريين أن خاتمتهم حسنة، وأنهم مغفور لهم، وإن جاز أن يصدر عنهم، قبل ذلك، ما عسى أن يصدر، فإن التوبة تجب ما قبلها.

قال الإمام النووي رحمه الله :

"قال العلماء : لو صدر مثل هذا الكلام، الذي تكلم به الأنصاري اليوم، من انسان من نسبته صلى الله عليه وسلم الى هوى، كان كفرا، و جرت على قائله أحكام المرتدين.

 قالوا إنما تركه النبي، صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس ويصبر على أذى المنافقين ويقول لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحَْ}. (المائدة 13).

وقد حكى الداودي أن هذا الرجل، الذي خاصم الزبير، كان منافقا. وقوله، في الحديث، إنه أنصاري، لا يخالف هذا؛ لأنه كان من قبيلتهم، لا من الأنصار المسلمين . انتهى من شرح النووى على مسلم.

وقد علق الحافظ ابن حجر على كلام الداودي؛ فقال :

" وأما قول الداودي، وأبي إسحاق الزجاج، وغيرهما، إن خصم الزبير كان منافقا، فقد وجَهه القرطبي بأن قول من قال إنه كان من الأنصار، يعني نسبا لا دينا، 

قال : وهذا هو الظاهر من حاله، ويحتمل أنه لم يكن منافقا، ولكن أصدر ذلك منه بادرة النفس، كما وقع لغيره ممن صحت توبته، وقوى هذا شارح المصابيح، التوربشتي، ووهَى ما عداه، وقال : لم تجر عادة السلف بوصف المنافقين بصفة النصرة، التي هي المدح، ولو شاركهم في النسب، قال بل هي زلة من الشيطان، تمكن به منها عند الغضب، وليس ذلك بمستنكر من غير المعصوم، في تلك الحالة .اهـ

وقد قال الداودي ـ بعد جزمه بأنه كان منافقا : وقيل كان بدريا. فإن صح، فقد وقع ذلك منه، قبل شهودها؛ لانتفاء النفاق عمن شهدها . انتهى [ الفتح 5/35] .

وقال بن التين : إن كان بدريا، فمعنى قوله لا يؤمنون، لا يستكملون الإيمان، والله أعلم .

فإن قيل : فما الدليل على حفظ الله لأهل بدر من الوقوع في الكفر؟

فالجواب :

 أن الله تعالى قد أوجب لهم الجنة، كما في قصة حاطب رضي الله عنه إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقهم : " لعل الله اطلع عليهم فقال : اعملوا ما شئتم فقد أوجبت لكم الجنة ". (البخاري ٦٩٣٩).

فإن قيل : ألا يحتمل أن يقع أحد من أهل بدر في الكفر لكنه يُوفّق للتوبة من ذلك الكفر فيموت على التوبة فيدخل الجنة، فلا تتعارض النصوص؟

فالجواب من وجهين :

١. أن الله قد غفر لأهل بدر، ولم يُقيِّد ذلك الغفران بالتوبة، والواجب إعمال هذه الفضيلة في حقهم على إطلاقها وعدم تقييد ما أطلقه الله تعالى.

٢. ولو قيل بهذا لعطّلنا تلك الفضيلة! ولما كان لشهودهم بدراً مزية! وذلك أن أهل العلم متفقون على أن جميع الذنوب - حتى الكفر - تغفر بالتوبة. ولو كان ذنب أهل بدر مغفوراً لهم إذا تابوا منه! لما كان لذلك الفضل ما يميّزهم عن غيرهم.

وقال ابن تيمية رحمه الله : " قوله لأهل بدر ونحوهم : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) : إن حُمِل على الصغائر، أو على المغفرة مع التوبة : لم يكن فرق بينهم وبين غيرهم، فكما لا يجوز حمل الحديث على الكفر لما قد عُلم أن الكفر لا يغفر إلا بالتوبة؛ لا يجوز حمله على مجرد الصغائر المكفَّرة باجتناب الكبائر ". (الفتاوى ٧/ ٤٩٠).

وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :

السائل : في قوله تعالى : ( فَلا وربِّك لايُؤمنون حتَّي يُحكِّمُوكَ فيما شَجَر بينهم ) نفيُّ الإيمان في هذه الآية ألا يدلُ على كفر من يحكم بالقوانين الوضعية من غير إستثناء سواء إعتقد أو لم يعتقد ؟

فأجاب :

قد يكون له عُذر ؛ هذا هو الأصل أنهم لايُؤمنون حتَّي يُحكموك فيما شجر بينهم بلاشك ، لكن قد يكون هناك أشياء تدرأ عنهم الكفر ، هنالك أشياء تدرأ عنهم الكفر ؛ مثل ما فصّل العلماء ".انتهى من (شرح نواقض الإسلام-الشريط رقم 6 الوجه ب)

الشبهة السابعة : 

التشريع والتبديل

قالوا : إن الحاكم بغير ما أنزل الله قد اعتدى على سلطان الله؛ فإن التشريع حق لله وحده، ومن شرَّع فإنه يلزمه أمران:

الأول : رفض شريعة الله؛ إذ لو لم يرفضها، لما استبدل بها غيرها.

والثاني : أنه تعدى على حق من حقوق الله.

وكلاهما ينافي التوحيد؛ فإن الله، سبحانه، قد اختص بأشياء منها العبادة، ومنها الخلق والرزق التدبير، ومنها الحكم والتشريع أيضاً. فمن صرف شيئاً اختص اللّـه به لغيره؛ فقد أشرك شركاً أكبر، كالذي يعبد غير الله، أو يدعي علم الغيب من دون الله، أو يشرع من دون الله، وهذه قاعدة مطردة لا استثناء فيها ". فما ترون؟؟

وإليك الرد عليها :

إنَّ ثمة أوصافاً إلهية، انفردَ اللهُ بها دون خلقهِ، كالكبرياء والعظمة والخلق والتصوير، وأهل السُّنَّة لم يكفٍروا المنازع له فيها بإطلاق، وإنما سلكوا منهج التفصيل، فكذلك التشريع والحكم، إذا لم يكن عن استحلال، فليس بكفر، وفاعله فاسق صاحب كبيرة. ولا يكفر كسائر الكبائر غير المكفرة .

فالعزُّ والعظمة والكبرياء من أوصاف الله تعالى، الخاصة به، والتي لا تنبغي لغيره.

يقول القرطبي في "المفهم"، كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة، قالا : قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم،: " العزُّ إزاري، والكبرياءُ ردائي، فمن ينازعني عذبته ". (أبو داود4090، ابن ماجه 4174).

وقد أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، قال : سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول : " قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي؟ فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبَّة، أو ليخلقوا شعيرة ".(البخاري 5609)

قال القرطبي : 

" وقد دل هذا الحديث على أن الذم والوعيد إنما علَّق من حيث تشبهوا بالله تعالى في خلقه، وتعاطوا مشاركته فيما انفرد الله تعالى به من الخلق والاختراع ".

قالت عائشة : " دخل علَّي رسول الله، صلى الله عليه وسلم،، وقد سترتُ سهوةً لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلوَّن وجههُ، وقال : " يا عائشة، أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله "(البخاري 5610/5611). انتهى [المفهم(5/432)].

ومع أن المصورين ينازعون الله ما انفرد به، فإن أهل السُّنَّة لم يكفروا منهم إلاَّ من استحل، أو قصد العبادة والمضاهاة، أما من لم يستحل، ولم يقصد العبادة والمضاهاة، فليس بكافر .

وأهل السنة كافة لا يكفرون من يستعظم نفسه ويحتقر غيره، وكذلك الخلق والتصوير من خصائصه سبحانه، فنحت التماثيل فيه مضاهاة لخلق الله تعالى .

والذي ينبغي التنبيه عليه أن الشرك هنا في توحيد الربوبية بمعنى إعطاء حق التشريع - أي تشريع - لغير الله، وليس بالضرورة أن يكون صاحبه مشركاً شركاً أكبر؛ لأن الشرك في الربوبية منه ما هو شرك أكبر، ومنه ما هو شرك أصغر .

وضابط ذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، ً وما عليه إجماع الأمة، أن الأمر يرجع إلى الجحود والاستحلال. ولا يقال إن من اتبع حكم القانونيين، وهو يعلم أنه على ذنب، أنه قد أعطى المخلوق حق التشريع من دون الله؛ لأن هذا الأمر يتعلق بالاعتقاد .

وهو بهذه العقيدة الباطلة كافر، ولو كان في مسألة يوافق حكمها حكم الله. أما دون هذه العقيدة، كأن يفعل ذلك؛ إتباعاً للهوى، أو تحقيقاً لمصلحة دنيوية، فليس يوجد ما يكفر به.

أما ما يتعلق بالشرك في توحيد الألوهية، فلا شك أنه لا يكون إلا شركاً أكبر. لكن هل يقال لمن حكم بغير ما أنزل الله أنه صرف العبادة لغير الله، ليس الأمر كذلك؛ لأنه في حقيقة الأمر خالف حكم الله، ولم يصرف شيئاً من العبادة لغير الله، ولا يجوز التكفير بالذنوب والمعاصي، ولو كانت من الكبائر .

ولكن المخالفين يقررون أن تحكيم القوانين، وجعلها نظاماً عاماً، قرينة على الاستحلال القلبي.

والرد عليهم : 

الذي عليه الأئمة، قديماً وحديثاً، أن كل ذنب دون الكفر ( ومنه بالطبع- عند كل من أنصف- تحكيم القوانين وجعلها نظاماً عاماً )، لا يعد قرينة على الاستحلال القلبي؛ فإن المعاصي، التي دون الكفر، بوجه عام، إما أن يستحلها صاحبها عملياً أو قلبياً.

فبالأول يكون فاسقاً، وبالثاني يكون كافراً، ومن قال غير هذا فعليه البيان.

ومن ثم فمن حكم بغير ما أنزل الله، لا يكفر كفراً أكبر، إلا إن كان جاحداً لحكم الله، أو مُجوِّزاً فعلهُ، أو معتقداً المساواة بين الحُكْمين، أو مُفضِّلاً حكم غير الله على حكم الله .

قال ابن تيمية رحمه الله :

" والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافراً مرتدّاً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله تعالى –على أحد القولين - ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )، أي : هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله". انتهى. [ (الفتاوى3/267)]

وقال أيضاً رحمه الله :

" وبيان هذا : أن من فعل المحارم مستحلاً لها، فهو كافر بالاتفاق؛ فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه ". انتهى. [(الصارم2/971)].

وقال أيضاً رحمه الله :

"ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله، فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً، من غير اتِّباعٍ لما أنزل الله، فهو كافر ". انتهى.[ (المنهاج5/130)]

وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله - قبل شروعه فى الجواب على أحد الأسئلة :

وقبل الشروع في الجواب أحب أن أقدم لكم مقدمة مختصرة مهمة وهي :

 أنه مما يسرنا ويسر كل مسلم غيور على دينه أن يتكون من الجمعيات العامة التي تهدف إلى إصلاح الأوضاع التمسك بأصل الدين وتعاليمه الشريفة ومحاربة كل ما خالف الشريعة الإسلامية من البدع والخرافات والدخل، وكذلك ما هو أهم من ذلك ما يدخله الملحدون والزنادقة والمستشرقون وغيرهم في أفكار بعض المسلمين من تشكيكهم في أصل دينهم وتضليلهم عن سنة نبيهم المصطفى صلى الله عليه وسلم وشريعته، وتحكيم القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، وأهم ذلك معرفة أصل التوحد الذي بعث الله به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وتحقيقه علماً وعملاً ومحاربة ما يخالفه من الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، أو من أنواع الشرك الأصغر. 

وهذا هو تحقيق معنى (لا إله إلا الله) وكذلك تحقيق معنى (محمد رسول الله) من تحكيم شريعته، والتقيد بها. ونبذ ما خالفها من القوانين والأوضاع وسائر الأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان والتي من حكم بها أو حاكم إليها معتقداً صحة ذلك وجوازه فهو كافر الكفر الناقل عن الملة، وإن فعل ذلك بدون اعتقاد ذلك وجوازه فهو كافر الكفر العلمي الذي لا ينقل عن الملة . انتهى من (كتاب فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ - جَمع وترتيب وتحقيق محمد بن عبد الرحمن بن قاسم)-(ص-ف٦٢-١ في ٩-١-١٣٨٥هـ)

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :

"وغالب الحكام الموجودين الآن جهلة!، لا يعرفون شيئاً، فإذا جاء إنسان كبير العمامة طويل الأذيال واسع الأكمام وقال له : هذا أمر يرجع إلى المصالح، والمصالح تختلف بحسب الزمان والمكان والأحوال، والنبي (ص) قال : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ولا بأس أن تغيروا القوانين التي كانت مقننة في عهد الصحابة وفي وقت مناسب إلى قوانين توافق ما عليه الناس في هذا الوقت؛ فيحللون ما حرم الله، ... ثم يقولون : اكتب هذه المادة!؛ فيكون هذا جاهلاً " اهـ من "لقاءات الباب المفتوح" رقم (87) الوجه (ب) الدقيقة (00:28:24).

وقال العلامة الشِّنقيطيُّ رحمه الله :

واعلَمْ أنَّ تحريرَ المقامِ في هذا البَحثِ : أنَّ الكُفْرَ والظُّلمَ والفِسْقَ، كُلُّ واحدٍ منها ربما أُطلِقَ في الشَّرعِ مرادًا به المعصيةُ تارةً، والكُفْرُ المخرِجُ مِن الملَّةِ أخرى، ومَن لم يحكُمْ بما أنزلَ اللهُ؛ مُعارضةً للرُّسُلِ، وإبطالًا لأحكامِ اللهِ، فظُلْمُه وفِسْقُه وكُفْرُه، كُلُّها كُفرٌ مخرجٌ عن الملَّةِ، ومن لم يحكُمْ بما أنزل اللهُ، معتَقِدًا أنَّه مرتكِبٌ حَرامًا، فاعِلٌ قبيحًا؛ فكُفْرُه وظُلمُه وفِسقُه غيرُ مخرجٍ عن الملَّةِ.  يُنظر: ((أضواء البيان)) (1/ 407)

مثال لرد هذه الشبهة :

 لو أن رجلاً أنشأ بيتاً للدعارة؛ فوضع أنظمة تحدد أسعار الجريمة. فجعل للكبيرة سعراً، وللصغيرة سعراً أعلى منه، وللجميلة سعراً. وللقبيحة سعراً. فهذا شرع للزنا ووضع له قوانين؛ لكنه معترف بأن فعله ذنب ولا يرى أنه حلال. فهو لا يكفر.

مثال أيضا : لو أن عصابة نذرت نفسها لقطع الطريق وجعلت عليها رئيساً ورسمت لنفسها نظاماً، فكان هذا الرئيس هو الذي يدعوهم وينظم لهم الاعتداء وقطع السبيل وإخافة المسلمين فيمتثلون، وهو الذي يأمرهم فيأتمرون وينهاهم فينتهون؛ فهذا الرجل أصبح مقنناً للذنب، مع أنه ليس بكافر.

* فلو كان الأصل الذي بُني عليه التكفير بالتقنين صحيحاً لوجب تكفير مثل هذا، مع أنه من أصحاب الذنوب الذين اتفق أهل السنة على عدم تكفيرهم.

سئل سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله : 

هل تبديل القوانين يعتبر كفراً مخرجاً من الملة؟

فأجاب :

إذا استباحها، فحكم بقانون غير الشريعة، يكون كافراً كفراً أكبر، أما إذا فعل ذلك لأسباب خاصة كان عاصياً لله من أجل الرشوة، أو من أجل إرضاء فلان، وهو يعلم أنه محرّم يكون كفراً دون كفر، أما إذا فعله مستحلاً له، يكون كفراً أكبر، كما قال ابن عباس في قوله : وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[1]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[2]، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[3]، قال : ليس مثل من كفر بالله، لكنه كفر دون كفر.

إلاَّ إذا استحل الحكم بالقانون أو استحل الحكم بكذا أو كذا غير الشريعة يكون كافراً، أما إذا فعله لرشوة أو لعداوة بينه وبين المحكوم عليه، أو لأجل إرضاء بعض الشعب، أو ما أشبه ذلك، هذا يكون كفراً دون كفر. انتهى من (مجموع الفتاوى -المجلد الثامن والعشرون)

وقال أيضا رحمه الله : 

" فإذا سن قانوناً يتضمن أنه لا حد على الزاني، أو لا حد على السارق ... : فهذا قانون باطل، وإذا استحله الوالي كفر ". (الفتاوى ٧/ ١٢٤).

* وعموما : التشريع في الدين : يسمى بدعة. وإن كفَرنا به لزمنا تكفير من شرع الاحتفال بيوم عاشوراء، أو المولد، أو الإسراء وغير ذلك.

وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:

السائل : قُلتم - سلمّكم الله - أن الذي يظهر منه الشرك بالله يُعتبر مشركا ً ؛ كالذي يذبح لغير الله وكالذي ينذر لغير الله ، والسؤال عمن يعتبر الحكم بالقوانين الوضعية ألا يُحكم عليه بالشرك والحالة هذه ؟

فأجاب : 

" لا ؛ مايُحكم عليه على طول حتى نستفصل منه ، ما الذي حمله ُ على هذا وما الذي ..ونشوف هل هو يعتقد هذا ، أو لايعتقده ، وهل يستبيح هذا الشيء أو ما يستبيحه ، لابُدَّ من التفصيل هذا ، ولاتأخذوا منهج التكفير ومنهج الخوارج على طول ، وكلٍّ كافر ، لازم من التفصيل . نعم ". انتهى من (شرح نواقض الإسلام-الشريط رقم 6 الوجه ب)

* إذن التشريع في الدنيا قسمان :

1. ما لم يرد فيه نص : فمرجعه إلى المفسدة والمصلحة

2. ما ورد فيه نص شرعي : فمخالفته معصية، ما لم يقترن بها جحود أو استحلال . انتهى

الشبهة الثامنة :

الإستحلال

سؤال : قالوا أنتم تقولون إن من حكم بغير ما أنزل الله، لا يكفر إلا إذا استحل أو جحد. وهذا خطير؛ فإن الإنسان يكفر بالعمل، ولا يشترط الاعتقاد. وخصوصاً إن ورد نص على أن ترك هذا العمل مكفر، كالحكم والصلاة. فقد ورد فيهما نص. فإبليس امتنع فقط عن السجود تكبراً، وهذا عمل. والصلاة من الأعمال؛ فمن تركها غير جاحد، كفر كما أجمع أصحاب رسول الله،صلى الله عليه وسلم، على ذلك. فما ردكم؟؟

وإليك الرد عليها :

شرط الجحود أو الاستحلال لمن ارتكب الكفر الأصغر، أو المعصية هو قول السلف جميعا، وقد أطبقوا عليه. وفيما يلي التفصيل :

أولا : تعريف الاستحلال : هو اعتقاد حـِـلِّ الشيء.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : « والاستِحلالُ : اعتِقادُ أنها حلالٌ له ». [(الصارم المسلول 3/971)].

وقال ابن القيم، رحمه الله : « فإنَّ المُستحلَّ للشيء هو : الذي يفعله مُعتقِداً حِلَّه ». [(إغاثة اللهفان 1/382)].

وقال ابن عثيمين، رحمه الله : « الاستحلال هو : أن يعتقد الإنسان حلّ ما حرّمه الله ». [(الباب المفتوح 3/97، لقاء: 50، سؤال: 119]..

وقال كذلك : 

الاستحلال : هو أن يعتقد حِلَّ ما حرمه الله. وأما الاستحلال الفعلي، فينظر:

 إن كان هذا الاستحلال مما يكفِّر، فهو كافر مرتد. فمثلاً لو أن الإنسان تعامل بالربا، ولا يعتقد أنه حلال، لكنه يصر عليه، فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يستحله، ولكن لو قال : إن الربا حلال، ويعني بذلك الربا الذي حرمه الله فإنه يكفر؛ لأنه مكذب لله ورسوله. 

الاستحلال إذاً : استحلال فعلي واستحلال عقدي بقلبه.

فالاستحلال الفعلي : ينظر فيه للفعل نفسه، هل يكفر أم لا؟ 

ومعلوم أن أكل الربا لا يكفر به الإنسان، لكنه من كبائر الذنوب، أما لو سجد لصنم فهذا يكفر.. لماذا؟ لأن الفعل يكفر؛ هذا هو الضابط . ولكن لابد من شرط آخر وهو : ألا يكون هذا المستحل معذوراً بجهله، فإن كان معذوراً بجهله فإنه لا يكفر، مثل أن يكون إنسان حديث عهد بالإسلام، لا يدري أن الخمر حرام، فإن هذا، وإن استحله، فإنه لا يكفر، حتى يعلم أنه حرام فإذا أصر بعد تعليمه صار كافراً ". انتهى [(لقاءات الباب المفتوح/ الشريط (50)]

ثانيا : بماذا يـُـعرَفُ الاستحلال؟

يـُـعرَفُ الاستحلال بإقرار المرء على نفسه بأنه يعتقد الحل، وذلك : إما بالتصريح بـ اللسان أو بـ الكتابة؛ لأن الكتابة تقوم مقام القول .

قال الماوردي : (العرب تقول الخط أحد اللسانين). [(ادب الدنيا والدين 4].

فلا أثر للقرائن في الحكم على صاحب الفعل بالاستحلال

لأن الاعتقاد محلـُّـه القلب، ولا سبيل لمعرفة ما في القلب : إلا بالإقرار الصريح. وبرهان ذلك حديث الرجل، الذي قتل في المسلمين، ولما تمكن منه أسامة بن زيد، رضي الله عنه، نطق بالشهادة، فقتله أسامة، رضي الله عنه، فلما بلغ ذلك رسول الله،صلى الله عليه وسلم، قال له : " أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! ". (البخاري 4269، 6872). " أفلا شققتَ عن قلبه لتعلم أقالها أم لا؟! ". (مسلم 273). " فكيف تصنع بـ لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! ". (مسلم 275). قال أسامة : " فما زال يكررها عليَّ حتى تمنـَّـيتُ أني أسلمتُ يومئذٍ. (البخاري 4269، 6872 مسلم 273).

فلو كان الأخذ بالقرائن معتبراً في الحكم على ما في القلوب لكان اجتهاد أسامة بن زيد رضي الله عنهما أولى بهذا الاعتبار؛ فقد اجتمع في ذلك الرجل من القرائنِ التي تقوي القول بعدم صدق إسلامه ما لا يكاد أن يجتمع في غيره، ومع هذا فقد ألغى النبيُّ صلى الله عليه وسلم اجتهادَ ذلك الصحابي الجليل ولم يقبل منه أخذه بالقرائن للحكم على ما في القلوب، فاجتهادُ غير الصحابي أولى بالإلغاء .

ففي هذ الحديث ثلاث فوائد :

1. أن الاعتقاد محله القلب.

2. عدم جواز الأخذ بالقرائن للحكم على ما في قلوب الناس.

3. عدم جواز الاجتهاد للكشف على ما في قلوب الناس. [ * ملحوظة : قول المرجئة الجهمية: مرتكب الكفر الأكبر لا يكفر إلا إن كان مستحلا.].

ولذا عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه : أن رجلا على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله،صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد جلده في الشراب، فأُتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال : رجل من القوم : اللهم العنه ما أكثر ما يُؤتى به؟ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنوه فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله . رواه البخاري (6780).

فها هو صحابي مصر على شرب الخمر، " ما أكثر ما يؤتى به في الخمر! "، ومع ذلك قال النبي، صلى الله عليه وسلم : " لا تلعنوه فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله ". فلماذا لم يكفر النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك الصحابي، الذي أصر وداوم على شرب الخمر؟.

قال ابن حجر : 

"..من تكررت منه المعصية لا تُنزَعُ منه محبة الله ورسوله ". [(الفتح 12/80)]

 يقول الشيخ ابن عثيمين :

والرسول،عليه الصلاة والسلام، لم يجز منابذة الولاة إلا إذا رأينا كفراً بواحاً، عندنا فيه من الله برهان، فنحن لا نعلم ما في قلب ولي الأمر، وتعرف أن الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله يعتذرون بأعذار غير صحيحة، وإلا فهم يصرحون، يقولون : نعم نحن نقول هذا القانون ونعلم أنه يخالف الشرع. لكنهم يأتون بأشياء يتأولونها، لكن أولئك المنافقين في عهد الرسول،صلى الله عليه وسلم، لا يصرحون يصدون ويعرضون لكن دون أن يقولوا : لا نقبل . انتهى [لقاء الباب المفتوح (ش\120)].

وقال أيضا رحمه الله :

إذا جاءنا رجل ورفع الحكم الشرعي وأحل بدله قوانين تخالف ما أنزل الله على رسوله، فهذا لا شك أنه مستحل؛ لأنه رفع الحكم نهائياً ووضع قانوناً من وضعه أو من وضع من هو أسوأ حالاً منه، فهذا كافر؛ لأن رفعه للأحكام الشرعية ووضع القوانين بدلها يعني أنه استحل ذلك .

لكن يبقى عنه : هل نكفر هذا الرجل بعينه، أو ننظر حتى تقوم عليه الحجة؟ لأنه قد يشتبه عليه مسائل الأمور الدنيوية من مسائل الأمور العقدية أو التعبدية، ولهذا تجده يحترم العبادة ولم يغير فيها، فلا يقول مثلاً: إن صلاة الظهر تأتي والناس في العمل نؤجلها إلى العصر، أو صلاة العشاء تأتي والناس محتاجون إلى النوم والعشاء نقدمها إلى المغرب مثلاً، يحترم هذا، 

لكن في الأمور الدنيوية ربما يتجاسر ويضع قوانين مخالفة للشرع، فهذا من حيث هو كفر لا شك فيه؛ لأن هذا رفع الحكم الشرعي واستبدل به غيره، ولكن لا بد أن نقيم عليه الحجة .

وننظر لماذا فعلت ذلك؟ قد يلبس عليه بعض العلماء الذين هم علماء دولة، ويحرفون الكلم عن مواضعه من أجل إرضاء الحاكم، فيقولون مثلاً: إن مسائل الدنيا اقتصادياً وزراعياً وأخذاً وإعطاءً موكول إلى البشر؛ لأن المصالح تختلف، ثم يموهون عليه بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : { أنتم أعلم بأمور دنياكم }....... ثم يقولون : اكتب هذه المادة!؛ فيكون هذا جاهلاً .

لكن إذا أقمنا عليه الحجة وقلنا : هذا غلط، وهذا خطأ وتحريف من هذا العالم الذي غرك، ثم أصر على ما هو عليه؛ حينئذ نحكم بكفره ولا نبالي ". اهـ من "لقاءات الباب المفتوح" رقم (87) الوجه (ب) الدقيقة (00:28:24).

فالعلماء قالوا : الكفر كفران :

 اعتقادي...وعملي

* فالإعتقادي كفر أكبر دائما.

والعملي : 

منه ماهو أكبر كالسجود للقبر.

ومنه ما هو كفر أصغر كالحكم بغير ما أنزل الله فهو معصية لا تخرج صاحبها عن الإسلام إلا بأمر واحد فقط هو الإستحلال.

(وخالف في ذلك الخوارج والمعتزلة ' في قولهم أنه في منزلة بين المنزلتين ').

* ولا مجال لمعرفة إستحلال المعصية إلا بالنطق والتصريح. فإن الحكم دائما على الظاهر. 

فمن استحل محرما، لا يمكننا معرفة ذلك، ولو عمل به طول عمره، إلا بالتصريح ولا أحد يخالف في هذا إلا أهل البدع. والدعوة لمواقعة المنكر وتزيينه وتيسيره والتواطؤ عليه ليس استحلالاً؛ ما لم يصرح بأنه يعتقد الحلّ.

* سؤال : هل التشجيع على ممارسة الرذيلة، وحماية بيوت الدعارة، بقوة القانون، ومعاقبة كل شخص ينكر ذلك، يعد من الاستحلال أم لا؟

سؤال آخر : حاكم يمنع النساء من ارتداء الحجاب. بل ويرغمهن على خلعه بالقوة !! أليس هذا استحلالا !!!؟

الجواب : 

لا ليس استحلالا. ومثله كزوج يشجع زوجته على الرذيلة؛ لهدف الكسب المادي، ويستخدم قوة عضلاته لإرغامها على ذلك!. أو أب يمنع ابنته من ارتداء الحجاب، ويرغمها على خلعه بالقوة!. أو أب يجبر ولده على حلق اللحية! فالمداومة على المنكر، والإصرار عليه، والدعوة إليه، وتزيينه، وتحسينه، والإجبار على مواقعته. كل هذا حرام، لا يدل على الاستحلال.

* ولو أن رجلاً أنشأ بيتاً للدعارة؛ فوضع أنظمة تحدد أسعار الجريمة. فجعل للكبيرة سعراً، وللصغيرة سعراً أعلى منه، وللجميلة سعراً. وللقبيحة سعراً. فهذا شرع للزنا ووضع له قوانين؛ لكنه معترف بأن فعله ذنب ولا يرى أنه حلال. فهو لا يكفر.

كذلك : لو أن رجلا لديه قرية سياحية، وبإمكانه أن يمنع بيع الخمور فيها، ويمنع الزنا والقمار فيها، ولكنه سمح بذلك، وجعل له قانوناً من غير استحلال.لا يكفر.

وهكذا من اعتبر تشريع القانون وسّنَه كُفر فإنه يخالف قول السلف إذ لا يكفر هذا إلا الخوارج .انتهى

الشبهة التاسعة :

 (الصلح مع اليهود (التطبيع

قالوا كيف لا نكفر هؤلاء الحكام، وهم قد حرصوا على الصلح مع اليهود، واستباحوا التجارة والتعامل مع إسرائيل .

وإليك الرد عليها :

لقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة، لما قدم المدينة مهاجراً وصالح كفار قريش في الحديبية بل إن تاريخ الإسلام مليئ بمواقف الصلح مع الأعداء. 

بل أنه صلى الله عليه وسلم صالح المشركين صلح الحديبية وهم يستولون على بيوت المهاجرين حتى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم استولى عليها عقيل، ولما قيل له في الفتح : " قال هل ترك لنا عقيل من دار". وقد استولوا أيضا على الكعبة والحرم المكي بل ومنعوه من الدخول في عامه ذاك!.

وإليك نموذج من صلح المسلميين مع الصليبيين، في عهد صلاح الدين، الذي حقق أعظم نصر عرفه التاريخ عليهم، وحرر المسجد الأقصى :

قال القاضي بهاء الدين بن شداد :

"بعد هذا فإن الانكتار_ وهو من أكابر ملوك الإفرنج_ سير رسوله إلى الملك العادل يطلب الاجتماع به، فأجابه إلى ذلك، واجتمعا يوم الجمعة ثامن عشر شوال من السنة..، وتحادثا معظم ذلك النهار، وانفصلا عن مودة أكيدة، والتمس الانكتار من العادل أن يسأل السلطان أن يجتمع به. فذكر العادل ذلك للسلطان، فاستشار أكابر دولته في ذلك، ووقع الاتفاق على أنه إذا جرى الصلح بيننا، يكون الاجتماع بعد ذلك. ثم وصل رسول الانكتار وقال: إن الملك يقول إني أحب صداقتك ومودتك، وأنت تذكر أنك أعطيت هذه البلاد الساحلية لأخيك؛ فأريد أن تكون حكما بيني وبينه، وتقسم البلاد بيني وبينه، ولا بد أن يكون لنا علقة بالقدس.! وأطال الحديث في ذلك فأجابه السلطان بوعد جميل، وأذن له في العود في الحال، وتأثر لذلك تأثرا عظيما.

قال ابن شداد :

 وبعد انفصال الرسول قال لي السلطان : متى صالحناهم، لم تؤمن غائلتهم، ولو حدث بي حادث الموت، ما كانت تجتمع هذه العساكر وتقوى الإفرنج، والمصلحة أن لا نزول عن الجهاد حتى نخرجهم من الساحل، أو يأتينا الموت. هذا كان رأيه وإنما غُلب على الصلح . انتهى (كتاب "سيرة صلاح الدين)

لاحظ أيضا أن الصلح السابق قد أقيم مع وجود القدس تحت أيدي الصليبيين. ولا بد أن يكون هذا الصلح قد وقع على مرئى ومسمع من الفقهاء؛ إذ أن الفقهاء كانوا ذوي مكانة في ذلك الوقت.

وهناك أسباب ودواعي قد تضطر الدولة إلى الصلح...منها :

1- أن يكون المسلمون ضعاف العدد والعدة؛ فيجوز الصلح بين الكفار والمسلمين ريثما تزداد قوة المسلمين،بحيث إذا لم يتم الصلح نتج عنه إبادة للمسلمين. ففي هذه الحالة الصلح مع العدو يكون أولى من الحرب، وهو ما يعرف بترجيح المصالح على المفاسد.

2- أن تكون مصلحة المسلمين في الصلح أكثر منها في الحرب؛ فيكون الصلح عندئذ جائزا حتى ولو كانت الأرض مغتصبة.

ولكن لا ينبغي للبعض أن يظن أن الصلح مع اليهود يوجب محبتهم وموالاتهم؛ فهذا يناقض قاعدة الولاء والبراء. كما لا ينبغي أن يظن أنه صلح مطلق إلى قيام الساعة .

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : 

" فمن كان من المؤمنين بأرض، هو فيها مستضعف، أو في وقت هو فيه مستضعف، فليعمل بآية الصبر والصفح والعفو عمن يؤذى الله ورسوله، من الذين أوتو الكتاب والمشركين،

وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الذين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوه الجزية عن يد وهم صاغرون ". [الصارم المسلول (صفحة221)].

وقال القرطبي رحمه الله :

فإذا كان المسلمون على عزة ومنعة، وجماعة عديدة وشدة شديدة؛ فلا صلح. 

وإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح لنفع يجتلبونه أو ضرر يدفعونه، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون إذا احتاجوا إليه وقد صالح رسول الله، صلي الله عليه وسلم، أهل خيبر على شروط نقضوها، فنقض صلحهم. وقد صالح الضمرى، وأكيدر دومة، وأهل نجران، وقد هادن قريشاً لعشرة أعوام، حتى نقضوا عهده. وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التى شرعناها سالكة، وبالوجوه التي شرحناها عاملة . [تفسير القرطبي (8/39-41)].

ويقول الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :

" الصلح مع اليهود، أو غيرهم من الكفرة، لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم،

 بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين، وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر وغير ذلك، كالبيع والشراء، وتبادل السفراء.. وغير ذلك من المعاملات، التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم. 

وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم، بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم، حتى يسر الله فتح مكة، عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وهكذا صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجراً صلحاً مطلقاً، ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم.

لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم، ودعوتهم إلى الله، وترغيبهم في الإسلام، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.

 ولما حصل من بني النضير من اليهود الخيانة، أجلاهم من المدينة عليه الصلاة والسلام، ولما نقضت قريظة العهد، ومالؤوا كفار مكة، يوم الأحزاب على حرب النبي، صلى الله عليه وسلم، قاتلهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذريتهم ونساءهم، بعدما حكم سعد بن معاذ، رضي الله عنه، فيهم فحكم بذلك، وأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن حكمه قد وافق حكم الله من فوق سبع سماوات.

وهكذا المسلمون من الصحابة ومن بعدهم، وقعت الهدنة بينهم - في أوقات كثيرة - وبين الكفرة من النصارى وغيرهم؛ فلم يوجب ذلك مودة، ولا موالاة ". [(من موقع الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله)].

الشبهة العاشرة :

 الموالاة

سؤال : أليس تعاون الحكام مع أعداء الأمة وفتح الممرات والقواعد العسكرية لهم من الموالاة التي هي كفر باتفاق؟؟

وإليك الرد عليها :

الموالاة نوعان :

·موالاة قلبية : أي حب دين الكافرين، وهي كفر أكفر ونفاق أكبر

·موالاة عملية : مثل مساعدتهم ومعاونتهم، بصورها المتنوعة، وهي ليست كفرا أكبر .

قال الشيخ محمد بازمول حفظه الله :

الولاء والبراء مع الكافر : وهذا على درجتين :
 
الدرجة الأولى : مخرجة من الملة، وهي أن يوالي الإنسان الكافر، يعني يحبه وينصره من أجل دينه وعقيدته، فهو يحب دين الكافر و عقيدة المشركين، ويحب نصرة الكافر وعقيدة الكافر، وهذه الدرجة من الولاء مع الكفار مخرجة من الدين. والأصل أن ينعقد قلب المسلم على بغض الكفار والبراءة منهم. 

الدرجة الثانية : من الولاء والبراء مع الكفار، أن ينعقد قلب المسلم على بغض الكافر وعلى البراءة منهم، ولكن قد يحب الكافر لأمر من أمور الدنيا، أو يتعامل معه بمعاملة في الظاهر، كالمسلم يحب زوجته النصرانية أو اليهودية لأنها زوجته، أو المسلم يحب تاجرا كافرا من أجل صدقه وحسن بضاعته، وحسن بيعه وأمانته ونحو ذلك، أو يبيع ويشتري مع الكافر، فهذا النوع من الولاء لا يخرج من الملة، وهو يدور على الأحكام الشرعية الخمسة، 

تارة يكون واجبا، تارة يكون مستحبا، تارة يكون مباحا، تارة يكون محرما، تارة يكون مكروها؛ 

** يكون واجبا كالبر بالوالدين، أو كالبر بـالكافر من أجل تحقيق أمر فيه مصلحة عامة للمسلمين لا سبيل لها إلا ذلك، وكنصرة الزوجة الكتابية ممن يريدها بشر من الفساق والسفهاء. 

** ويكون مستحبا بأن يوالي الإنسان الكافر الولاء الظاهر، مع انعقاد القلب على بغض الكافر و كره ما عليه دينه واعتقاده، رغبة في دعوته كما قال تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)، وكان الرسول يحب أن يسلم عمه أبوطالب.

**  وقد يكون حراما كالتشبه بالكفار في ما هو من خصائصهم من أمر العادات، مع انعقاد القلب على بغضهم وكرههم. 

** وقد يكون مكروها، كأن تستعمل العامل الكافر مع وجود مسلم يغني عنه. 

** وقد يكون مباحا، في التعامل معه في الأمور الظاهرة، كالبيع والشراء، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي . 

أقول هذا الولاء وهذه أنواعه وهذه أحكامه وهذه درجاته... انتهى باختصار من (المصدر: شريط أصول وقواعد في المنهج)

وهذا حكم الجاسوس المسلم، فيما حكاه الحافظ ابن حجر العسقلاني، في معرض الكلام عن حديث حاطب بن أبي بلتعة : " وفيه هتك ستر الجاسوس، وقد استدل به من يرى قتله من المالكية؛ لأستئذان عمر في قتله، ولم يرده النبي، صلى الله عليه وسلم،عن ذلك الا لكونه من أهل بدر. ومنهم من قيده بأن يتكرر ذلك منه.

والمعروف عن مالك قوله : يجتهد فيه الإمام.

وقد نقل الطحاوي الإجماع على أن الجاسوس المسلم لا يباح دمه. وقال الشافعية والأكثر : يُعزر، وإن كان من أهل الهيئات، يُعفى عنه. وكذا قال الأوزاعي وأبوحنيفة : يوجع عقوبة، ويطال حبسه ". [فتح الباري (12\310)].

وقد صرح ابن القيم أن التجسس كبيرة دون الشرك، كما قال : " إن الكبيرة العظيمة، مما دون الشرك، قد تُكفر بالحسنة الكبيرة الماحية، كما وقع الجس من حاطب مكفرا بشهوده بدرا. فإن ما اشتملت عليه هذه الحسنة العظيمة من المصلحة، وتضمنته من محبة الله لها، ورضاه بها، وفرحه بها، ومباهاته للملائكة بفاعلها، أعظم مما اشتملت عليه سيئة الجس من المفسدة، وتضمنته من بغض الله لها، فغلب الأقوى على الأضعف؛ فأزاله وأبطل مقتضاه ". [ زاد المعاد (3\372].

فالأولى أن يقال : إن العلماء مجمعون على عدم تكفيره، بقرينة وصفه بالمسلم، واتفاق جماهيرهم على أنه لا يُقتل. ولو كان مرتدا، لاتفقوا على قتله. وحتى من قال إنه يقتل، فقد جعل مناط قتله هو التعزير، لا الردة.

خلاصة لكل ما سبق

أولا : من لم يحكم بما أنزل الله، إن استحل ذلك، أو اعتقده جائزاً، أو جحد وجوب الحكم بالأحكام الشرعية، أو استهزأ أو استهان بها أو استحقرها، فهذا كفر أكبر، وظلم أكبر، وفسق أكبر يخرج من الملة.

أما إن فعل ذلك من أجل الرشوة، أو الهوى، أو مكرها على ذلك، أو لأي مقصد آخر، وهو يعتقد تحريم ذلك فإنه آثم، ويعد كافراً كفراً أصغر، وفاسقاً فسقاً أصغر، لا يخرجه من الملة.

والحكم بغير ما أنزل الله - في مجمله - من الكفر العملي. والكفر العملي لا يخرج من الملَّة بإطلاق :

فمنه ما يخرج من الملَّة بالكلية - بمجرد فعله - سواء كان معتقداً أم غير معتقد، مستحلاً أم غير مستحل.. كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف وإلقائه في القاذورات، والاستهزاء بالله وآياته ورسله .

ومنه ما لا يخرج من الملَّة إلاَّ إذا كان مستحلاً أو جاحدا أو مستهزأ أو مستهينا ومُحَقِّرا.. كقتال المسلم، وإتيان الحائض، وغشيان المرأة في دبرها، ونحو ذلك مما سماه الشارع كفراً، ولم يرد به الكفر الـمُخْرِج من الملة .

ثانيا : لقد شغب الخصم؛ ليثبت فرقاً بين القضايا المعينة والتشريع العام، وليبطل ما أجمع عليه السلف وأهل السنة، من أن مناط الحكم بالكفر على مرتكب الكبيرة – ومن ذلك الحكم بغير ما أنزل الله – هو الاستحلال أو الجحود أو الاستهزاء أو ما شابه ذلك .

وردا على هذه الشبهة الشهيرة :

1- أن الخصم لم يستدل على ما ذهب إليه من التفريق المزعوم بدليل واضح من كتاب أو سنَّةٍ أو حتى قول لصحابي. " وما كان كذلك كان أولى بالطرح وعدم القبول ".

2- لا فرق بين من حكم بغير ما أنزل في " مسألة وحدة أو مسألتين"، وبين من حكم به "اطرادا "إذ أن علة الحكم عليه بالكفر هي : أنه حكم بغير ما أنزل الله "مستحلا أو معاندا، أو ترك الحكم بما أنزل الله مستهزئا أو مستهينا مستحقرا ". فليست المسألة متعلقة بمن حكم بغير ما أنزل الله "مرة أو مرتين أو عشرة أو مائة " أو "اطرادا ".

فمناط الحكم عليه بالكفر هو" الاستحلال أو الجحود أو الاستهزاء أو الاحتقار أو الاستهانة "، وليس أنه جعله "تشريعا عاما". 

إذ لا فرق بين من حكم به مرة أو عشرة أو مائة أو ألفا أو عشرة الآلاف متبعا لهواه - ولكنه معتقد بوجوب الحكم بغير ما أنزل الله-، وبين من جعل القانون الوضعي تشريعا عاما - مع اعتقاده لوجوب الحكم بغير ما أنزل الله .انتهى.

واعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار .

 فليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً

قال ابنُ عبدِ البَرِّ : ( كُلُّ مَنْ ثَبَت له عَقْدُ الإسلامِ في وَقتٍ بإجماعٍ مِنْ المُسلِمينَ، ثمَّ أذنَبَ ذَنبًا أو تأوَّلَ تأويلًا، فاختَلَفوا بعدُ في خُروجِه من الإسلامِ؛ لم يكنْ لاختِلافِهم بعدَ إجماعِهم معنًى يُوجِبُ حُجَّةً، ولا يُخرَجُ مِنْ الإسلامِ المُتَّفَقِ عليه إلَّا باتِّفاقٍ آخَرَ، أو سُنَّةٍ ثابتةٍ لا مُعارِضَ لها ) .يُنظر: ((التمهيد)) (17/21).

وقال ابنُ تيميَّةَ : ( ...فَتَكْفِيرُ " الْمُعَيَّنِ " مِنْ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالِ وَأَمْثَالِهِمْ - بِحَيْثُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْكُفَّارِ - لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ تَقُومَ عَلَى أَحَدِهِمْ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّهُمْ مُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ لَا رَيْبَ أَنَّهَا كُفْرٌ . 

وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي تَكْفِيرِ جَمِيعِ " الْمُعَيَّنِينَ " مَعَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ أَشَدُّ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْإِيمَانِ مَا لَيْسَ فِي بَعْضٍ فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يُكَفِّرَ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَخْطَأَ وَغَلِطَ حَتَّى تُقَامَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ وَتُبَيَّنَ لَهُ الْمَحَجَّةُ . وَمَنْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِيَقِينِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِالشَّكِّ ؛ بَلْ لَا يَزُولُ إلَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْحُجَّةِ وَإِزَالَةِ الشُّبْهَةِ ") . انتهى من " مجموع الفتاوى " (12/501) .

قال أيضا - رحمه الله - ( فتاواه 16/434 ) : « فليس كل مخطيء كافراً ؛ لا سيما في المسائل الدقيقة التي كثر فيها نزاع الأمة ». انتهى .

وقال -أيضا رحمه الله - ( فتاواه 12/487 ) : « . . . كلّما رأوهم قالوا : ( من قال كذا فهو كافر ) , اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكلّ من قاله , ولم يتدبروا أن التكفير لـه شروط وموانع قد تنتفي في حق المُعَيّن , وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المُعَيّن إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع . 

يُبيِّن هذا : أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه ». انتهى .

وقال مُحمَّدُ بنُ عبدِ الوهَّاب : ( مَنْ أظهَرَ الإسلامَ وظَنَنَّا أنَّه أتى بناقضٍ، لا نُكَفِّرُه بالظَّنِّ؛ لأنَّ اليَقينَ لا يَرفَعُه الظَّنُّ ). يُنظر: ((الدرر السنية)) (10/112). انتهى.

--------------------------------------
نقلا من : كتاب : (الردود السلفية على شبهات الحاكمية). المؤلف : أ.د. طلعت عبد الرازق زهران حفظه الله.

ومن كتاب : (كتاب الحكم بغير ما أنزل الله - المحياني - ط (1437))

ومن أراد الإستزادة فعليه ب كتاب : (فتنة التكفير- للشيخ ناصر الدين الالباني رحمه الله). و(سلسلة الهدى والنور- للألباني-(1029))و (سلسلة الهدى والنور-(856b)).

وأيضا كتاب : (كتاب الحكم بغير ما أنزل الله - المحياني - ط (1437))

 أعاذنا الله وإياكم من بدع الخوارج ومن أهلها وحزبياتهم المقيتة .


والله اعلم


إقرأ أيضا..




هل اعجبك الموضوع :
author-img
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تعليقات