يجوز الأخذ من اللحية ما زاد على القبضة مع توفيرِها فمن ادعى تحريم أخذ ما زاد من القبضة من فهم السلف فليأتِ به .
فهؤلاء الصحابة الذين رووا لنا حديث رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: « حفوا الشارب وأعفوا عن اللحى »،
هم قد أخذوا من اللحى فلا يجوز لنا أن نفهم هذا النص على إطلاقه لذا الزيادة على اللحية أكثر من القبضة هذا خلاف سنة السلف الصالح فلابد لمن يريد أن يتمسك بالسنة أن يتمسك بعمل الصحابة .
وأما الأخذ منها وقصها بما يخل بتوفيرها وكثرتها فلا يجوز .
وهو مذهب كثير من أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم منهم :
ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم، والحسن وابن سيرين، وقتادة، وعطاء، والشعبي، والقاسم بن محمد، وطاوس، وإبراهيم النخعي، ومذهب الحنفية والمالكية والحنابلة، واختاره الطبري، ورجحه ابن عبدالبر، والقاضي عياض، والغزالي من الشافعية، والحافظ ابن حجر، وغيرهم واختاره الإمام الألبانى .
فعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... كَثِيرَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ ). رواه مسلم (رقم/2344) .
وعَنْ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... كَثَّ اللِّحْيَةِ ) . رواه النسائي (رقم/5232) وصححه الألباني في " صحيح النسائي ".
قال الإمام أبو العباس القرطبي رحمه الله : " لا يفهم من هذا – يعني قوله ( كثير شعر اللحية ) - أنه كان طويلها ، فإنَّه قد صحَّ أنه كان كثَّ اللحية ؛ أي : كثير شعرها غير طويلة ، وكان يخلل لحيته ". انتهى من " المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم " (6/135)
وقال الإمام السيوطي رحمه الله : " كان كثير شعر اللحية ، أي : غزيرها ، مستديرها " . انتهى من " الشمائل الشريفة " (ص/32)
وإليك الأدلة :
1- قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما في مَعْرِض تفسيره لقوله تعالى : ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾. [الحج: ٢٩] : «التَّفَثُ : حلق الرأس، وأخذ الشاربين، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من اللحية، ورمي الجمار، والموقف بعرفة والمزدلفة». رواه ابن ابى شيبة بسند صحيح
2- عن نافع، عن ابن عمر عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال : (خالفوا المشركين: وفروا اللحى، وأحفوا الشوارب))،. وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر، قبض على لحيته، فما فضل أخذه . (صحيح البخاري)
3- روى أبو داود وغيرُه عن مروان بنِ سالمٍ قال : «رَأَيْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَقْطَعُ مَا زَادَ عَلَى الكَفِّ». (صحيح أبي داود)
فابن عمر رضي الله عنه راوي حديث : ( أعفوا اللحى) هو نفسه كان يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة والراوي أدرى بما روى ولم يخالف ابن عمر رضي الله عنهما روايته بل هذا معنى الإعفاء.
فمن ادعى تحريم أخذ ما زاد من القبضة من فهم السلف، فليأتِ به .
4- روى الخلال في “ الترجل “ ( ص 11 - المصورة ) بسند صحيح عن مجاهد قال : رأيت ابن عمر قبض على لحيته يوم النحر ثم قال للحجام : خذ ما تحت القبضة .
قال الباجي في “ شرح الموطأ “( 3/32 ) :
“ يريد أنه كان يقص منها مع حلق رأسه وقد استحب ذلك مالك رحمه الله , لأن الأخذ منها على وجه لا يغير الخلقة من الجمال والاستئصال لهما مثلة “ .اه
فأخذ ابن عمر من اخر لحيته في الحج دليل على جواز الأخذ من اللحية في غير الحج؛ لأنه لو كان غير جائز ما جاز في الحج ...
وابن عمر روى عن النبي صلى الله عليه وسلم : (وأعفوا اللحى) وهو أعلم بمعنى ما روى مع أن اللحية لا تعلق لها بالنسك وإنما النسك في شعر الرأس خاصة،
وقد بين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - النسك من قوله، ومن فعله، وقال : ((خذوا عني مناسككم))،
ولم ينقل عن الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم - في بيان النسك أن اللحية لها تعلق به فبطل اعتقاد أن الأخذ منها خاص بالنسك .
وإليك كلام السلف
- قال أبو الوليد الباجي في (المنتقى شرح الموطأ) (4/367) :
( روى ابن القاسم عن مالك : لا بأسَ أن يؤخَذَ ما تطايرَ من اللِّحيةِ وشَذَّ، قيل لمالك : فإذا طالت جدًّا؟
قال : أرى أن يؤخَذَ منها وتُقَصَّ، ورُوي عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنَّهما كانا يأخذانِ مِن اللِّحيةِ ما فضَل عن القبضةِ ).اه
- وقال ابن هانئ في مسائله (2/151) :
سألتُ أبا عبد الله عن الرجُلِ يأخذ من عارِضَيه؟
قال : يأخذُ مِن اللِّحيةِ ما فضلَ عن القبضة، قلتُ : فحديثُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (أحفُوا الشَّوارِبَ وأعفُوا اللِّحى) قال : يأخذُ مِن طولِها ومن تحت حَلقِه، ورأيت أبا عبد الله يأخذُ من عارِضَيه ومن تحتِ حَلقِه. اهـ
- وقال الخلَّال في كتاب (الوقوف والترجل) (ص129) :
أخبرني حربٌ قال : سُئل أحمدُ عن الأخذ من اللِّحية؟ قال : إنَّ ابن عمر يأخذُ منها ما زاد على القبضةِ، وكأنَّه ذهب إليه،
قلتُ : ما الإعفاءُ : قال : يُروى عن النبي صلَّى الله عليه وسلم، قال : كأنَّ هذا عنده الإعفاءُ. اهـ
- وقال المرداوي في (الإنصاف) (1/121) :
ويُعفِي لحيتَه... ولا يُكرَهُ أخذُ ما زاد على القبضةِ، ونصُّه- يعني أحمد- لا بأسَ بأخذِ ذلك، وأخذِ ما تحت الحَلقِ ...). اهـ
- وقال ابن بطَّال في شرح البخاري (9/147) :
قال عطاء : لا بأسَ أن يأخُذَ مِن لحيتِه الشيءَ القليلَ مِن طولِها وعَرضِها إذا كثُرَت .اه
- وقال الحافظ ابن عبد البر في (الاستذكار) (4/317) :
وفي أخذِ ابنِ عمَرَ مِن آخِرِ لحيتِه في الحَجِّ دليلٌ على جوازِ الأخذ من اللحيةِ في غير الحَجِّ لأنَّه لو كان غيرَ جائزٍ ما جاز في الحَجِّ ...
وابن عمر روى عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : (وأعفُوا اللِّحى) وهو أعلَمُ بمعنى ما روى، فكان المعنى عنده وعند جمهورِ العُلَماءِ الأخذَ من اللِّحية ما تطايرَ، والله أعلم .اه
- وقال شيخ الإسلام في (شرح العمدة) (1/236) :
وأمَّا إعفاءُ اللِّحيةِ فإنَّه يُترَكُ ولو أخذَ ما زاد على القبضةِ لم يُكرَهْ؛ نصَّ عليه كما تقدَّمَ عن ابن عمر، وكذلك أخذُ ما تطايرَ منها. اهـ
- وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) (10/ 36) :
قلت : الذي يظهَرُ أنَّ ابنَ عُمرَ كان لا يخُصُّ هذا التَّخصيصَ بالنُّسُكِ، بل كان يحمِلُ الأمرَ بالإعفاءِ على غير الحالةِ التي تتشَوَّه فيها الصورةُ بإفراطِ طُولِ شَعرِ اللِّحيةِ أو عَرضِه. اهـ
- وقال ابن الهمام في (فتح القدير) (2/270) :
يُحمَلُ الإعفاءُ على إعفائِها من أن يأخُذَ غالِبَها أو كلَّها، كما هو فعلُ مَجوسِ الأعاجمِ ... فيقع بذلك الجمعُ بين الروايات. اهـ
قال العلامة الألباني رحمه الله :
نصب المخالفة بين النبي صلي الله عليه وسلم وابن عمر خطأ ؛ لأنه ليس هناك حديث من فعله أنه كان صلي الله عليه وسلم لا يأخذ من لحيته . وقوله : "وفروا اللحى" ؛
يمكن أن يكون على إطلاقه فلا يكون فعل ابن عمر مخالفاً له فيعود الخلاف بين العلماء إلى فهم النص .
وابن عمر - باعتباره راوياً له - يمكن أن يقال : الراوي أدرى بمرويه من غيره لا سيما وقد وافقه على الأخذ منها بعض السلف كما تقدم ، دون مخالف له منهم فيما علمنا . والله أعلم .
ثم وقفت على أثر هام يؤيد ما تقدم من الأخذ ، مروياً عن السلف فروى البيهقي في "شعب الإيمان" (2/ 263/ 1) : أخبرنا أبو طاهر الفقيه :
حدثنا أبو عثمان البصري : حدثنا محمد بن عبدالوهاب : أنبأنا يعلى بن عبيد : حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم قال : كانوا يأخذون من جوانبها وينظفونها . يعني : اللحية . قلت : وهذا إسناد جيد . اه (المجلد:11- سلسلة الأحاديث الضعيفة)
وقال أيضا رحمه الله :
قلت : و في هذه الآثار الصحيحة ما يدل على أن قص اللحية، أو الأخذ منها كان أمرا معروفا عند السلف،
خلافا لظن بعض إخواننا من أهل الحديث الذين يتشددون في الأخذ منها متمسكين بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : “ وأعفوا اللحى “ , غير منتبهين لما فهموه من العموم أنه غير مراد لعدم جريان عمل السلف عليه وفيهم من روى العموم المذكور , وهم عبد الله بن عمر ,
وحديثه في “ الصحيحين “ , وأبو هريرة , وحديثه عن مسلم , وهما مخرجان في “ جلباب المرأة المسلمة “ ( ص 185 - 187/ طبعة المكتبة الإسلامية ) , وابن عباس , وحديثه في “ مجمع الزوائد “ ( 5/169 ).
و مما لا شك أن راوي الحديث أعرف بالمراد منه من الذين لم يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وأحرص على اتباعه منهم .
وهذا على فرض أن المراد بـ ( الإعفاء ) التوفير والتكثير كما هو مشهور لكن قال الباجي في “ شرح الموطأ “ ( 7/266 ) نقلا عن القاضي أبي الوليد :
“ و يحتمل عندي أن يريد أن تعفى اللحى من الإحفاء لأن كثرتها أيضا ليس بمأمور بتركه وقد روى ابن القاسم عن مالك : لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية و شذ . قيل لمالك : فإذا طالت جدا قال : أرى أن يؤخذ منها و تقص .
وروي عن عبد الله بن عمر و أبي هريرة أنهما كانا يأخذان من اللحية ما فضل عن القبضة “ .
قلت : أخرجه عنهما الخلال في “ الترجل “ ( ص 11 - مصورة ) بإسنادين صحيحين.
وروى عن الإمام أحمد أنه سئل عن الأخذ من اللحية؟ قال : كان ابن عمر يأخذ منها ما زاد على القبضة , وكأنه ذهب إليه . قال حرب : قلت له : ما الإعفاء قال : يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم , قال : كان هذا عنده الإعفاء .
قلت : و من المعلوم أن الراوي أدرى بمرويه من غيره ولا سيما إذا كان حريصا على السنة كابن عمر , وهو يرى نبيه صلى الله عليه وسلم - الآمر بالإعفاء - ليلا نهارا . فتأمل.
ثم روى الخلال من طريق إسحاق قال : “ سألت أحمد عن الرجل يأخذ من عارضيه قال : يأخذ من اللحية ما فضل عن القبضة . قلت : حديث النبي صلى الله عليه وسلم :“ احفوا الشوارب , و أعفوا اللحى “ قال : يأخذ من طولها ومن تحت حلقه . ورأيت أبا عبد الله يأخذ من طولها و من تحت حلقه “ .
قلت : لقد توسعت قليلا بذكر هذه النصوص عن بعض السلف والأئمة لعزتها , ولظن الكثير من الناس أنها مخالفة لعموم : " وأعفوا اللحى ",
ولم يتنبهوا لقاعدة أن الفرد من أفراد العموم إذا لم يجر العمل به دليل على أنه غير مراد منه ,
وما أكثر البدع التي يسميها الإمام الشاطبي بـ ( البدع الإضافية ) إلا من هذا القبيل ومع ذلك فهي عند أهل العلم مردودة لأنها لم تكن من عمل السلف وهم أتقى وأعلم من الخلف فيرجى الانتباه لهذا فإن الأمر دقيق ومهم . اهـ . (سلسلة الأحاديث الضعيفة/المجلد (5)ص(375-380)).
وقال أيضا رحمه الله :
الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، أي : الراوي أدرى بمرويه من غيره،
هؤلاء الصحابة الذين رووا لنا حديث رسولنا - صلى الله عليه وسلم -: « حفوا الشارب وأعفوا عن اللحى » هم أخذوا من اللحى فلا يجوز لنا أن نفهم هذا النص على إطلاقه كما قلنا آنفاً : « من مات وعليه صيام صام عنه وليه » هذا مطلق لكن راو الحديث فهمه مقيداً بصيام النذر .. هم القوم لا يشقى جليسهم .
فإذاً، نحن نقول : الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح، ليس هناك رواية مطلقاً .. أقول مؤكداً : مطلقاً .. مطلقاً أن صحابياً واحداً أرخى لحيته مهما طالت، لا، هذا لا يوجد،
ومن باب أولى مؤكداً مرات ومرات : ليس هناك راوية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يأخذ من لحيته،
هذا شائع بين كثير من العلماء والمشايخ وكلام مسجل لكن لا أصل له في كتب السنة إطلاقاً، إنما هم ينطلقون من عموم قوله عليه السلام : « وأعفوا اللحى » يستلزمون الفهم، أو يسلمون فهمهم للعموم أن يكون واقعاً ولا تلازم بين الأمرين أبداً .
الشاهد : إعفاء اللحية أمر واجب فرض لازم .. نسأل الله كل مبتلى ليس فقط بحلق اللحية بل وبتقصيرها أيضاً .. أن الله يعافيهم،
لكن مثل ما يقولون عندنا في الشام، يمكن عندكم أيضاً تقولون معنا، لأنه كلنا في بلاد الشام ليس هناك فرق، سوريا من الشام والأردن من الشام وفلسطين إلى آخره : الزائد أبو الناقص .. تقولون هذا معنا؟
إذاً : الزيادة على اللحية أكثر من القبضة هذا خلاف سنة السلف الصالح، من أين أخذوا؟ مما رأوا من رسول الله وأصحابه إلى آخره،
ومنهم ابن عمر، ومنهم أبو هريرة، ومنهم التابعون، ومنهم عطاء بن أبي رباح، ومنهم إبراهيم بن يزيد النخعي، وهكذا نصوص كثيرة وكثيرة جداً .
لذلك ننصح من كان مبتلى بإطالة اللحية أكثر من القبضة أن يرفقوا بها وأن لا يحملوها فوق طاقتها،
ومن كان مبتلى بالأخذ زيادة على ذلك وبالأولى بالحلق فينبغي أن يتوبوا إلى الله عز وجل؛ لأن هذا يعتبر شرعاً فسقاً، وكتب الفقهاء تنص أن شهادة الحليق لا تقبل . انتهى باختصار من (الهدى والنور /٧٣٢/ ٥٨: ٥٠: ٠٠)
وسئل أيضا رحمه الله :
النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في أكثر من حديث عن الإعفاء، إعفاء اللحية، فهل هناك يعني سمعنا من بعض الإخوة أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقص ما زاد عن القبضة إذا حج أو اعتمر، أفيدونا في هذه المسألة، كيف يكون مبتدعاً والنبي - صلى الله عليه وسلم - في أكثر من حديث يقول : «أعفوا اللحى»، أمر بعفو اللحى؟
فأجاب :
هذه مسألة في الحقيقة من المسائل الفقهية الدقيقة، التي يترتب من فهمها وهي قائمة على أصل شرعي، فهم هذا الأصل، يُسَهِّل أولاً : أن يفهم هذا الفرع وبالتالي فروع كثيرة، وكثيرة جداً .
أنا أقول في مثل هذا المناسبة : إن كل نص عام ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه جزء يدخل تحت هذا النص العام، نعلم بطريقة أو بأخرى أن هذا الجزء لم يعمل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو سلفنا الصالح،
فحينذاك يكون العمل بهذا الجزء رغم كونه داخلاً في النص العام، يكون إحداثاً في الدين .
والحقيقة : الغفلة عن هذه القاعدة، -وهذه القاعدة مأخوذة من نصوص كثيرة، وكثيرة جداً- هي التي ورطت المسلمين في القرون المتأخرة بخاصة، حتى وَسَّعوا على أنفسهم الإحداث في الدين، والتقرب إلى الله رب العالمين بما أحدثوه من البدع والمحدثات .
وأنا أضرب على هذا أمثلة، وأمثلة كثيرة جداً، المهم منها :
مثال لم يجر العمل به إلى اليوم بين المسلمين، ومثيلة بالعشرات، بل بالمئات، بل بالألوف مثله،
ولكن الفرق أن هذا المثال الذي بأذكره لم يجر العمل به فهو مستنكر، لا لأنه بدعة، وإنما لأنه لم يجر العمل به، بينما البدع الأخرى هي مثلها -تماماً- استسهلوها وعملوا بها؛ لأن العادة جرت عليها . ما هو المثال؟
كلنا يعلم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس » وفي رواية : « بسبع وعشرين درجة » صلاة الجماعة. والحديث العام والأشمل : « يد الله على الجماعة ».
فلو أن رجلاً دخل المسجد في وقت صلاة، كصلاتنا في الأمس القريب، صلاة العشاء، واحد بيصلي هنا، واحد هناك، السنة القبلية.
فلو أن رجلاً بدا له، فنادى هؤلاء المتفرقين في صلاة السنة القبلية، قال : يا جماعة تعالوا نصلى جماعة خير من هذا التَفَرُّق، وقال عليه الصلاة والسلام : « صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ ... » الخ.
أنت الآن شو بتقول له؟
مداخلة :
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل هذا، ولا أحد من أصحابه.
الشيخ : والحديث العام.
مداخلة :
هذا لصلاة الجماعة المكتوبة، علمنا هو، جمع الناس على المكتوبات، ما جمعهم على السنة القبلية.
الشيخ :
إذاً هل عملت بالنص العام هنا؟
مداخلة : لا.
الشيخ :
الحجة أنه لم يجر العمل للسلف بهذا النص العام.
مداخلة : صحيح.
الشيخ :
هو الجواب عما سألت تماماً، لو كانوا يعلمون!
مداخلة : فهل من توضيح؟
الشيخ :
نعم. « أعفوا اللحى »، نص عام، مثل : « صلاة الجماعة »، نص عام، لكن جاء واحد تارك لحيته وصلت لسرته، عمل بالنص العام، لكن هل عمل السلف له؟
الجواب عند من يعلم : لا. عند من لم يعلم : لا أدري.
يظل هذا الذي لا يعلم عند النص العام، أما الذي يعلم فيقول : هذه الجزئية من النص العام لم يجر عليها العمل من السلف الصالح .
أي الآن خلاصة الجواب : لا نعلم عن أحد من السلف الصالح فضلاً عن رسول الله سيدهم إمامهم أنه كان يعفو عن لحيته عفواً عاماً هذا أولا.
وثانياً : نعلم عن كثيرين فَهْم العكس من ذلك تماماً، أنهم كانوا يأخذون، ومنهم : عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي لله عنهما-،
لكن هذا بالنسبة للرواية المروية عن ابن عمر هنا شبهة، ذلك لأن هناك روايتين؛ الرواية الأولى هي التي أنت ذكرتها في حج أو عمرة.
بينما هناك رواية أخرى وثابتة عنه مطلقاً, وتلقَّى ذلك عنه بعض التابعين ومنهم : سالم بن عبد الله بن عمر، فكان يأخذ من لحيته .
وحدث عن أبي هريرة، وعن جماعة من التابعين، بل وإبراهيم بن يزيد النخعي، وهو من صغار التابعين، يروي عن الصحابة أنهم كانوا يأخذون من لحيتهم .
فلذلك : وجود هذا الأخذ، وعدم وجود الإعفاء المطلق، يجعل إعفاء الزايد على القبضة من محدثات بعض الأمور، كالجماعة في النوافل والرواتب.
مداخلة : .. الوارد عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يأخذون بتحديد القبضة، أم يأخذون فقط؟
الشيخ :
بعض الروايات تحدِّد القبضة، البعض فيه هذا التحديد، لكن نحن نقف عند ابن عمر؛ لأن ابن عمر هو من رُواة حديث الإعفاء، ومن المشاهدين للرسول عليه السلام،
فتفسير الإعفاء الذي رواه عن الرسول عليه السلام بتطبيقه هو، وبخاصة أننا نعلم جميعا -إن شاء الله- أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان من أشد،
إن لم نقل : أحرص وأشد الصحابة حرصاً في الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في جزئيات قد عُورِضَ فيها من قِبَل صحابة آخرين .
فمثل هذا لا يمكن أن تتصور فيه أنه يرى الرسول يأمر بالإعفاء، ويطبقه إعفاء عاماً، ثم هو يخالفه إلى ما نهاه عنه، هذا أمر مستحيل . انتهى من (الهدى والنور /٥٢٧/ ٣٧: ٢٩: ٠٠) (الهدى والنور /٥٢٧/ ٠٤: ٣٨: ٠٠)
وأما حلق اللحية
فيحرم على الرجل حلق لحيته لقول النبي صلى الله عليه وسلم : قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين. متفق عليه.
وقوله : جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس. رواه مسلم. وقوله : خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب. وغير ذلك من الأحاديث الآمرة بإعفاء اللحية .
فكل الألفاظ التي جاءت في الأحاديث تدل على الوفرة والكثرة وبصيغة الأمر الدال على الوجوب،
وقد تأكد ذلك بفعله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يصح عنه أنه أخذ شيئا من لحيته ،
بل جاء في أحاديث كثيرة في صفته صلى الله عليه واله وسلم أنه كان : (كث اللحية). رواه البخاري ومسلم، و(كثير شعر اللحية). رواه مسلم،
كما ورد في صفة عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا كثيري شعر اللحية ولا يعرف عن أحد من السلف أنه حلق لحيته البتة ولذلك اتفق الفقهاء على حرمة حلقها.
واللِّحيةُ : هي اسمٌ لِما نبَتَ على الذَّقنِ والخَدَّين، من العظمِ النَّاتئِ حِذاءَ صماخِ الأذُنِ إلى العَظمِ المحاذي له من الجانبِ الآخر. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حَجَر (10/350)
قال ابن حزم : واتَّفَقوا أنَّ حَلقَ جَميعِ اللِّحيةِ مُثْلةٌ لا تجوزُ . اه ((مراتب الإجماع)) (ص: 157)
وقال النفراوي : لا شَكَّ في حُرمتِه [أي: حلق اللحية] عند جميعِ الأئمَّةِ؛ لمخالفتِه لسُنَّةِ المصطفى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم . اه ((الفواكه الدواني)) (2/306).
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق