تجوز الصلاة على الجنازة داخل المقبرة كما تجوز الصلاة عليها بعد الدفن لأن النهي عن الصلاة في القبور يختص بالصلاة التي فيها ركوع وسجود بخلاف صلاة الجنائز فإنها مُجرد دعاء لذلك الميت فلا تدخل في النهي .
فلا فرق بين أن يصلى على جنازة مدفونة أو على جنازة غير مدفونة لأن العلة واحدة وهي وجود الميت الذي يصلى عليه في المقبرة .
فقد ثبت صلاة الجنازة على القبر لذا فهى مستثناة من النهي عن الصلاة في المقبرة « لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ». [مسلم: 972]، فتكون صلاة الجنازة مخصوصة من عموم هذا الخبر بدليل أنه -عليه الصلاة والسلام- صلى على الميت وهو في قبره فدل على أن صلاة الجنازة مستثناة ولا إشكال فيها .
فإذا صلَّيتُ على القبر فإنك تقف وراءه تجعله بينك وبين القِبلة كما هو الشأن فيما إذا صليتَ عليه قبل الدفن .
ومن الأدلة على ذلك :
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن فكبر عليه أربعا ). رواه البخاري (1319)
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَقَالُوا : مَاتَ، قَالَ : « أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ - أَوْ قَالَ قَبْرِهَا - فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا ». أخرجه البخاري . وفي رواية للنسائي : فَكَرِهْنا أن نوقظَكَ قالَ : فانطلِقوا . فانطلقَ يَمشي ومَشوا معَهُ ، حتَّى أروهُ قبرَها ، فقامَ رسولُ اللَّهِ وصفُّوا وراءَهُ ، فصلَّى علَيها ، وَكَبَّرَ أربعًا . [صحيح النسائي: 1968].
3- عن نافع مولى ابن عمر أنه قال : صلَّيْنا على عائشةَ وأمِّ سلمةَ وسَطَ البقيعِ ، والإمامُ يومئذٍ أبو هريرةَ وحضر ذلك ابنُ عمرَ . (إسناده صحيح - تحذير الساجد رقم: (171))
4- عن نافع : أن ابن عمر قدم بعدما توفي عاصم أخوه فسأل عنه، فقال : أين قبر أخى؟ فدلوه عليه، فأتاه فدعا له وفي رواية: بعد ثلاثة أيام . أخرجه عبد الرزاق (٣/ ٥١١) والأثرم كما في التمهيد (٦/ ٢٧٦) بسند صحيح عن أيوب عن نافع به .
5- عن ابن أبي مليكة قال : ( توفي عبدالرحمن بن أبي بكر بكر على ستة أميال من مكة، فحملناه حتى جئنا به إلى مكة فدفناه، فقدمت علينا عائشة بعد ذلك فعابت ذلك علينا، ثم قالت: أين قبر أخي؟ فدللتها عليه فوضعت في هودجها عند قبره فصلت عليه ). أخرجه عبدالرزاق (3/ 518) بسند صحيح عن معمر عن أيوب عن ابن أبي مليكة به
قال الإمام ابن حزم رحمه الله :
كل هذه الآثار حق، فلا تحل الصلاة حيث ذكرنا إلا صلاة الجنازة فإنها تصلى في المقبرة، وعلى القبر الذي قد دفن صاحبه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحرم ما نهى عنه، ونعد من التقرب إلى الله تعالى أن نفعل! مثل ما فعل فأمره ونهيه حق، وفعله حق، وما عدا ذلك فباطل . انتهى من (المحلى بالآثار 1-12 ج(2 ))
وأما قوله : " فإن صَلَاتِي عَلَيْهِ لَهُ رَحْمَةٌ ". وهذا لا يكون في غيره صلى الله عليه وسلم .
الرد على ذلك :
** إذا كان الخاص هو الرحمة والنور كما جاء في طرق أخرى فنعم لكن الصلاة في المقبرة ليس خاصا به فلو كان خاصا لما ترك الصحابة خلفه يصلون معه في مكان منهي عن الصلاة فيه كما نهاهم في الوصال وهم قد صلوا عليها بالأمس .
** وزد على هذا فعلُ عائشة وأنس وغيرهما من الصحابة والتابعين كما صح عنهم أنهم صلوا على المقبور وفهمهم مقدم على فهم من بعدهم ولا يقال أنه لم يبلغهم النهي .
** لو كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما صلى أبو هريرة وعبد الله ابن عمر على عائشة وصلى غيرهما على أم سلمة وسط البقيع وأبو هريرة راوي حديث صلاته صلى الله عليه وسلم على المرأة السوداء في المقبرة كما مر فيكون فعله هذا فهما منه لهذا الحديث أنه عام في كل صلاة جنازة ومعلوم أن فهم الراوي مقدم عند الخلاف .
** ويزيد هذا قوة إذا علم أن أبا هريرة وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ممن روو النهي العام عن الصلاة في المقبرة، فقد أخرج ابن حبان في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : « لَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابِرَ، صَلُّوا فِيهَا، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لِيَفِرُّ مِنَ الْبَيْتِ يَسْمَعُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ تُقْرَأُ فِيهِ ». صححه الشيخ الألباني في الصحيحة: 2418؛ وأخرج البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : « اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا ».
قال الإمام ابن حزم رحمه الله :
فادعى قوم أن هذا الكلام منه عليه السلام دليل على أنه خصوص له ؟ قال أبو محمد : وليس كما قالوا ، وإنما في هذا الكلام بركة صلاته عليه السلام وفضيلتها على صلاة غيره فقط ، وليس فيه نهي غيره عن الصلاة على القبر أصلا ، بل قد قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } ومما يدل على بطلان دعوى الخصوص ههنا ما رويناه بالسند المذكور إلى مسلم : ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا محمد بن إدريس عن الشيباني هو أبو إسحاق - عن الشعبي عمن حدثه قال { انتهينا مع رسول الله ﷺ إلى قبر رطب ، فصلى عليه ، وصفوا خلفه ، وكبر أربعا } قال الشيباني : قلت لعامر الشعبي : من حدثك ؟ قال : الثقة ، من شهده ، ابن عباس . فهذا أبطل الخصوص ، لأن أصحابه عليه السلام ، وعليهم رضوان الله صلوا معه على القبر ، فبطلت دعوى الخصوص وبه.. انتهى باختصار من (المحلى -المجلد الثاني)
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
لا حرج في ذلك، صلاة الجنازة تصلى تفعل في المقبرة وهكذا على الميت بعد الدفن، النبي ﷺ صلى على الميت بعد الدفن في المقبرة، والصلاة عليها في المقبرة مثل الصلاة على القبر سواء، فإذا وضعت هناك وصلى عليها الناس فلا حرج في ذلك .
الممنوع الصلوات ذات الركوع والسجود تمنع في المقابر، النبي ﷺ قال : لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها، وقال ﷺ : لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة رضي الله عنها : يحذر ما صنعوا. وقال عليه الصلاة والسلام : ألا وإن من كان قبلكم - يعني : من الأمم- كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك،
فلا يجوز أن يصلى في القبور ولا أن يبنى عليها مسجد ولا قبة ولا غير ذلك، لا قبور أهل البيت ولا قبور العلماء ولا غيرهم، بل تجعل ضاحية مكشوفة ليس عليها بناء لا قبة ولا مسجد ولا غير ذلك، ترفع عن الأرض قدر شبر كما فعل بقبره ﷺ بالتراب الذي حفر منها، ترفع وتجعل النصائب عليها في طرفي القبر، ولا مانع أن يوضع عليها حصباء لحفظ التراب وترش بالماء لا مانع، أما أن يبنى عليها قبة أو مسجد أو حجرة خاصة فهذا لا يجوز، لا يبنى على القبر .
أما السور الذي يعم المقبرة كلها ليحفظها عن سير الناس أو عن السيارة هذا لا بأس به من باب الصيانة لها، أما أن يوضع القبر تعظيمًا له قبة أو بنية أو مسجد هذا لا يجوز ، الرسول لعن من فعل ذلك عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز للمسلمين أن يبنوا على أي قبر مسجدًا ولا قبة سواء كان من قبور الصحابة، أو كان من قبور أهل البيت، أو من قبور العلماء، أو الرؤساء والحكام، كلهم لا يبنى على قبورهم ولا يتخذ عليها مساجد، كل هذا منكر يجب الحذر منه . انتهى من (فتاوى نور على الدرب)
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
لو جيء بالميت وصلي عليه في المقبرة قبل الدفن فما الحكم ؟
فالجواب أن نقول :
لدينا الآن عموم : « الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام »، والصلاة على الميت صلاة بلا شك؛ ولهذا تفتتح بالتكبير، وتختتم بالتسليم، ويشترط لها الطهارة والقراءة؛ فهي صلاة، فما الذي يخرجها من عموم قوله : «إلا المقبرة؟»،
لكن ربما يسوغ لنا أن نقيسها على الصلاة على القبر، وما دام أنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على القبر؛ فلا فرق بين أن يصلى على جنازة مدفونة، أو على جنازة غير مدفونة؛ لأن العلة واحدة، وهي أن هذا الميت الذي يصلى عليه كان في المقبرة، وعمل الناس على هذا؛ أنه يصلى على الميت، ولو قبل الدفن في المقبرة . انتهى من ((الشرح الممتع)) (2/241).
وقال أيضا رحمه الله :
طيب : ألا يقول قائل : إن الرسول قال : ( لا تصلوا إلى القبور) وهذا عام، والصلاة في المقبرة التي صلاها الرسول لأنه لا يمكن أن يُخرج الميت، وكلامنا هل يجوز أن نذهب بالميت من بيه إلى المقبرة ونصلي عليه هناك هل يجوز أم لا؟
نقول : إذا جازت الصلاة على القبر، والقبر بين يديه وقد نهي عن الصلاة إلى القبور، فهذا من باب أولى، على أن النهي عن الصلاة إلى القبور ليس المراد صلاة الجنازة، بل المراد : الصلاة ذات السجود والركوع . انتهى باختصار من (كتاب الجمعة والعيدين والإستسقاء والكسوف والجنائز-09- شرح صحيح مسلم)
وقال أيضا رحمه الله :
يستثنى من الصلاة في المقبرة الصلاة على القبر، وكذلك الصلاة على الجنازة قبل دفنها؛لأن هذه صلاة خاصة تتعلق بالميت، فكما جازت الصلاة على القبر على الميت؛ فإنها تجوز الصلاة عليه قبل الدفن . انتهى من ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/376).
قال أيضا رحمه الله عقب حديث : رقم 2 فى الأعلى :
من فوائد هذا الحديث : مشروعية الصلاة على القبر لمن لم يُصَلَّ عليه قبل الدفن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلَّى على القبر، حيث لم يُصَلِّ عليها قبل الدفن، ولكن هذا مشروعٌ لمن مات في عهدك وفي عصرك، أما من مات سابقًا، فلا يُشرَع أن تُصلِّيَ عليه؛
ولهذا لا يُشرع لنا أن نُصلِّيَ على النبي صلى الله عليه وسلم على قبره، أو على قبر أبي بكر، أو عمر، أو عثمان، أو غيرهم من الصحابة، أو غيرهم من العلماء والأئمة وإنما تُشرع الصلاة لمن مات في عهدك،
فمثلًا : إذا مات إنسان قبل ثلاثين سنة وعمرك ثلاثون سنة، فإنك لا تُصلِّي عليه صلاة الميت؛ لأنه مات قبل أن تُخلَق وقبل أن تكون من أهل الصلاة،
أما من مات وأنت قد كنت من أهل الصلاة، من قريب أو أحد تُحِبُّ أن تُصلي عليه، فلا بأس فلو فُرِض أن رجلًا مات قبل سنة أو سنتين، وأحببتَ أن تصلِّيَ على قبره، وأنت لم تصلِّ عليه من قبل، فلا بأس . انتهى باختصار من «شرح رياض الصالحين» (3/ 59 - 63)
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة :
تجوز الصلاة على الجنازة في المقبرة قبل الدفن، فإن دفنت صلى على القبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر، والمنهي عنه في المقبرة من الصلوات غير صلاة الجنازة، وأما صلاة الجنازة فهي مستثناة من النهي، وسواء كانت القبور خلف المصلين أو أمامهم أو إلى جانبهم . انتهى من ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (7/254).
وجاء فيها أيضا :
من لم يصل على الجنازة في المسجد فإنه لا بأس أن يصلي عليها في أي مكان في المقبرة قبل الدفن، فإذا دفنت الجنازة صلي على القبر . انتهى من ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (7/272).
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق