الإرادة الكونية القدرية تعني : مشيئة الله تعالى الشاملة لجميع الحوادث فهي تتعلق بكل ما يشاء الله تعالى فعله وإحداثه سواء أحبَّه أو لم يرضه من الكفر والمعاصي كما خلق إبليس وهو يبغضه وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله فإنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
الإرادة الدينية الشرعية تعني : إرادة الله تعالى المتضمنة للمحبة والرضا فهي تتعلق بكل ما يأمر الله تعالى به عباده ممَّا يحبُّه ويرضاه فعصى ذلك الكفار والفجار فتلك كلها إرادة دين وهو يحبها ويرضاها وقعت أم لم تقع وعلى هذا فالإيمان والعمل الصالح من مراد الله شرعاً والكفر وعمل السيئات ليس مراداً لله شرعاً لأن الله لا يحبه .
وأما الفرق بين الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية :
أن الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع ما أراده الله تعالى ولا يلزم أن يكون هذا الأمر الواقع محبوبًا عند الله تعالى .
وأما الإرادة الشرعية فلا بد أن يكون المراد فيها محبوبًا لله ولكن لا يلزم وقوعه فقد يقع المراد وقد لا يقع .
فالمطيع الموحد اجتمع فيه الإرادتان وافق إرادة الله الكونية ووحد الله وأطاعه ووافق الإرادة الشرعية لأنه بطاعته لله وتوحيده لله قد وافق الإرادة الشرعية أيضًا.
أما العاصي والكافر فقد وافق الإرادة الكونية ولكنه خالف الإرادة الشرعية والأمر الشرعي .
أمثلة على الإرادة الكونية القدرية :
1- كقوله تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ). يس /82
2- وقوله تعالى : ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ).[البقرة:253] .
3- وقوله تعالى : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا ). [الكهف:39] .
وهذه الإرادة إرادة شاملة لجميع الكائنات، فكل الحوادث الكونية داخلة في مشيئة الله تعالى، وهذه يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه . ينظر: ((مجموع الفتاوى)) (8/187، 197).
فهى تشمل كل شئ وجد بإرادة الله سبحانه أراد وجود إبليس وأبى لهب وفرعون ووجود الشر وهو يبغض كل ذلك .
كما أنه الذى أراد وجود الملائكة والأنبياء والمؤمنين وكل الخير ويحب ذلك فخلق ما يرضاه وما لا يرضاه وما أراده شرعاً وما نهى عنه شرعاً وخلق كلا لحكمة يعلمها .
أمثلة على الإرادة الدينية الشرعية :
1- كقول الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ). [البقرة: 185] .
2- وقوله تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون ). [المائدة: 6] .
3- وقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ).[النساء:28].
وهذه الإرادة تدل دلالة واضحة على أن الله تعالى لا يحب الذنوب والمعاصي والضلال والكفر ولا يأمر بها ولا يرضاها وأنه يحب ما يتعلق بالأمور الدينية ويرضاها ويثيب عليها أصحابها فقد أراد من الناس أن يصلوا وأن يصوموا وأمرهم بهذا وأن يعبدوه وحده فمنهم من صلى وصام وعبد الله ومنهم من كفر وهم الأكثرون هذه إرادة شرعية .
أقوال أهل العلم توضح ذلك :
** قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله :
الفريضة بأمر الله ومشيئته ومحبته ورضاه، وقضائه وقدره، وتخليقه وحكمه، وعلمه وتوفيقه، وكتابته في اللوح المحفوظ... والمعصية ليست بأمر الله، ولكن بمشيئته لا بمحبته، وبقضائه لا برضاه، وبتقديره لا بتوفيقه، وبخذلانه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ . ينظر: ((شرح وصية الإمام أبي حنيفة)) للبابرتي (ص: 79-82).
وروي أيضا أنه سئل عن قول الله تعالى :
(ولا يرضى لعباده الكفر) فكيف يرضى أن يخلق الكفر؟
فقال :
(يشاء لهم، ولا يرضى به).
ينظر: ((الفقه الأبسط)) (ص: 149).
** قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله :
وأجمعوا على أن الخلق لا يقدرون على الخروج مما سبق في علم الله فيهم، وإرادته لهم، وعلى أن طاعته تعالى واجبة عليهم فيما أمرهم به، وإن كان السابق من علمه فيهم وإرادته لهم أنهم لا يطيعونه،
وأن ترك معصيته لازم لجميعهم، وإن كان السابق في علمه وإرادته أنهم يعصونه، وأنه تعالى يطالبهم بالأمر والنهي، ويحمدهم على الطاعة فيما أمروا به، ويذمهم على المعصية فيما نهوا عنه،
وأن جميع ذلك عدل منه تعالى عليهم، كما أنه تعالى عادل على من خلقه منهم مع علمه أنه يكفر إذا أمره، وأعطاه القدرة التي يعلم أنها تصيره إلى معصيته،
وأنه عدل في تبقيته المؤمنين إلى الوقت الذي يعلم أنهم يكفرون فيه ويرتدون عما كانوا عليه من إيمانهم، وتعذيبهم لهم على الجرم المنقطع بالعذاب الدائم؛ لأنه عز وجل ملك لجميع ذلك فيهم غير محتاج في فعله إلى تمليك غيره له ذلك، حتى يكون جائرا فيه قبل تملكه، بل هو تعالى في فعل جميع ذلك عادل له، وله مالك يفعل ما يشاء، كما قال عز وجل : (فعال لما يريد). ينظر: ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص 143).
** قال أبو القاسم الأصبهاني رحمه الله :
فصل في إثبات صفة المحبة، والفرق بينها وبين الإرادة، والإرادة غير المحبة والرضا؛ فقد يريد ما لا يحبه ولا يرضاه، بل يكرهه ويسخطه ويبغضه. قال بعض السلف : إن الله يقدر ما لا يرضاه، بدليل قوله : ولا يرضى لعباده الكفر. [الزمر: 7] ،
وقال قوم من المتكلمين : من أراد شيئا فقد أحبه ورضيه، وإن الله تعالى رضي المعصية والكفر! ودليلنا : أنه قد ثبت إرادته للكفر ونفي رضاه به، فقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. [الأنعام: 125] ، وقال : ولا يرضى لعباده الكفر. [الزمر: 7] ، فأثبت الإرادة ونفى الرضا . ينظر: ((الحجة في بيان المحجة)) (1/ 458-460).
** وقال ابن القيم رحمه الله :
هاهنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له، وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة، تعرض لمن لم يحط به علما، وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر، وأمره سبحانه نوعان :
أمر كوني قدري، وأمر ديني شرعي؛
فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني، وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه، كله داخل تحت مشيئته، كما خلق إبليس وهو يبغضه، وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له، وهو يبغضها، فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله.
وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله، فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعا، فهو محبوب للرب، واقع بمشيئته، كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين، وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني، ولم تتعلق به مشيئته.
وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته، ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني، وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته؛
فلفظ المشيئة كوني، ولفظ المحبة ديني شرعي، ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية، فتكون هي المشيئة، وإرادة دينية، فتكون هي المحبة . ينظر: ((شفاء العليل)) (ص: 133).
** وقال جمال الدين القاسمي رحمه الله :
في تفسير قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء. [الأنعام: 148] :
إن مشيئة الله تعالى وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره، وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم وأنكر عليهم، وأخبر أنه لا علم لهم بذلك، وأنهم خارصون مفترون؛
فإن محبة الله للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله، لا بمجرد خلقه؛ فإنه خلق إبليس وجنوده، وهم أعداؤه، وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم، وهم خلقه، فهكذا في الأفعال؛ خلق خيرها وشرها، وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه، ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه، وكلاهما خلقه.
ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته . ينظر: ((تفسير القاسمي)) (4/ 527).
** وسئل الشيخ الألباني رحمه الله :
ما الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ؟
فأجاب :
الإرادة الكونية تعمُّ كلَّ ما يقع في هذا الكون من خيرٍ وشرٍّ وإيمانٍ وكفرٍ ، واشتُقَّت هذه الكلمة - وهي الإرادة الكونية - من قوله - تبارك وتعالى - : إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون...، فما من شيء يقع في هذا الكون مطلقًا إلا ويكون بإرادة الله - عز وجل - ومقدَّرًا ،
ولذلك كان من عقائد أهل السنة حقًّا الإيمان بالقدر خيره وشره ، خيره وشرِّه ، لا يتمُّ إيمان المؤمن إلا إذا اعتقد أن كلَّ شيء يقع في هذا الكون ؛ فذلك إنما يكون بإرادته - تبارك وتعالى - ، هذه هي الإرادة الكونية ؛ إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون .
أما الإرادة الشرعية ؛ فهي التي تشمل كلَّ ما شرع الله - عز وجل - مما يحبُّه ويؤجر عليه القائم به ، هذه الإرادة الشرعية تشمل الإيمان وما يتفرَّع منه من الأعمال الصالحة ، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ، هذه الإرادة إرادة شرعية ؛ فالله - عز وجل - يحبُّ من عباده أن يأتوا من الأعمال ما هو الأيسر لهم ؛ كما جاء في الحديث الصحيح : ما خُيِّر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ،
والبحث في هاتين الإرادتين بحث طويل جدًّا جدًّا ، وقد تولَّى بيان ذلك الإمام ابن القيم الجوزية في كتابه " شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل " ، فمن شاء التوسُّع في ذلك والتفصيل ؛ فعليه مراجعة هذا الكتاب الجليل . انتهى من (رحلة الخير - شريط : (19)).
وقال أيضا رحمه الله :
..... فإذا كل شيء يكون في هذا الكون هو بإرادة الله عز وجل سواء كان خيرا أو كان شرا فهذه الإرادة الشاملة للخير والشر هي الإرادة الكونية.
أما الإرادة الشرعية فعي تتعلق فقط بأحد المكونين ألا وهو الخير ويجمع لك هذا قول أحد الفقهاء العلماء في قصيده له يقول فيها في الرب تبارك وتعالى : " مريد الخير والشر ولكن ليس يرضى بالمحال " هو يريد الخير والشر ولكن لا يرضى بالشر وهذا صريح في القران الكريم (( ولا يرضى لعباده الكفر )) مع أن الكفر كائن من هذه الأكوان وذلك بإرادة الله فهو يريد هذا الكفر وهذا الكافر إرادة كونية لكن لا يريد ذلك إرادة شرعية لعل في هذا بيان ؟. انتهى من (سلسلة الهدى والنور-(674)).
وسئل أيضا رحمه الله :
قال تعالى : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً }[الإسراء:٤٦] يشم البعض منها رائحة الجبر، فما رأيكم؟
الجواب :
الجعل هو جعل كوني، ولفهم هذا لا بد من شرح الإرادة الإلهية، فإن الإرادة الإلهية تنقسم إلى قسمين:
- إرادة شرعية. - وإرادة كونية.
الإرادة الشرعية هي : كل ما شرعه الله عز وجل لعباده، وحضهم على القيام به، من طاعات وعبادات، على اختلاف أحكامها من فرائض إلى مندوبات، وهذه الطاعات والعبادات يريدها الله تبارك وتعالى ويحبها.
أما الإرادة الكونية فهي : قد تكون تارة مما شرع الله وأحبها لعباده، وقد تكون تارة مما لم يشرعها ولكنه قدرها، وهذه الإرادة إنما سميت بالإرادة الكونية اشتقاقاً من قوله تبارك وتعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }. [يس:٨٢]. فشيئاً : اسم نكرة يشمل كل شيء؛ سواءً كان طاعة أو كان معصية، إنما يكون ذلك بقوله تعالى : ( كن ) .
أي : بمشيئته وبقضائه وقدره، فإذا عرفنا هذه الإرادة الكونية، وهي أنها تشمل كل شيء؛ سواء كان طاعة أو كان معصية، حين ذلك لا بد من الرجوع بنا إلى موضوع القضاء والقدر؛ لأن قوله عز وجل : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }. [يس:٨٢] معنى ذلك أن هذا الذي قال له ( كن ) جعله أمراً مقدراً كائناً لا بد منه .
حينئذٍ طرقنا بحث القضاء والقدر مراراً وتكراراً، وقلنا : إن كل شيء عند الله عز وجل بقدر، أيضاً هذا يشمل الخير ويشمل الشر، ولكن ما يتعلق منه بنا نحن الثقلين الإنس والجن المكلفين المأمورين من الله عز وجل، فما يتعلق بنا نحن يجب أن ننظر إلى ما نقوم به نحن، حيث إنه :
إما أن يكون بمحض إرادتنا واختيارنا، وإما أن يكون رغماً عنا، وهذا القسم الثاني لا يتعلق به طاعة ولا معصية، ولا يكون عاقبة ذلك جنة ولا نار، وإنما القسم الأول عليه تدور الأحكام الشرعية، وعلى ذلك يكون جزاء الإنسان الجنة أو النار .
أي : ما يفعله الإنسان بإرادته ويسعى إليه بكسبه واختياره، فهو الذي يحاسب عليه الإنسان إن خيراً فخير أو شراً فشر، هذه حقيقة! أي : كون الإنسان مختاراً في قسم كبير من أعماله؛ فهذه حقيقة لا يمكن المجادلة فيها لا شرعاً ولا عقلاً،
أما الشرع فنصوص الكتاب والسنة متواترة يأمر الإنسان في أن يفعل ما أمر به، وفي أن يترك ما نهي عنه، وهي أكثر من أن تذكر،
وأما عقلاً فواضح لكل إنسان متجرد عن الهوى والغرض بأنه حينما يتكلم حينما يمشي حينما يأكل حينما يشرب حينما يفعل أي شيء مما يدخل في اختياره؛ فهو مختار في ذلك وغير مضطر إطلاقاً.
هأنذا أتكلم معكم الآن، لا أحد يجبرني بطبيعة الحال، ولكنه مقدر، فمعنى كلامي هذا مع كونه مقدراً، أي : أنه مقدر مع اختياري لهذا الذي أقوله وأتكلم به، أنا الآن أتابع الحديث ولا أسكت، ولكن باستطاعتي أن أصمت لأبين لمن كان في شك مما أقول أني مختار في هذا الكلام، هأنا أصمت الآن ولو للحظات؛ لأنني مختار.
إذاً فاختيار الإنسان من حيث الواقع أمر لا يحتاج المناقشة والمجادلة، وإلا يكون الذي يجادل في مثل هذا إنما هو يسفسط ويشكك في البديهيات، وإذا وصل الإنسان إلى هذه المرحلة انقطع معه الكلام.
إذاً أعمال الإنسان تنقسم إلى قسمين :
اختيارية، واضطرارية.
فالاضطرارية ليس لنا فيها كلام، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الواقعية، إنما الشرع يتعلق بالأمور الاختيارية،
فهذه الحقيقة إذا ما ركزناها في ذهننا؛ استطعنا أن نفهم الآية السابقة : { وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }. [الإسراء:٤٦] فهذا الجعل كوني، ويجب أن تتفكروا في الآية السابقة { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً }. [يس:٨٢] كوني، ولكن ليس رغماً عن هذا الذي جعل الله على قلبه أكنة، هذا مثاله من الناحية المادية :
الإنسان حينما يخلق، يخلق ولحمه غض طري، ثم إذا ما كبر، وكبر، وكبر، يغلظ لحمه ويشتد عظمه، ولكن الناس ليسوا كلهم في ذلك سواء، ففرق كبير جداً بين إنسان منكب على نوع من الدراسة والعلم، فهذا ماذا يقوى فيه؟ يقوى عقله، ويقوى دماغه في الناحية التي هو ينشغل بها، وينصب في كل جهوده عليها، لكن من الناحية البدنية جسده لا يقوى، وعضلاته لا تنمو.
والعكس بالعكس تماماً؛ بالنسبة لشخص منصب على الناحية المادية، فهو كل يوم يتعاطى تمارين رياضية، فهذا تشتد عضلاته، ويقوى جسده، ويصبح له صورة، كما نرى ذلك أحياناً في الواقع وأحياناً في الصور، فهؤلاء الأبطال -مثلاً- تصبح أجسادهم كلها عضلات، فهل هو خلق هكذا، أم هو اكتسب هذه البنية القوية ذات العضلات الكثيرة؟ هذا شيء وصل إليه هو بكسبه وباختياره.
ذلك هو مثل الإنسان الذي يظل في ضلاله، وفي عناده، وفي كفره وجحوده، فيصل إلى الران إلى هذه الأكنة التي يجعلها الله عز وجل على قلوبهم، لا بفرض من الله واضطرار من الله لهم؛ وإنما بسبب كسبهم واختيارهم، فهذا هو الجعل الكوني الذي يكتسبه هؤلاء الناس الكفار، فيصلون إلى هذه النقطة التي يتوهم الجهال أنها فرضت عليهم،
والحقيقة أن ذلك لم يفرض عليهم، وإنما ذلك بما كسبت أيديهم، وأن الله ليس بظلام للعبيد . انتهى من (متفرقات للألباني-(244)).
** وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
من مراتب الإيمان بالقدر : أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد، ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته... قال عز وجل : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. [الأنعام: 125] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، معلومة من كتاب الله، والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة، وهي إرادة كونية قدرية،
بخلاف الإرادة في قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا. [النساء: 26 - 28]. فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية، بمعنى المحبة.
والفرق بين الإرادتين :
الأولى : لا يتخلف مرادها أبدا، بل ما أراده الله كونا، فلا بد من وقوعه كما قال تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون،
أما الإرادة الشرعية فقد يوجد مرادها من بعض الناس وقد يتخلف. وإيضاح ذلك أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة، ومع ذلك أكثر الخلق لم يهتد ولم يوفق للتوبة ولم يتبصر في الحق؛ لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل، وبين السبيل وشرع أسباب التوبة وبينها، ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعا؛ لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين ولا ممن يوفق للتوبة .
وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته؛ ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة حار فيها الكثير من الناس لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين،
ومما يزيد المقام بيانا
أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن، فهو إنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية، وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية، وفعل ما أراده الله منه شرعا وأحبه منه،
وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي، فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته الكونية، وقد تخلفت عنه الإرادة الشرعية؛ لكونه لم يأت بمرادها، وهو الإسلام والطاعة، فتنبه وتأمل، والله الموفق . ينظر:((مجموع فتاوى ابن باز)) (6/ 59).
** وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
الإرادة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : إرادة كونية :
وهذه الإرادة مرادفة تماما للمشيئة، فـ «أراد» فيها بمعنى «شاء»، وهذه الإرادة :
أولا : تتعلق فيما يحبه الله وفيما لا يحبه.
وعلى هذا فإذا قال قائل : هل أراد الله الكفر؟ فقل : بالإرادة الكونية نعم أراده، ولو لم يرده الله عز وجل، ما وقع.
ثانيا : يلزم فيها وقوع المراد، يعني : أن ما أراده الله فلا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف .
القسم الثاني : إرادة شرعية :
وهي مرادفة للمحبة، فـ «أراد» فيها بمعنى «أحب»، فهي :
أولا : تختص بما يحبه الله، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق.
ثانيا : أنه لا يلزم فيها وقوع المراد، بمعنى : أن الله يريد شيئا ولا يقع، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه، ولا يلزم وقوع هذا المراد، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه، بخلاف الإرادة الكونية.
فصار الفرق بين الإرادتين من وجهين :
1- الإرادة الكونية : يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم.
2- الإرادة الشرعية : تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه . ينظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) (1/ 222).
وقال أيضا رحمه الله :
فإذ قال قائل : هل المعاصي مرادة لله؟
قلنا : أما قدراً فنعم، وأما شرعاً فلا. أما قدراً فنعم وأما شرعاً فلا.
فإذا قال قائل : إذا كانت المعاصي غير مرادة لله شرعاً فكيف يريدها قدراً وهل أحد أجبره على أن يريد ما لا يحب وما لا يرضى؟
قلنا : ما يكرهه الله عز وجل إذا أراده فهو مراد لغيره وليس مراد لذاته، مراد لغيره أي محبوب إلى الله لغيره لا لذاته فالأعمال السيئة والكفر مراد لله لغيره مراد لله شرعاً لغيره لا لذاته هو يكره الكفر ويكره المعاصي ولكنه يريدها لما يترتب عليها من المصالح فهي مكروهة إليه من وجه ومحبوبة إليه من وجه آخر
لأنه لولا الكفر ولولا المعاصي ما عُرف الإيمان وما عرف الصالح لو كان الناس كلهم مؤمنين وكلهم يعمل العمل الصالح ما حصل تمييز وما عرف قدر الإيمان والعمل الصالح ولهذا يقولون : " بضدها تتبين الأشياء " لولا الكفر هل يقوم الجهاد؟ لولا الكفر هل يقوم الجهاد؟ لا، ليش؟ كيف تجاهد مسلماً مثلك؟
لولا المعاصي هل يكون أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر؟ لا، لولا ذلك هل يكون دعوة إلى الخير؟ لا لأن الناس كلهم على الخير فيفوت مصالح كثيرة إذا لم تقع هذه المعاصي التي يكرهها الله شرعاً ويريدها ايش؟ قدراً وكوناً ، طيب،
ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي : ( ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره إساءته ولا بد له منه ) فهنا الرب عز وجل يتردد لا لجهله بما ينفع أو يضر هو يعلم بذلك ولكن لرحمته لعبده المؤمن ومحبته لما يحبه عبده المؤمن، يكره المؤمن الموت والله يكره إساءته لكن لا بد له منه.
الحكمة تقتضي أن يموت حتى ينتقل إلى الجزاء والثواب والنعيم الذي هو أضعاف أضعاف أضعاف أضعاف ما في الدنيا فالمؤمن يكره الموت لكن ينتقل إلى أي شيء؟ إلى خير منه إلى خير من حياته (( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى )) فهي كراهة موقتة ينتقل بعدها الإنسان إلى نعيم أنعم من الدنيا وما فيها،
فالحاصل أن نقول إن المعاصي مكروهة لله من وجه لكنها محبوبة إليه من وجه لما يترتب عليها من المصالح.
طيب الجدب والقحط الجدب يعني أن الأرض لا تنبت والقحط أن السماء لا تمطر والخوف وما أشبه ذلك هل الله يحب ذلك لعباده؟ لا لكن يريده الله عز وجل كوناً لما يترتب عليه من المصالح فهو محبوب إليه من وجه ومكروه إليه من وجه آخر،
ولكن المصالح العظيمة تجعله محبوباً ، محبوباً إلى الله عز وجل (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)) لايش؟ (( ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات )) وبعدها؟ (( وبشر الصابرين )) هذا ليس عقوبة هذا ابتلاء، ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا هذا عقوبة لنرجع إلى الله،
ولكن الذي في سورة البقرة ابتلاء قد يبتلي الله المؤمن وهو لم يعمل عملاً سيئاً ولم يكسب عملاً سيئاً يخطئ ويرجع إلى الله في التوبة ولكن يبتليه من أجل أن ينال درجة الصابرين ولهذا قال : (( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )).
الحاصل أن ما يقع من المعاصي مراد لله كوناً غير مراد له شرعاً لكن الله قدره بما يترتب عليه من المصالح،
ونظير ذلك في الشيء المحسوس لو كان لك ولد فقال الأطباء أنه لا بد من كيه، كيه يعني بإيش؟ بالنار فإنك توافق على هذا وتمسك بولدك ليكويه الطبيب أنت الآن كاره هذا الشيء أليس كذلك تكره أن ولدك يكوى بالنار لكن تحبه لما يترتب عليه من المصالح أليس كذلك؟ .
طيب يُشق بطن ابنك أمامك لاستخراج الزائدة منه أو أي عضو منه مريض يشق أمامك وترى أمعاءه أمامك هل أنت تحب هذا؟ لا ما تحبه وعندكم خوف ما في شجاعة ما أحبه من يحب أن بطن ولده يشق أمامه ولكن نظراً لما يترتب عليه من المصالح نعم أحبه فصار هذا محبوباً مكروهاً محبوباً مكروهاً،
كذلك السيئات والكفر هو محبوب مكروه فما يترتب عليه من المصالح العظيمة يريده الله عز وجل لهذا لا لأنه يحبه.
فإذا قال قائل ما الفرق بين الإرادتين الكونية والشرعية؟
فالجواب أن الفرق بينهما من وجهين :
الوجه الأول : الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد الإرادة الكونية لا بد فيها من وقوع المراد فإذا أراد الله شيئا كوناً وقع ولا بد .
والإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد يعني قد يقع وقد لا يقع ، فهمتم؟ طيب،
مثال ذلك : الإيمان مراد لله شرعاً فهل يلزم من كونه مراد لله شرعاً أن يؤمن الناس؟ لا ولهذا في الناس كافر ومؤمن ، أما الإرادة الكونية فلا بد من وقوع المراد لأنها بمنزلة المشيئة وما شاء الله كان.
الفرق الثاني : أن الإرادة الشرعية لا تكون إلا فيما يحبه الله .
والإرادة الكونية تكون فيما يحبه وفيما يكرهه فالمعاصي واقعة من الإنسان مرادة لله كونا غير مرادة لله شرعا ، مرادة كوناً لأنها وقعت غير مرادة شرعاً لأن الله لا يريدها لا يحبها، فهذان فرقان بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية،
طيب قول الله تبارك وتعالى (( ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون )) من أي الارادتين؟ الشرعية لأن من الناس من لم يتطهر (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) الشرعية، شرعية لأن في أشياء كونية تعسر عليكم (( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج )) شرعية ولا كونية؟ شرعية ، طيب لأن الحرج كوناً يقع ، الانسان يقع في ضيق وحرج وشدة هذا كوناً أما شرعاً فإن الله لا يريد منا أن يجعل علينا حرجاً .
طيب (( إن كان لله يريد أن يغويكم هو ربكم )) لا تتعجلون (( إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم )) كونية متأكدون؟ شرعية، شرعية ، لأن الله يحب إغواء الخلق، اي نعم كونية ولا شك الله تعالى لا يريد اغواء الخلق لو أراد اغواء الخلق ما أرسل إليهم الرسل وما أنزل إليهم الكتب جعلهم يعمهون في ضلالهم لكن يحب من عباده الهداية أما الاغواء فلا فقوله :(( إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم )) هذا هذه الإرادة ايش كونية....انتهى باختصار من (شرح كتاب التوحيد-16/صحيح البخاري).
والله اعلم
اقرأ أيضا..
تعليقات
إرسال تعليق