معنى الإستواء في قوله تعالى : " الرحمن على العرش استوى ". (سورة طه - الآية (5)). هو : الإرتفاع والعلو.
والإستواء: صفة فعلية خبرية ثابتة لله عز وجل بالكتاب والسنة.
** والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى علا وارتفع فوق عرشه بذاته حقيقةً ارتفاعاً يليق بجلاله وعظمته،
بائنٌ من خلقه ليس حاّلاً فيهم ولا يعلوه خلقٌ من خلقه، وعلمه سبحانه وتعالى في كل مكان سبحانه لا يخفى عليه خافية،
فلا يشابه الخلق في صفاتهم، لا في الإستواء ولا في غيره؛ لقوله : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. [الشورى:11] .
** والإستواء على العرش يختلف عن العلو بأنه أخص منه ، فالله جل وعلا من صفاته الذاتية العلو العام، وهذا ثابت لله عز وجل قبل خلق السماوات والأرض، وحين خلقهما، وبعد خلقهما،
وأما الإستواء على العرش فإنه صفة فعلية باعتبار أنه جل وعلا لم يكن مستويا على العرش قبل خلق السموات والارض ثم استوى،
فالإستواء أخص من مطلق العلو، ولهذا كان استواء الله تعالى على عرشه من صفاته الفعلية المتعلقة بمشيئته،
بخلاف علوه فإنه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، كالسمع والبصر والقدرة ونحو ذلك. ينظر : (مجموع الفتاوى للعثيمين المجلد الأول - باب السماء والصفات).
** فالقاعدة الكلية التى قام عليها مذهب أئمة السلف : هي أن الله خاطبنا بما نعرف في لغة العرب فلا بد من فهم كلامه بناءً على ما تقتضيه تلك اللغة،
والتى أوضحها الإمام مالك عندما سئل عن الاستواء، فقال : ( الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه )، ثم أمَر بإخراج السائل من مجلسه.
- قال ابن عبدالبر (ت: 463هـ) رحمه الله : " والإستواء معلوم في اللغة ومفهوم، وهو العلوُّ والارتفاع على الشيء ". ينظر: [التمهيد، لابن عبدالبر: (7/ 131)].
** والعرش : هو سقف المخلوقات، وأعلاها، والله فوقه يعلم أحوال عباده، لا تخفى عليه خافية، جل وعلا.
** وعلو الله تعالى على عرشه وعلى جميع خلقه : يعني كونه سبحانه وتعالى فوق المخلوقات كلها ، فوق السماء ، وفوق الجنة ، وفوق العرش،
وأنه سبحانه وتعالى لا يحويه شيء من هذه المخلوقات ، ولا يحتاج هو ـ سبحانه ـ إلى شيء منها ، بل هو خالقها والقيوم عليها ، ولا قوام للعرش ، ولا غيره من الخلق إلا بقيام الله جل جلاله عليه ، وإقامته له .
** هذا وقد أجمع الصحابة وأئمَّة السلف على إثبات صفة الاستواء لله جلَّ وعلا، فقد نقل الإمام الصابوني -رحمه الله- (المتوفى سنة 449 هـ)،هذا الاتِّفاقَ في «عقيدة السلف أصحاب الحديث» (15، 16)، بقوله :
« وعلماء الأمَّة وأعيان الأئمَّة من السلف -رحمهم الله- لم يختلفوا في أنَّ الله تعالى على عرشه، وعرشُه فوق سماواته، يُثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى،
ويؤمنون به ويصدِّقون الربَّ جلَّ جلاله في خبره، ويُطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش، ويُمرُّونه على ظاهره، ويكِلُون عِلْمَه إلى الله ». انتهى.
- كما ذكر الحافظ ابن حجرٍ -رحمه الله - الإجماعَ عند إيراده لأقوال أئمَّة السنَّة في إثبات صفة الاستواء، فقال في «فتح الباري» (13/ 407-408) في سياق التعقيب :
« فكيف لا يوثق بما اتَّفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة ». انتهى.
** وإليك كلام أهل العلم فى ذلك:
- قال الإمام أبو حنيفةَ رحمه الله (المتوفى سنة 150 هـ) :
نقر بأن الله تعالى على العرش استوى من غير أن يكون له حاجة. يُنظر:((شرح وصية الإمام أبي حنيفة)) للبابرتي (ص: 87).
- وقال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله (المتوفى سنة 204 هـ) في وصيَّتِه :
القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت أصحابنا عليها أهل الحديث الذين رأيتهم فأخذت عنهم؛ مثل : سفيان ومالك وغيرهما :
الإقرار بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلقه كيف شاء. يُنظر: ((إثبات صفة العلو)) لابن قدامة (ص: 180)، ((العلو للعلي الغفار)) للذهبي (ص: 165).
- وقال الإمام أبو حاتمٍ الرازيُّ رحمه الله (المتوفى سنة 277 هـ) :
مذهبنا واختيارنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ومن بعدهم بإحسان، وترك النظر في موضع بدعهم، والتمسك بمذهب أهل الأثر؛
مثل : أبي عبد الله أحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم، وأبي عبيد القاسم بن سلام، والشافعي، ...،
مالك بن أنس في المدينة، والأوزاعي بالشام، والليث بن سعد بمصر، وسفيان الثوري وحماد بن زياد بالعراق... أن الله على عرشه بائن من خلقه "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". [الشورى: 11]. يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 202-204).
- وقال الإمام بن خزيمة رحمه الله (المتوفى سنة 311 هـ) :
من لم يقرّ بِأَن الله على عَرْشه اسْتَوَى، فَوق سبع سمواته، بَائِن من خلقه، فَهُوَ كَافِر، يُسْتَتَاب،
فَإِن تَابَ، وَإِلَّا ضربت عُنُقه، وَأُلْقِي على مزبلة، لِئَلَّا يتَأَذَّى بريحته أهل الْقبْلَة، وَأهل الذِّمَّة. يُنظر: ((العلو)) (ص: 207)، ((سير أعلام النبلاء)) (14/373) كلاهما للذهبي.
- وقال الإمام الأشعري رحمه الله (المتوفى سنة 324 هـ) :
إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟
قيل له : نقول إن الله عز وجل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار. كما قال : الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. {طـه:5}.
إلى أن قال : ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله تعالى مستو على العرش الذي هو فوق السماوات،
فلولا أن الله عز و جل على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ينظر: (الإبانة عن أصول الديانة).
- قال محيي السنة البغوي رحمه الله (المتوفى سنة 516 هـ) :
وذلك عند تفسيره لقوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ. [الأعراف: 54] ، أولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء.
فأما أهل السنة يقولون : الإستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل. ينظر: (تفسير البغوى).
- وقد أكد القرطبي – صاحب التفسير (المتوفى سنة 671 هـ)- أن أئمة السلف كانوا يعتقدون أن الاستواء صفة حقيقية، فقال :
ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وخص العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته. ينظر: [أحكام القرآن- للقرطبي(7/219)].
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (المتوفى سنة 728 هـ) :
السلف والأئمة وسائر علماء السنة إذا قالوا " إنه فوق العرش ، وإنه في السماء فوق كل شيء " ،
لا يقولون إن هناك شيئا يحويه ، أو يحصره ، أو يكون محلا له ، أو ظرفا ووعاء ، سبحانه وتعالى عن ذلك ،
بل هو فوق كل شيء ، وهو مستغن عن كل شيء ، وكل شيء مفتقر إليه ، وهو عالٍ على كل شيء ،
وهو الحامل للعرش ولحملة العرش بقوته وقدرته ، وكل مخلوق مفتقر إليه ، وهو غني عن العرش وعن كل مخلوق. انتهى من " مجموع الفتاوى " (16/100-101).
- وقال ابن القيم رحمه الله (المتوفى سنة 751 هـ) :
ردًّا على من حرَّف صفة الاستواء وعطَّلها - هذا الذي قالوه باطل من اثنين وأربعين وجهاً :
أحدها: إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه : نوعان :
مطلق ومقيد
فالمطلق : ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى ). القصص/ 14 ،وهذا معناه : كمل وتمَّ يقال : استوى النبات واستوى الطعام .
أما المقيد : فثلاثة أضرب :
أحدها : مقيد بـ " إلى " ، كقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ). البقرة/ 29 ، وهذا بمعنى العلو والارتفاع ، بإجماع السلف .
الثاني : مقيَّد بـ " على " ، كقوله تعالى : ( لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ). الزخرف/ 13 ، وهذا أيضاً معناه العلو والارتفاع والاعتدال ، بإجماع أهل اللغة .
الثالث : المقرون بـ " واو " مع التي تعدي الفعل إلى المفعول معه ، نحو : استوى الماء والخشبة ، بمعنى ساواها .
وهذه معاني الإستواء المعقولة في كلامهم ليس فيها معنى " استولى " ألبتة،
ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم وإنما قاله متأخرو النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية. ينظر: " مختصر الصواعق " ( ص 371 ، 372 ) .
** ختاماً:
الواجب على كل مسلم أن يعتقد وأن يؤمن بهذه الصفات ك:
الاستواء والرحمة، والسمع والبصر، والغضب والوجه، واليد والقدم، والأصابع وغير هذا من صفاته سبحانه وتعالى،
ويجب اثباتها على الوجه اللائق بالله سبحانه من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل،
كما قال ربنا -عز وجل-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ.[الشورى:11]، هذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي ﷺ وأتباعهم بإحسان.
اقرأ أيضا : هل يجوز القول بأن الله جالس أو قاعد على العرش؟
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق