">

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع ال

التأويل في صفات الله : ما الجائز منه وما المذموم؟


لفهم هذه القضية، يجب العودة إلى الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم الذين وضعوا القواعد السليمة في التعامل مع النصوص المتعلقة بصفات الله.

** التأويل الجائز : عند السلف معناه التفسير، وهو وما دل عليه الدليل  الشرعي.

مثال : ما جاء في الحديث القدسي ‏:‏ ‏(‏ عبدي جعت فلم تطعمني، ومرضت فلم تعدني ‏)‏. 

فظاهر هذا الحديث أن الله نفسه هو الذي جاع وهو الذي مرض‏ وهذا غير مراد قطعاً، 

ففسر هذا الحديث بنفس الحديث ‏:‏ ‏( ‏فقال ‏:‏ أما علمت أن عبدي فلاناً جاع فلم تطعمه، وعبدي فلاناً مرض فلم تعده‏)‏‏. 

فالذي صرف ظاهر اللفظ الأول إلى هذا المعنى هو الحديث القدسي نفسه، فلا يقال ‏:‏ إن صرف ظاهر اللفظ الأول إلى هذا المعنى الثاني تأويل مذموم‏.‏

** أما المذموم منه : هو ما لا دليل عليه وصرف اللفظ عن معناه الظاهر الراجح إلى معنى آخر مرجوح، بحيث يُفهم اللفظ بخلاف ظاهره، 

كتأويل اليد بالقدرة، أو القوة، وتأويل الاستواء بالاستيلاء ، وهذا التأويل لم يثبت عن أحد من الصحابة والتابعين، ولا الأئمة المتبوعين.

** لذا قد خاب وخسر من تأول شيئا من صفات الله وحرفها عن معناها، كمن يؤول صفة اليد على أنها القدرة ويقول استوى يعني استولى ونحو ذلك،

فهذا من تحريف الكلم عن موضعه، وهو مخطئ فيما تأوله على غير ظاهره 

مبتدع بقدر ما عنده من المخالفة للسنة والخروج عن طريق أهل السنة والجماعة .

** فلم يرد قط من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم

أنه سأل رسول الله ﷺ عن معنى شيء مما وصف الرب سبحانه به نفسه الكريمة في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه محمد ﷺ،

بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا عن الكلام في الصفات، 

فأثبتوا رضي الله عنهم ما أطلقه الله عز وجل على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفي مماثلة المخلوقين،

فأثبتوا رضي الله عنهم بلا تشبيه ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا ورأوا بأجمعهم إجراء الصفات كما وردت. ينظر: (((المواعظ والاعتبار)) للمقريزي (2/356)).

** لذلك ليس بصحيح تفويض الأمر في معنى الصفات إلى علام الغيوب،

لأنه سبحانه بينها لعباده وأوضحها في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين ﷺ، ولم يبين كيفيتها، 

فالواجب تفويض علم الكيفية لا علم المعاني، والتفويض مذهب مبتدع مخالف لما عليه السلف الصالح.

** وإليك عدم ثبوت التأويل المذموم في صفات الله عن السلف من كلامهم:

1 - عن ابنِ عباسٍ في قولِه تعالى : { وسع كرسيُّه السمواتِ والأرضَ } (الكرسيُّ موضعُ القدميْنِ، والعرشُ لا يَقْدِرُ أحدٌ قدْرَه). (صحيح موقوف- شرح الطحاوية- للألباني(279)).

* فتفسير ابن عباس رضي الله عنهما بأن : " الكرسي موضع القدمين ". لم يصرف اللفظ عن ظاهره، وهو الموافق لما صح عن النبي  ، ولأقاويل الصحابة رضي الله عنهم .

ولهذا قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رحمه الله (ت280 هـ) : " وهو بنفسه على العرش ، بكماله ، كما وصف ". ينظر: "الرد على الجهمية" (ص/55) .

2 - قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله (ت150هـ): " وله يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في القرآن، 

فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس، فهو له صفات بلا كيف، 

ولا يقال : إن يده قدرته أو نعمته ؛ لأن فيه إبطالَ الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، 

ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته تعالى بلا كيف ". ينظر: "الفقه الأكبر، مع شرحه" لملا علي القاري، ص 58.

3 - وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله (ت 189هـ): اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب 

على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله ﷺ في صفة الرب عز وجل، 

من غير تفسير، ولا وصف، ولا تشبيه، فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي ﷺ، وفارق الجماعة؛ 

فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة، ثم سكتوا، 

فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء ". ينظر: "شرح أصول الاعتقاد- للالكائي" (3/432)، وانظر: "العرش" للذهبي(2/196).

4 - وقال الإمام الطبري رحمه الله (ت 310هـ) : إن الصحابة رضوان الله عليهم – كانوا يفهمون معاني القرآن, وتأويله، وتفسيره بما يوافق الطريقة النبوية في الإثبات، 

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن.ينظر: (((تفسير الطبري)) (1/35-36-44) ).

5 - قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله (ت 311هـ) إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا 

على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله، ونبيه الرسول ﷺ عن كتابه، 

مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف. ينظر: ((ذم التأويل)) لابن قدامة (ص: 18)، ((الأربعين في صفات رب العالمين)) للذهبي (ص: 87).

6 - وقال الإمام السجزي رحمه الله (ت 444هـ) بعد أن ذكر جملة من أحاديث الصفات : وقد نطق القرآن بأكثرها، وعند أهل الأثر أنها صفات ذاته، لا يفسر منها إلا ما فسره النبي ﷺ أو الصحابي، 

بل نمر هذه الأحاديث على ما جاءت، بعد قبولها والإيمان بها والاعتقاد بما فيها، بلا كيفية. ينظر: ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد)) (ص: 268).

7 - قال الإمام ابن قدامة رحمه الله (ت 620هـ)ومذهب السلف رحمة الله عليهم : الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه التي وصف بها نفسه في آياته وتنزيله، 

أو على لسان رسوله من غير زيادة عليها، ولا نقص منها ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها.. ينظر: ((ذم التأويل)) (ص: 11).

8 - قال الشيخ ابن باز رحمه الله (ت 1420هـ) : لا يجوز تأويل الصفات ولا صرفها عن ظاهرها اللائق بالله ولا تفويضها بل هذا كله من اعتقاد أهل البدع.. ينظر: ("مجموع فتاوى ابن باز" (2 /106-107)) .

وقال أيضا رحمه الله :

.. وقد أنكر الإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السلف على أهل التفويض، وبدعوهم؛ 

لأن مقتضى مذهبهم أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمون معناه ولا يعقلون مراده منه، والله سبحانه وتعالى يتقدس عن ذلك، 

وأهل السنة والجماعة يعرفون مراده سبحانه بكلامه، ويصفونه بمقتضى أسمائه وصفاته، وينزهونه عن كل ما لا يليق به عز وجل، 

وقد علموا من كلامه سبحانه ومن كلام رسوله ﷺ أنه سبحانه موصوف بالكمال المطلق في جميع ما أخبر به عن نفسه، أو أخبر به عنه رسوله ﷺ. ينظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/ 55).

9 - قال الشيخ العثيمين رحمه الله (ت 1421هـ): ( معاني التأويل ثلاثة:

أحدها: التفسير، وهو إيضاح المعنى وبيانه، وهذا اصطلاح جمهور المفسرين، 

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل))، وهذا معلوم عند العلماء في آيات الصفات وغيرها.

الثاني: الحقيقة التي يؤول الشيء إليها، وهذا هو المعروف من معنى التأويل في الكتاب والسنة، 

كما قال تعالى : هل ينظرون إلا تأويله. [الأعراف: 53] ، أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء ، 

فتأويل آيات الصفات بهذا المعنى هو الكنه والحقيقة التي هي عليها، وهذا لا يعلمه إلا الله.

الثالث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر، وهو اصطلاح المتأخرين من المتكلمين وغيرهم، 

وهذان نوعان : صحيح، وفاسد؛ 

فالصحيح : ما دل الدليل عليه، مثل تأويل قوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم. [النحل: 98] إلى أن المعنى : إذا أردت أن تقرأ. 

والفاسد : ما لا دليل عليه، كتأويل استواء الله على عرشه باستيلائه، ويده بقوته ونعمته، ونحو ذلك )). ينظر: ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (4/ 83).

** ختاماً :

الواجب على المسلم أن يلتزم بمنهج السلف في التعامل مع صفات الله: 

إثبات ما ورد في الكتاب والسنة من صفات لله تعالى على الوجه الذي يليق به، دون تشبيه أو تعطيل أو تأويل بغير دليل.

- وبهذا يتبين بطلان قول من قال : مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم وأعلم!. بل مذهب السلف أحكم وأعلم وأسلم.


والله اعلم


وللفائدة..

هل اعجبك الموضوع :
author-img
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تعليقات