تعد قضية كفر تارك الصلاة تهاونًا أو كسلاً من المسائل الفقهية التي اختلف فيها العلماء قديماً وحديثاً،
فقد ذهب البعض إلى القول بكفره، بينما رأى الجمهور أنه لا يكفر ولكنه ارتكب كبيرة عظيمة من أعظم الكبائر يستحق القتل عليها من قبل الحاكم المسلم إن لم يتب.
** وهو عند المالكية والشافعية يقتل حدا على اعتبار أنه مرتكب كبيرة من أعظم الكبائر إلا أنها لا تخرجه من الملة،
وأما الحنابلة فيقتل عندهم ردة، على اعتبار أنه بتركه الصلاة كفر كفرا أكبر مخرجا من الملة.
** في هذا الموضوع، نستعرض 18 قولاً لكبار العلماء الذين قالوا بعدم كفر تارك الصلاة تهاونًا أو كسلاً،
مستدلين على ذلك بالأدلة الشرعية من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وأقوال السلف:
1- قال الإمام سفيان ابن عيينة رحمه الله :
فَمَنْ تَرَكَ خُلَّةً مِنْ خِلَالِ الْإِيمَانِ جُحُودًا بِهَا، كَانَ عِنْدَنَا كَافِرًا،
وَمَنْ تَرَكَهَا كَسِلًا أَوْ تَهَاوُنًا أَدَّبْنَاهُ وَكَانَ نَاقِصًا، هَكَذَا السُّنَّةُ أَبْلِغْهَا عَنِّي مَنْ سَأَلَكَ مِنَ النَّاسِ. ينظر: ((الآجري في الشريعة (ج2/ص553))) و (أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (ج2/ص630)).
2- قال الإمام الشافعي رحمه الله- في وصيته المشهورة :
لا أكفر أحدا من أهل التوحيد بذنب وإن عمل بالكبائر، وأكلهم إلى الله عز وجل. ينظر: ((اعتقاد الشافعي)) للهكاري (ص: 17).
3- قال الإمام أحمد رحمه الله :
.. يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، فإن تاب رجع إلى الإيمان، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو يرد فريضة من فرائض الله جاحدا لها،
فإن تركها تهاونا بها وكسلا كان في مشيئة الله؛ إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه. ينظر: ((مناقب الإمام أحمد)) لابن الجوزي (ص: 226) و("طبقات الحنابلة" (1/343) رواية مسدد، نشر دار المعرفة).
- وسئل أيضا رحمه الله :
ما زيادته ونقصانه؟
قال زيادته العمل، ونقصانه ترك العمل، مثل تركه الصلاة والزكاة والحج، وأداء الفرائض فهذا ينقص ويزيد بالعمل.. ينظر: "السنة" للخلال (1/58)).
4 - قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سَلَّامٍ رحمه الله- عن بعض النصوص التى فيها تسمية بعض الذنوب كفرا:
... وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي،
فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفرا ولا شركا يزيلان الإيمان عن صاحبه،
إنما وجوهها : أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون. ينظر: ((الإيمان)) (ص: 78، 86).
5 - قال القاضي عياض رحمه الله :
قوله : " لأخرجن من قال : لا إله إلا الله " فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الإيمان، وهم الذين لم يؤذن فى الشفاعة فيهم،
وإنما دَلَّت الآثار أنه أذن لمن عنده شىء زايدٌ من العمل على مجرد الإيمان، وَجَعَل للشافعين من الملائكة والنبيِّين دليلاً عليه،
وتفرُّد الله - جل جلاله - بعلم ما تُكنّه القلوب والرحمة لمن ليس عنده سوى الإيمان ومجرد شهادة أن لا إله إلا الله،
وضرب بمثقال الذرة وأدناها المثل لأقل الخير والشرّ إذ تلك أقل المقادير. ينظر: (إكمال المعلم بفوائد مسلم (1/ 567)).
- وقال أيضا في «إكمال المعلم» بعد ذكر خلاف أهل العلم في المسألة:
والصحيح أنه عاص غير كافر؛ لقوله تعالى : { إِنَّ اللَّه لا يَغْفِر أَن يُشْرَكَ بِهِ ويغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } ... واحتجوا بإجماع الصدر الأول على موارثة من لا يصلي، ودفنهم مع المسلمين. اهـ.
6 - قال الإمام محمد بن نصر المروزي رحمه الله :
إن المصر على ما دون الشرك حتى يموت : مؤمن، غير كافر ولا مشرك، وهو بين خوف ورجاء،
يخاف أن يعاقبه الله على معصيته إياه بما استحق من العقوبة، ونرجو أن يتفضل الله عليه فيعفو عنه ويغفر له ذنبه. ينظر: ((تعظيم قدر الصلاة)) (2/ 623).
7 - قال الإمام الطحاوي رحمه الله :
أهل الكبائر من أمة محمد ﷺ في النار، لا يخلدون إذا ماتوا، وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين،
وهم في مشيئته وحكمه؛ إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. [النساء: 48 و 116]،
وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته. ينظر: ((متن الطحاوية)) (ص: 65).
8 - قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله :
عند شرحه لحديث : « خمس صلوات في اليوم والليلة ».
قال : « وفيه دليلٌ على أنّ من لم يصلّ من المسلمين في مشيئة الله إذا كان موحّداً مؤمناً بما جاء به محمد –ﷺ- مصدقاً مقرّاً وإنْ لم يعمل، وهذا يردّ قول المعتزلة والخوارج بأسرها؛
ألا ترى أن المقرّ بالإسلام في حين دخوله فيه يكون مسلماً قبل الدخول في عمل الصلاة وصوم رمضان بإقراره وعقده نيته،
فمن جهة النظر لا يجب أن يكون كافراً إلا برفع ما كان به مسلماً وهو : الجحود لما كان أقرّ به واعتقده، والله أعلم ». ينظر: «التمهيد» (23 /290).
9 - وقال الإمام ابن بطة العُكبري رحمه الله :
ويخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله، أو يرد فريضة من فرائض الله عزّ وجل جاحداً بها،
فإن تركها تهاوناً أو كسلاً؛ كان في مشيئة الله عز وجل : إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له. ينظر:"الشرح والإبانة" (ص124-125) .
10 - وقال العلامة ابن البناء رحمه الله :
..ومن دخل النار عقوبة خرج منها عندنا : بشفاعته، وشفاعة غيره، ورحمة الله عز وجل -
حتى لا يبقى في النار واحد قال مرة واحدة في دار الدنيا : (لا إله إلا الله) مخلصاً، وآمن به، وإن لم يفعل الطاعات بعد ذلك. ينظر: "الرد على المبتدعة" (ص195).
11 - قال الإمام البغوي رحمه الله :
اتفق أهل السنة على أن المؤمن لا يخرج عن الإيمان بارتكاب شيء من الكبائر إذا لم يعتقد إباحتها،
وإذا عمل شيئا منها فمات قبل التوبة لا يخلد في النار، كما جاء به الحديث،
بل هو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة برحمته. ينظر: ((شرح السنة)) (1/103).
12 - وقال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" :
.. وإن كان تركه تكاسلا مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس فقد اختلف العلماء فيه،
فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ..
واحتج الجمهور على أنه لا يكفر، بقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء،
وبقوله ﷺ : من قال لا إله الا الله دخل الجنة، ومن مات وهو يعلم أن لا إله الا الله دخل الجنة،
ولا يلقى الله تعالى عبد بهما غير شاك فيحجب عن الجنة، وحرم الله على النار من قال لا إله إلا الله. وغير ذلك. انتهى.
13 - قال الإمام أبو بكر الخلال رحمه الله- شيخ الحنابلة- في (جامعه) :
... ولأن ذلك إجماع المسلمين، فإنا لا نعلم في عصر من الأعصار أحداً من تاركي الصلاة ترك تغسيله، والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، ولا منع ورثته ميراثه،
ولا منع هو ميراث مورثه، ولا فُرِّق بين زوجين لترك الصلاة من أحدهما، مع كثرة تاركي الصلاة،
ولو كان كافرا لثبتت هذه الأحكام كلها، ولا نعلم بين المسلمين خلافا في أن تارك الصلاة يجب عليه قضاؤها، ولو كان مرتدا لم يجب عليه قضاء صلاة ولا صيام .
وأما الأحاديث المتقدمة الدالة على كفر تارك الصلاة - فهي على سبيل التغليظ، والتشبيه له بالكفار، لا على الحقيقة،
كقوله عليه السلام : سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. وقوله : كفر بالله تبرؤ من نسب وإن دق. وقوله : من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما.
وقوله : من أتى حائضا أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد. قال : ومن قال : مطرنا بنوء الكواكب فهو كافر بالله مؤمن بالكواكب. وقوله : من حلف بغير الله فقد أشرك.
وقوله : شارب الخمر كعابد وثن. وأشباه هذا مما أريد به التشديد في الوعيد، وهو أصوب القولين. ينظر: "المغني" (2/157).
14 - وقال الحافظ ابن رجب الحنبلى رحمه الله- فى توضيحه لحديث الشفاعة لفظ : " لم يعملوا خيرا قط " :
.. والمراد بقوله : [ لم يعملوا خيرا قط ] من أعمال الجوارح وإن كان أصل التوحيد معهم،
ولهذا جاء في حديث الذي أمر أهله أن يحرقوه بعد موته بالنار إنه لم يعمل خيرا قط غير التوحيد. خرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا ومن حديث ابن مسعود موقوفا.
ويشهد لهذا : حديث أنس عن النبي ﷺ في حديث الشفاعة قال : فأقول : يا رب ائذن لي فيمن يقول لا إله إلا الله-
فيقول : وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن من النار من قال : لا إله إلا الله. فيقول : ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك.
وهذا يدل على أن الذين يخرجهم الله برحمته من غير شفاعة مخلوق هم أهل كلمة التوحيد الذين لم يعملوا معها خيرا قط بجوارحهم. والله أعلم. ينظر: (كتاب : التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار- لابن رجب).
15 - وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
عن الصلاة على الميت الذي كان لا يصلي هل لأحد فيها أجر؟ أم لا؟
فأجاب :
أما من كان مظهرا للإسلام، فإنه تجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة : من المناكحة والموارثة، وتغسيله والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين ونحو ذلك؛
لكن من علم منه النفاق والزندقة فإنه لا يجوز لمن علم ذلك منه الصلاة عليه، وإن كان مظهرا للإسلام ... ينظر: («مجموع الفتاوى» 24/285).
- وقال أيضا رحمه الله :
ومن أتى بالإيمان والتوحيد لم يخلد في النار ولو فعل ما فعل ،
ومن لم يأت بالإيمان والتوحيد كان مخلدا، ولو كانت ذنوبه من جهة الأفعال قليلة. ينظر: (مجموع الفتاوى (12/ 479).
16 - قال ابن القيم رحمه الله :
عند قوله :..فيقبض الله قبضة من نار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط.
فهذا السياق يدل على أن هؤلاء لم يكن في قلوبهم مثقال ذرة من خير ،ومع هذا فأخرجتهم الرحمة.
ومن هذا رحمته سبحانه وتعالى: للذي أوصى أهله أن يحرقوه بالنار ويذروه في البر والبحر- زعما منه بأنه يفوت الله سبحانه وتعالى، فهذا قد شك في المعاد والقدرة ولم يعمل خيرا قط .
ومع هذا فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال خشيتك، وأنت تعلم فما تلافاه أن رحمه الله، فلله سبحانه وتعالى في خلقه حكم لا تبلغه عقول البشر.
وقد ثبت في حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال : (يقول الله عز وجل أخرجوا من النار من ذكرني يوما أو خافني في مقام). ينظر: (كتاب "حادي الأرواح" (ص272-273)).
17 - وقال الإمام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله :
أركان الإسلام الخمسة، أولها الشهادتان، ثم الأركان الأربعة ؛
فالأربعة : إذا أقر بها، وتركها تهاوناً، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها.
والعلماء : اختلفوا في كفر التارك لها كسلاً من غير جحود ؛ ولا نكفر إلا ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان. ينظر: "الدرر السنية" (1/102)).
18 - وقال العلامة عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله :
ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط ، يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال. انتهى ملخصا من (شرح سنن ابن ماجه فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 66).
** وأما النصوص التي فيها تسمية بعض الذنوب كفرا، أو فيها نفي الإيمان عن فاعلها أو البراءة منه،
مثل قوله ﷺ: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)). وقوله: ((لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض)) .
فالمقصود فيها بنفي الإيمان إنما هو نفي كماله، لا أصله وحقيقته، وعلى هذا القول كثير من الأئمة والعلماء؛ منهم:
- أبو عُبيدٍ القاسِمُ بنُ سَلَّامٍ. يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 78، 86). - ابنُ جريرٍ الطَّبَريُّ. يُنظر: ((فتح الباري)) (12/60). - ابنُ أبي زمنين. يُنظر: ((أصول السنة)) (ص: 239). - ابنُ الصَّلاح. يُنظر: ((صيانة صحيح مسلم)) (ص: 225). - ابنُ تيميَّةَ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/653).
** تنبيه : بعض الأئمة كأحمد وابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب، لهم أقوال بالتكفير وأقوال بعدم التكفير،
والظاهر والله أعلم أن رجوعهم عن القول بتكفير تارك الصلاة هو الأخير، وذلك أخذًا منهم بأحاديث الشفاعة المُحكمة، والأحاديث الواردة في فضل لا إله إلا الله وفضل التوحيد،
وكذلك قول الله : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلك لِمَنْ يَشَاءُ). والإستسلام لها والصدع بمضمونها؛
لأن ذلك أخذًا منهم بالجمع بين نصوص الوعد والوعيد، وهو المنهج الحق السديد الذي يخالف به أهل السنة الخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، ويهملون نصوص الوعد.
** خلاصة القول :
أقوال العلماء المذكورين توضح أن ترك الصلاة تكاسلاً مع الإقرار بوجوبها لا يُعد كفراً مخرجاً من الملة.
ومع ذلك، يجب على المسلم الحذر من التفريط في الصلاة، فهي عمود الدين وأهم أعمال العبد بعد الشهادتين.
اقرأ أيضا : مشروعية طلب الطلاق من الزوج الذي لا يصلي
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق