عن عكرمة، قال لي ابن عباس ولابنه علي : انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى ذكر بناء المسجد، فقال : كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين،
فراه النبي صلى الله عليه وسلم فينفض التراب عنه، ويقول : ويح عمار، تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار. قال : يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن . (رواه البخاري).
قد حاول بعض أهل البدع والضلال من الخوارج والروافض الطعن فى الصحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه بهذا الحديث ولكن لا مستند لهم فيه، وذلك :
أولا : ليس في هذا الحديث دليل من قريب ولا من بعيد على أن المقصود بالذين يدعون إلى النار هم العسكر الذين مع معاوية رضى الله عنه، بل المقصود بهم الخوارج، كما قال بذلك بعض اهل العلم :
قال ابن بطال رحمه الله : " قوله : ( يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار) ، إنما يصح ذلك في الخوارج الذين بعث إليهم علىّ عمارًا ليدعوهم إلى الجماعة ، وليس يصح في أحد من الصحابة؛
لأنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل ؛ لأنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أثنى الله عليهم وشهد لهم بالفضل ، فقال تعالى : ( كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس ). آل عمران/ 110 .
قال المفسرون : هم أصحاب رسول الله، وقد صح أن عمارًا بعثه علىّ إلى الخوارج يدعوهم إلى الجماعة التي فيها العصمة " انتهى من "شرح صحيح البخاري" (2/ 98-99).
ثانياً : قال أهل العلم : ليس فى حديث ( ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) دليلاًً يشير إلى أن معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه ومن معه هو المقصود بالفئة الباغية المذكور فى هذا الحديث.
لأن الفئة الباغية التي قتلت عمار بن ياسر ليست إلا قتلة عثمان بن عفان، وهي بتحريشها بين الفريقين يقع على عاتقها هذه الدماء الكثيرة التي سُفكت قبل موقعة الجمل، وفي أثناء موقعة الجمل،
وفي موقعة صفين وبعدها، وكل ما جاء من مصائب وكوارث على الأمة بسبب ما فعله أهل الفتنة يعود إثمه عليهم.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله : وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه، ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم ، وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه، وإقامة حق الله تعالى فيهم،
فتسرع الخائفون على أنفسهم أخذ حد الله تعالى منهم، وكانوا أعدادا عظيمة يقربون من الألوف، فأثاروا القتال خفية ،
حتى اضطر كل واحد من الفريقين إلى الدفاع عن أنفسهم إذ رأوا السيف قد خالطهم . ينظر: ((الإحكام في أصول الأحكام)) (2/85).
وقد وضح هذا شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله ، فقال :
ثم ( إن عمارا تقتله الفئة الباغية ) ليس نصا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه; بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته, وهي طائفة من العسكر, ومن رضي بقتل عمار كان حكمه حكمها،
ومن المعلوم أنه كان في العسكر من لم يرض بقتل عمار، كعبد الله بن عمرو بن العاص, وغيره; بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار, حتى معاوية, وعمرو ....انتهى باختصار من [مجموع الفتاوى – ج 28 ص 208 – 209. ]
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله :
فإن قيل كان قتله بصفين وهو مع علي والذين قتلوه مع معاوية وكان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار؟
فالجواب : أنهم كانوا ظانين أنهم يدعون إلى الجنة، وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام،
وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة علي وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك، لكنهم معذورون للتأويل الذي ظهر لهم . انتهى من (الفتح (1/543)).
ثالثاً : لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى قتلة عمار بالفئة الباغية أو البغاة وهذا لا يرفع عنهم اسم الإيمان، كما قال تعالى : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...). [الحجرات:9].
فسمّاهم الله مؤمنين وجعلهم إخوة ، مع وجود الاقتتال والبغي , قال الامام الشافعي : " وَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِقِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ وَهِيَ مُسَمَّاةٌ بِاسْمِ الْإِيمَانِ ". انتهى من [ الام – ج 4 ص 227 .].
والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا فيها متأولين، وللمجتهد المخطئ أجر، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى.
فليس كل ما كان بغيا وظلما أو عدوانا يخرج عموم الناس عن الإيمان, ولا يوجب لعنتهم فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟!.
** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق ). رواه مسلم ( 1064).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلتا الطائفتين المقتتلتين - علي وأصحابه ، ومعاوية وأصحابه - على حق ، وأن عليا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه " .انتهى من" مجموع الفتاوى " ( 4 / 467 ).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة : تكفيرهم ، كما يحاوله جهلة الفرقة الضالة من الشيعة وغيرهم ;
لأنهم ، وإن كانوا بغاة في نفس الأمر، فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيبا، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر .
ومن زاد في هذا الحديث بعد قوله : " تقتلك الفئة الباغية " : لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة ، فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم; فإنه لم يقلها ؛ إذ لم تنقل من طريق تقبل. والله أعلم.
وأما قوله : يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى النار : فإن عمارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة ، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به،
وأن يكون الناس أوزاعا على كل قطر إمام برأسه ، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة ، واختلاف الأمة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم ، وإن كانوا لا يقصدونه. والله أعلم ". انتهى من "البداية والنهاية" (4/538) .
وقال النووي رحمه الله :
واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد – يعني قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار -،
ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم ، والإمساك عما شجر بينهم ، وتأويل قتالهم ، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ، ولا محض الدنيا ،
بل اعتقد كل فريق أنه المحق ، ومخالفه باغ ، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله ، وكان بعضهم مصيبا وبعضهم مخطئا معذورا في الخطأ ، لأنه لاجتهادٍ ، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه ". انتهى من " المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج ".
وأختم بهذا
وقعت الفتنة بين المسلمين بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، واختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتنة،
وكل قد اجتهد، فأصاب من أصاب ونال أجرين، وأخطأ من أخطأ ونال أجرا واحدا،
وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس فثبوته للصحابة بالطريق الأولى وعفو الله شامل لهم لسابقتهم وأعمالهم الجليلة،
وعلينا أن نتعلم الدروس من ذلك مع الإمساك عما شجر بينهم.
قال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله :
إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ؛
وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق ، وإنما أدى إلينا هذا القرآنَ والسننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة ، والجرح بهم أولى وهم زنادقة . انتهى من "الكفاية في علم الرواية" للخطيب البغدادي (ص 49) .
والله اعلم
اقرأ أيضا..
تعليقات
إرسال تعليق