عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : (( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعةٍ )). رواه مالك والترمذي وصححه الألباني. وفي رواية : (( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا )) . رواه الحاكم.
والمعنى الصحيح للحديث إن شاء الله هو بيع العينة : وهو أن يبيع سلعة واحدة بثمن مؤجل ثم يشتريها مرة أخرى نقدا بثمن آخر أقل ، فإن أخذ الزائد في الثمن فقد وقع في الربا؛
فيكون هذا الفعل بيعتين في بيعة؛ لأن السلعة واحدة والعقد عقدان، فإذا تم هذا البيع بهذه الصورة " فله أوكسهما "، أي : فللبائع أقل الثمنين، وهو الثمن الحقيقي " أو الربا "، يعني : إن أخذ الثمن الأكبر الذي حدده فقد أخذ الربا .
فتكون الصورة النهائية حصول النقد للمشتري وسوف يسدده بأكثر منه بعد مدة ، فكأنَّه قرضٌ في صورة بيع .
وهذا البيع هو ما يعرف ببيع العينة، وهو منهي عنه لأنه وسيلة واحتيال لأخذ زيادة بالربا، والغرض منه أخذ المال بزيادة عن الثمن الحقيقي .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (9/96) :
" للعينة المنهيّ عنها تفسيرات ، أشهرُها : أن يبيع سلعةً بثمن إلى أجل معلوم ، ثمّ يشتريها نفسها نقداً بثمن أقلّ ، وفي نهاية الأجل يدفع المشتري الثّمن الأوّل ، والفرق بين الثّمنين هو رباً ، للبائع الأوّل .
وتؤول العمليّة إلى قرض عشرة ، لردّ خمسة عشر ، والبيع وسيلة صوريّة إلى الرّبا ". انتهى .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن :
هو أن يقول : بعتك هذه السلعة بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك -أي بعد ذلك- بثمانين حالة. قال وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم : فله أوكسهما أو الربا، فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما. انتهى.
وقال أيضا رحمه الله :
فالأولى تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، فنفسر كلامه بكلامه، فنقول :
نظير هذا نهيه عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة، فروى سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال : نهى رسول الله عن صفقتين في صفقة.
وفي السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا )؛ وقد فسرت البيعتان في البيعة بأن يقول : أبيعك بعشرة نقدا أو بعشرين ونسيئة، هذا بعيد من معنى الحديث من وجهين :
أحدهما : أنه لا يدخل الربا في هذا العقد.
الثاني : أن هذا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين.
وقد ردده بين الأوكس، أو الربا، ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد، لم يكن ربا؛ فليس هذا معنى الحديث .
وفُسر بأن يقول : خذ هذه السلعة بعشرة نقدا، وآخذها منك بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها، وهذا هو المعنى المطابق للحديث،
فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة، فهو لا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى...... انتهى من (حاشيته على "تهذيب سنن أبي داود" (2/518-520) ط عالم الفوائد.
وقال أيضا رحمه الله في إعلام الموقعين (3/ 119) :
... فَإِنَّهُ إذَا بَاعَهُ السِّلْعَةَ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَتَيْنِ حَالَّةٍ فَقَدْ بَاعَ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ، فَإِنْ أَخَذَ بِالثَّمَنِ الزَّائِدِ أَخَذَ بِالرِّبَا، وَإِنْ أَخَذَ بِالنَّاقِصِ أَخَذَ بِأَوْكَسِهِمَا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الذَّرَائِعِ إلَى الرِّبَا،
وَأَبْعَدُ كُلِّ الْبَعْدِ مِنْ حَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الْبَيْعِ بِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ أَوْ خَمْسِينَ حَالَّةٍ، وَلَيْسَ هَاهُنَا رِبًا وَلَا جَهَالَةٌ وَلَا غَرَرٌ وَلَا قِمَارٌ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْمَفَاسِدِ؛ فَإِنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَيِّ الثَّمَنَيْنِ شَاءَ... انتهى باختصار.
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
من ذلك أن يبيعه السلعة إلى أجل ثم يشتريها بأقل، وهذه بيعتان في بيعة وهي تسمى العينة (ربا) لا تجوز،
يبيعه السلعة مثلًا بمائة، ثم يشتريها بثمانين نقدًا أو ستين نقدًا منه فهذه حيلة على الربا كأنه أعطاه ستين نقدًا حتى يرد عليه مائة مؤجلة، فهذه بيعتان في بيعة، وهي من أصول الربا . انتهى من ( فتاوى نور على الدرب ).
وقال أيضا رحمه الله :
أحسن ما قيل في ذلك : أن بيعتين في بيعة، بيعة العينة، صورة العينة، وبيع عقد في عقد، كونه يشترط عقدًا في عقد، وبيع العينة، ولهذا في الحديث الصحيح : من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا.
فهذا يفسر البيعتين بأنها العينة، وأن يبيع السلعة على إنسان مثلاً بمائة مؤجلة، ثم يشتريها منه بثمانين، أو بسبعين معجلة، فهذه بيعتان في بيعة، تحيلوا بها على الربا، يعطيها سبعين معجلة، ويأخذ منه مائة بعد أشهر، أو بعد سنة، هذه بيعتان في بيعة، فله الأوكس، له السبعون مثلاً التي سلمها ولا يأخذ الزيادة، يرد عليه ما قبض منه فقط.
هذه يقال لها : بيع العينة، يأخذ عينًا بدين... انتهى باختصار من ( فتاوى الجامع الكبير )
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
أما تفسير بعضهم إياه بقولهم : بعتك هذا بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة فهو تفسير لا صحة له ولا يطابق الحديث؛ لأنه إذا قال : آخذه بعشرة نقداً البيعة كم؟ بيعة واحدة، وإذا قال : بعشرين نسي ، فالبيعة بيعة واحدة، ليس هناك بيعتان،
فالصحيح أن حديث الرسول يفسر بعضه بعضاً حيث قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ) وهذا ينطبق تماماً على مسألة العينة : أن يبيع شيئاً بمائة إلى أجل، ثم يشتريه ممن اشتراه بثمانين نقداً، فهنا بيعتان، والمبيع واحد، فقوله : ( في بيعة ) أي : في مبيع ( فله أوكسهما ) ما أوكسهما ؟ الثمانون،
فإما أن يأخذ بالثمانين ويقول للمشتري الأول : سقط عنك عشرون، وإما أن يبقي البيع الأول على ما هو عليه فيأخذ الربا وهو العشرون الزائدة على الثمانين هذا أصح ما قيل فيه؛ لأنه حديث يفسر بعضه بعضاً،
وأما مسألة : بعشرة نقداً أو بعشرين نسيئة فالمسألة بيع واحد لكنه خيره . انتهى من (كتاب دروس للشيخ العثيمين-دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية).
وقال أيضا رحمه الله :
فسّر الحديث بتفسيرين : إمّا أنّ المعنى أبيعك إيّاه بثمانين نقدا أو بمائة نسيئة إلى سنة هذه واحدة .
تفسير آخر يقول هي مسألة العينة، وش مسألة العينة؟ أن يبيع شيئا بثمن مؤجّل ثمّ يشتريه بأقلّ منه نقدا، هذه مسألة العينة صورتها بعت على زيد بعيرا بمائة إلى سنة، ثمّ اشتريتها بثمانين نقدا، أيّ التّفسيرين أولى بالمطابقة للحديث؟
الطالب : الثاني.
الشيخ :
الثاني، لأنّ بيعتين في بيعة بيّنها الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قال : ( فله أوكسهما أو الرّبا ) وعلى هذا فيكون المراد بالبيعتين في بيعة مسألة العينة وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وواضح، فنقول للبائع الآن إذا تمّت السّنّة إمّا أن لا تأخذ إلاّ كم؟
الطالب : ثمانين.
الشيخ :
إذا لم تأخذ إلاّ الثمانين التي أنت أعطيته فأنت سلمت من الرّبا، أمّا إذا أخذت المائة التي هي ثمن البيع الأوّل فإنّك تقع في الرّبا لأنّ حقيقة الأمر أنّك أعطيته ثمانين بمائة وأدخلت بينهما بعيرا ولهذا قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في مسألة العينة : " هي دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة " حريرة يعني ثوب، نحن نقول هنا في مثالنا دراهم بدراهم دخلت بينهما بعير، كذا؟
الطالب : نعم.
الشيخ :
طيب، الصّورة الأولى في التّفسير الثاني وهي بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة ما وجه إدخالها في الحديث؟
قالوا لأنّ هذا ربا، لأنّك زدت الثّمن بمقابل الأجل هذا واحد، ولأنّ هذا جهالة لأنّ الثّمن لم يستقرّ أنت قل بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة، إذن المشتري ماذا يكون؟ هل التزم بعشرة أو التزم بعشرين؟ والبيع لا يدري هل الذي حصل له عشرة أو عشرون، إذن فالمسألة فيها جهالة وفيها ربا، فهمتم الآن؟
الطالب : نعم.
الشيخ :
إذن فتكون داخلة في الحديث، ولكن عند التأمّل يتبيّن أنّ الحديث لا يراد به ذلك أوّلا استنادا إلى لفظ أبي داود، وثانيا أنّ قول البائع بعتك هذا بثمانين نقدا أو بمائة نسيئة ليس فيه ربا وليس فيه غرر،
ليس فيه ربا لأنّني لم أبدل دراهم الثّمانين بمائة وإنّما الزّيادة في ثمن السّلعة، ....
ثانيا : قولهم أنّ هذا جهالة نقول ليس بجهالة لأنّ المشتري لا يمكن أن يفارق المكان حتى يقطع الثّمن، وش الثّمن؟
الطالب : ثمانين.
الشيخ :
ثمانين أو مائة، صحيح أنّه إذا كان غير مقطوع الثّمن جهالة ولكن ما نأخذها من هذا الحديث نأخذها من أحاديث أخر وهي جهالة الثّمن أما إذا قال والله خذ هذه أنا أبيعها عليك بثمانين نقدا وإلاّ بمائة إلى سنة قال أخذتها بمائة إلى سنة .
الطالب : صار معلوما.
الشيخ :
هاه؟ فيها شيء، صار معلوما، ما تفرّقنا حتّى قطعنا الثّمن وعرف المشتري أنّ عليه مائة وأنّ البائع له مائة ولا فيها إشكال،
فتبيّن الآن أنّ أصحّ ما يفسّر به الحديث مسألة العينة لأنّنا فسّرنا قول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم بقول الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، ولا أحسن من تفسير الحديث بالحديث ولهذا اتّفق العلماء على أنّه إذا أمكن أن يفسّر كلام المتكلّم بكلامه فهو أولى أن يفسّر بكلام غيره لأنّه أعلم بمراده، والمسألة لا تنطبق أبدا إلاّ على مسألة العينة،
أمّا بثمانين نقدا وبمائة نسيئة فهذا لا بأس به لكن بشرط أن لا يتفرّقا حتى يقطعا الثمن أو يقول مثلا لك الخيار بثمانين نقدا أو بمائة نسيئة ولك الخيار يوما أو يومين فإذا أخذه على هذا الشّرط فلا بأس . انتهى من (شرح كتاب البيوع-(08)).
وسئلت اللجنة الدائمة :
ما رأيكم في بيع السيارة بعشرة آلاف نقدا، أو اثني عشر ألفا تقسيطا؟ كما هو معروف الآن في معارض السيارات.
فأجابت :
إذا باع إنسان لآخر سيارة أو غيرها بعشرة آلاف ريال مثلا نقدا، أو باثني عشر ألف ريال مثلا إلى أجل، وتفرقا من مجلس العقد دون أن يتفقا على أحد الأمرين :
ثمن الحلول، أو ثمن الأجل - لم يجز البيع ولم يصح؛ لجهالة الحال التي انتهى إليها البيع، من حلول أو تأجيل وقد استدل لهذا كثير من العلماء بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة، رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه،
وإن اتفق المتبايعان قبل أن يتفرقا من مجلس العقد على أحد الثمنين، ثمن النقد أو ثمن التأجيل، ثم تفرقا بعد التعيين فالبيع جائز صحيح؛ للعلم بالثمن وحاله . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم . انتهى من (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء-الفتوى رقم (١٦٩)).
والله أعلم
اقرأ أيضا..
تعليقات
إرسال تعليق