المسافر للدراسة له قصر الصلاة وجمع الصلوات والترخص بكل رخص السفر وذلك ما لم يستوطن المكان الذى ذهب اليه ويجمع على الإقامة فيه فأي شيء يُسمى سفراً يتحقق له ما رخص الله به. وهذا القول هو اختيار الشيخ العثيمين .
وعلى هذا القول يجوز للمسافر للدراسة أن يترخص بسائر ما يُشرع للمسافر أن يترخص به من الجمع والفطر في رمضان والمسح على الخفين ثلاثا ونحو ذلك إلا أن الأفضل للمسافر إذا كان مستقر فى المكان الذي هو فيه أن لا يجمع إلا لحاجة .
ودليل ذلك :
قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا. [النساء: 101].
وجه الدلالة : أن الله سبحانه وتعالى لم يفرق بين سفر طويل وسفر قصير. وهذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقا . ينظر : ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (24/18).
قال الترمذي رحمه الله :
أجمع أهل العلم على أن المسافر يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون .اه
((سنن الترمذي)) (2/434).
قال الشيخ العثيمين رحمه الله :
وأما المقيم إقامة مقيدة بزمن أو عمل بزمن : كشهر أو شهرين، أو يوم أو يومين، أو عمل : كعلاج، وتَعَلُّم غير مقيَّد بسنوات، فهذا حكمه حكم المسافر، بل هو مسافر حقيقة؛ لأن هذا الشخص متى انتهى وقتُه المقيَّدُ بزمنٍ أو عملُه الذي قيَّد به سفرَه فإنه يرجع إلى بلده .
وبناء على ذلك يكون الذين يدرسون في خارج بلدهم مسافرين؛ لأنهم لا ينوون الإقامة المطلقة إطلاقاً، لو أنه أعطي شهادته اليوم لسافر؛ لكنه مربوط بهذا العمل المؤقت المحدد .
ولذلك تجد بعض البلاد تكون مدة الدراسة فيها أربع سنوات، وبعضها خمس سنوات، وبعضها ست سنوات، فمن فعل هذا يكون حكمه حكم المسافر، فالمسح على الخفين ثلاثة أيام، والصلاة الرباعية ركعتان، وصيام رمضان لا يلزمه؛
لكننا نقول : لا ينبغي أن يؤخر الصيام إلى رمضان الثاني؛ لأنه إذا أخر صيام رمضان في هذا العام مثلاً وجاء العام الثاني وأخره إلى العام الثالث تراكمت عليه الأيام، وربما يعجز، وربما يترك، فلذلك نرى أن الصيام وإن جاز له أن يفطر لأنه مسافر؛ لكن لا يؤخره إلى السنة الثانية؛ لئلا تتراكم عليه فيعجز .
أما بالنسبة للرواتب فأنتم وغيركم سواء، فالمشهور عند أكثر الناس أن المسافر لا يتنفل، وهذا غلط، بل إن المسافر يتنفل كما يتنفل المقيم بكل شيء؛ كصلاة الليل، وصلاة الضحى، وصلاة الوتر، إلا ثلاث نوافل وهي : راتبة الظهر. وراتبة المغرب. وراتبة العشاء. فالسنة ألا يصليها، وأما بقية النوافل فهي على ما كانت عليه.
فلذلك وُجِدَت عبارة غير صحيحة يقال : مِن السُّنَّة في السفر تَرْكُ السُّنَّة! من أين جاء بهذا الكلام ؟! مِن السُّنَّة تَرْكُ السُّنَّة ؟! بل الصحيح : مِن السُّنَّة تَرْكُ الرواتب الثلاث التي ذكرناها فقط، وهي : رواتب الظهر، والمغرب، والعشاء، والباقي باقٍ على ما هو عليه. انتهى من (لقاءات الباب المفتوح، لقاء رقم(70))
وسئل أيضا رحمه الله :
نحن طلبة ندرس في إحدى الدول الغربية، ولكن نواجه مشكلة وهي: اختلاف الفتاوى في الصلاة : هل تجمع وتقصر، أم تقصر فقط، فماذا تقولون بالتفصيل وفقكم الله؟
الجواب :
بقي قسم ثالث : أم لا تقصر ولا تجمع، هذه المسألة يا إخواني مبنية على خلاف العلماء رحمهم الله، إذا أراد المسافر أن يقيم في مكان مدةً محددة معلومة، فهل له أن يقصر الصلاة أو لا؟
أكثر العلماء يقولون : لا يقصر الصلاة إذا زادت إقامته عن خمسة عشر يوماً.
وبعضهم يقول : أربعة أيام.
وبعضهم يقول : أربعة أيام لا يحسب منها يوم الدخول والخروج.
وبعضهم يقول : تسعة عشر يوماً.
وقد ذكر الحافظ النووي رحمه الله في كتابه شرح المهذب عشرين قولاً، أو أكثر من عشرين قولاً في هذه المسألة.
والقول الراجح : أنه ما دام الإنسان مسافراً فهو مسافر حتى لو حدد المدة، وحتى لو زادت على أربعة أيام، أو عشرة، أو عشرين، أو ثلاثين، هو مسافر،
والدليل على هذا :
أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سافر وأقام عدة إقامات مختلفة وهو يقصر الصلاة، أقام في غزوة الفتح في مكة تسعة عشر يوماً، وأقام في تبوك عشرين يوماً، وأقام في حجة الوداع عشرة أيام وكلها يقصر، ولم يرد عنه حرف واحد يقول : من نوى أكثر من أربعة أيام، أو أكثر من خمسة عشر يوماً، لزمه الإتمام، أبداً، وإنما كان يقصر ما دام على سفر، وقد أطلق الله تبارك وتعالى هذا الحكم فقال : ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ﴾.[النساء:101] ولم يحدد إذاً لا إشكال عندي في أن هؤلاء المبعوثين للدارسة يقصرون الصلاة،
ماذا بقي من الرخص؟ الجمع، هل يجمعون أو لا؟
أقول : الأفضل ألا يجمعوا إلا إذا كان يلحقهم في ترك الجمع مشقة، كتباعد الأمكنة، أو وجود حصص دراسية تمنعهم من أن يصلوا الصلاة الثانية في وقتها فلهم الجمع .
هذا هو القول الراجح عندي، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتلميذه ابن القيم، وشيخنا عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله، ومشايخ آخرين على أن ذلك غير محدد .
بقي الاختلاف، اختلاف الطلبة لا ينبغي أن يختلفوا في هذا، يتبعون الإمام فإذا كان الإمام الذي يصلي بهم لا يرى القصر، ويصلي أربعاً فليصلوا أربعاً وهم على خير، وإن كان يرى القصر ويصلي ركعتين فليصلوا ركعتين، ومن لا يرى القصر وصلى خلف الإمام الذي يقصر فإن الإمام إذا سلم يقوم المأموم فيتم . انتهى من (اللقاء الشهري>اللقاء الشهري [58])
وسئل أيضا رحمه الله :
نحن طلبة مبتعثون للدراسة في الخارج، هل تنطبق علينا أحكام السفر مثل القصر وعدم وجوب صلاة الجمعة والجماعة ونحو ذلك؟
الإجابة :
إذا أقام المسافر في مكان لحاجة ينتظرها ومتى انتهت رجع إلى بلده فله حالان :
الحال الأولى :
أن لا يحدد مدة إقامته بزمن معين فله الترخص برخص السفر من القصر، والجمع، والفطر برمضان، والمسح على الخفين ثلاثة أيام، وإن طالت مدة إقامته،
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "زاد المعاد" في كلام على فقه غزوة تبوك :
" والأئمة الأربعة متفقون على أنه إذا أقام لحاجة ينتظر قضاءها يقول : اليوم أخرج، وغداً أخرج، فإنه يقصر أبداً إلا الشافعي في أحد قوليه فإنه يقصر عنده إلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يوماً ولا يقصر بعدها ".
وقال قبل ذلك : " وقد قال أصحاب أحمد إنه لو أقام لجهاد عدو أو حبس سلطان أو مرض، قصر سواء غلب على ظنه انقضاء الحاجة في مدة يسيرة أو طويلة، وهذا هو الصواب، ولكنهم شرطوا فيه شرطاً لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عمل الصحابة، فقالوا : شرط ذلك احتمال انقضاء حاجته في المدة التي لا تقطع حكم السفر، وهي ما دون الأربعة أيام،
فيقال : من أين لكم بمكة وتبوك لم يقل لهم شيئاً، ولم يبين لهم أنه لم يعزم على إقامة أكثر من أربعة أيام، وهو يعلم أنهم يقتدون به في صلاته ويتأسون به في قصرها في مدة إقامته، فلم يقل لهم حرفاً واحداً لا تقصروا فوق إقامة أربع ليال، و بيان هذا من أهم المهمات، وكذلك اقتدى الصحابة به بعده، ولم يقولوا لمن صلى معهم شيئاً من ذلك ".انتهى كلامه رحمه الله .
الحال الثانية :
أن يحدد مدة معينة في إقامته للحاجة التي ينتظرها كحال القادمين إلى مكة للحج أو العمرة أو لبلد يشترون منه تجارة أو يبيعونها ثم يرجعون إلى أوطانهم، أو للدراسة متى انتهت عادوا إلى أوطانهم، ونحو ذلك فقد اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في حكم هذا هل يترخص برخص السفر سواء طالت مدة إقامته أم قصرت، أو لا يترخص إلا في مدة محدودة، وذكر النووي في ذلك أكثر من عشرة أقوال، وهي كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : " تقديرات متقابلة ".
والراجح عندي أنه يترخص برخص السفر، لأنه مسافر حقيقة ما لم ينو استيطاناً أو إقامة مطلقة غير مقيدة بزمن ولا حاجة للأدلة التي ستراها إن شاء الله تعالى بصحبة هذا الجواب .
لكنه لا يسقط عنه وجوب الجماعة لا وجوب الجمعة إذا أقيمت بل يجب عليه حضور الجماعة و الجمعة، ولا يحل له التخلف عنهما إلا بعذر شرعي يبيح التخلف للمستوطن.
فإن أدلة وجوب الجماعة عامة في السفر وغيره وأدلة وجوب الجمعة على من كان في مكان تقام فيه الجمعة عامة لم يستثن منها المسافر. أما أدلة وجوب الجماعة فمنها قوله تعالى في سورة النساء : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} -أي أتموا صلاتهم- { فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ }. [النساء: من الآية102]،
فأوجب الله الصلاة جماعة في حال مواجهة العدو، ومن المعلوم أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يقاتل أعداءه وهو مسافر خارج المدينة فتبين بذلك أن السفر لا يسقط وجوب الجماعة حتى في حال القتال، ومواجهة الأعداء، ففي حال الأمن والاستقرار من باب أولى،
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلي الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلةً حتى إذا أدركه الكرى عرس -أي نزل للنوم والراحة- فذكر القصة، وفيها أنهم لم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، فأمرهم أن يقتادوا رواحلهم إلى مكان آخر، ثم توضأ النبي صلي الله عليه وسلم وصلى بهم الصبح، فأنت ترى أنه لم يترك الجماعة بهم حتى في هذه الحال .
وأما أدلة وجوب الجمعة فمنها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }. [الجمعة :
9]، فوجه الله تعالى الأمر بالسعي إلى الجمعة إلى المؤمنين عموماً، ولم يستثن أحداً،
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم : أنهما سمعا رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره : " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات -أي عن تركهم إياها- أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين"، وإذا كانت الجماعة واجبة على المسافر مع كونها أقل جمعاً من الجمعة عليه من باب أولى، لأنها لا تكون في الأسبوع إلا مرة، ولأنها أكثر جمعاً ولما يحصل من الفائدة في خطبتيها.
وقد نص فقهاؤنا رحمهم الله تعالى على وجوب صلاة الجماعة على المسافرين، فقال في الروض المربع -وهو من أخصر كتب الفقه- قال : قول الماتن : " تلزم الرجال ولو كانوا سفراً في شدة خوف). وهكذا في الإقناع والمنتهى والفروع وغيرها، نصوا أيضاً على وجوب صلاة على المبتعثين ونحوهم ممن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
وعلى هذا فلا يحل لأحد من المبتعثين للدراسة أن يدع الجمعة و الجماعة بحجة أنه مسافر، لأن عمومات الأدلة على وجوب الجماعة والجمعة إذا أقيمت تشلهم ولا دليل على التخصيص.
ومن ظن أن قولنا بجواز الترخص برخص السفر لهؤلاء المبتعثين يقتضي سقوط الجماعة والجمعة عنهم ويبيح لهم الصلاة في بيوتهم فقد أخطأ في ظنه، فنحن نقول بوجوب الجماعة عليهم، ووجوب الجمعة إذا أقيمت في البلد الذي هم فيه، ولا يحل لهم التخلف عنهما إلا بعذر يبيح التخلف للمستوطنين. والله الموفق، والحمد لله رب العلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . انتهى من (مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الخامس عشر).
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق