من المعاصي والسيئات من يذهب الحسنات ويحبطها ومنها ما ليس كذلك ولكن لا يحبط الأعمال كلها غير الكفر والشرك بالله العظيم .
ومن الأدلة على ذلك :
1- قال الله تعالى : ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ . (سورة الانعام -88)
قال العلامة السعدي رحمه الله في تفسيره : { وَلَوْ أَشْرَكُوا } على الفرض والتقدير { لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فإن الشرك محبط للعمل، موجب للخلود في النار. فإذا كان هؤلاء الصفوة الأخيار، لو أشركوا - وحاشاهم- لحبطت أعمالهم فغيرهم أولى .انتهى
2- عن ثوبان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً . قال ثوبان : يا رسول الله صفهم لنا، جلهم لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال : أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " . (صحيح ابن ماجه)
قال العلامة الألباني رحمه الله في شرح هذا الحديث : قوله : ( إذا خلوا بمحارم الله ) أي : إذا سنحت لهم الفرصة انتهكوا المحارم . فخلو مش معناها سرا.
هؤلاء إذا خلو بمحارم الله انتهكوها لا يعني خلو مرة واحدة ، وإنما هذا ديدنهم وشأنهم دائما فلذلك تطغى هذه المحرمات على تلك الحسنات، الله أعلم هذا هو المقصود . انتهى باختصار من (سلسلة الهدى والنور-(266))
3- وفي صحيح مسلم : أن رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان فقال الله : " من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ، قد غفرت لفلان وأحبطت عملك " .
دل الحديث على خطر التألِّي على الله وهو القسم بأن فلانًا في الجنة أو في النار فلو رأيت مسلمًا فعل ما فعل من المعاصي فلا يشرع لنا أن نجزم ونُقسِم بأنه في النار فإن ذلك مُحرَّم بل يحبطُ العمل والعياذ بالله .
قال ابن تيمية رحمه الله :
ولا يحبط الأعمال غير الكفر ؛ لأن من مات على الإيمان فإنه لا بد أن يدخل الجنة ، ويخرج من النار إن دخلها ، ولو حبط عمله كله لم يدخل الجنة قط ، ولأن الأعمال إنما يحبطها ما ينافيها ، ولا ينافي الأعمال مطلقًا إلا الكفر ، وهذا معروف من أصول السنة . انتهى من (الصارم المسلول" (ص/55))
وسُئل أيضا رحمه الله :
عن رجل مسلم يعمل عملاً يستوجِب أن يُبْنَى له قصر في الجنَّة، ويُغرس له غِراس باسمه، ثم يعمل ذنوبًا يستوجب بها النَّار، فإذا دخل النَّار، فكيف يكون اسمه أنَّه في الجنَّة وهو في النَّار؟
فأجاب :
وإن تاب عن ذنوبه توبة نصوحًا، فإنَّ الله يغفر له ولا يَحرمه ما كان وعَده؛ بل يعطيه ذلك،
وإن لم يتُب، وُزِنَتْ حسناتُه وسيئاته، فإن رجحتْ حسناته على سيِّئاته، كان من أهل الثَّواب، وإن رجحت سيِّئاته على حسناته، كان من أهل العذاب، وما أعدَّ له من الثواب، يُحْبَط حينئذ بالسيئات التي زادت على حسناتِه، كما أنَّه إذا عمل سيئات استحقَّ بها النار، ثم عمل بعدها حسنات تذهب السيئات، والله أعلم . انتهى من (مجموع الفتاوى - المجلد الرابع (العقيدة))
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله :
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحصر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه .
فالرياء وإن دق محبط للعمل، وهو أبواب كثيرة لا تحصر،
وكون العمل غير مقيد باتباع السنة أيضاً موجب لكونه باطلاً،
والمن به على الله تعالى بقلبه مفسد له،
وكذلك المن بالصدقة والمعروف والبر والاحسان والصلة مفسد لها كما قال سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى}
وأكثر الناس ما عندهم خبر من السيئات التي تحبط الحسنات، وقد قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} فحذر المؤمنين من حبوط أعمالهم بالجهر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما يجهر بعضهم لبعض، وليس هذا بردة، بل معصية تحبط العمل وصاحبها لا يشعر بها، فما الظن بمن قم على قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدية وطريقه قول غيره وهديه وطريقه؟أليس هذا قد حبط عمله وهو لا يشعر؟
ومن هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله »
ومن هذا قول عائشة رضى الله تعالى عنها وعن أبيها لزيد بن أرقم رضى الله عنه لما باع بالعينة : إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أن يتوب . وليس التبايع بالعينة ردة، وإنما غايته أنه معصية،
فمعرفة ما يفسد الأعمال في حال وقوعها ويبطلها ويحبطها بعد وقوعها من أهم ما ينبغي أن يفتش عليه العبد ويحرص على عمله ويحذره .
وقد جاء في أثر معروف إن العبد ليعمل العمل سراً لا يطلع عليه أحداً إلا الله تعالى فيتحدث به فينتقل من ديوان السر إلى ديوان العلانية ثم يصير في ذلك الديوان على حسب العلانية فإن تحدث به للسمعة وطلب الجاه والمنزلة عند غير الله تعالى أبطله كما لو فعله لذلك .
فإن قيل :
فإذا تاب هذا هل يعود إليه ثواب العمل؟
قيل :
إن كان قد عمله لغير الله تعالى وأوقعه بهذه النية فإنه لا ينقلب صالحاً بالتوبة، بل حسب التوبة أن تمحو عنه عقابه فيصير لا له ولا عليه .
وإما أن عمله لله تعالى خالصاً ثم عرض له عجب ورياء أو تحدث به ثم تاب من ذلك وندم فهذا قد يعود له ثواب عمله ولا يحبط .... انتهى باختصار من (كتاب الوابل الصيب من الكلم الطيب)
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق