الصواب الذى عليه أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم بحرف وصوت يسمع وأن الله تعالى لم يزل متكلمًا وأنه يتكلم متى شاء .
فالكلام صفة ذاتية فِعْـلية فهو صفة ذاتية باعتبار أصله لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلماً وصفة فعلية باعتبار آحاد الكلام لأن الكلام يتعلق بمشيئته فيتكلم كيف شاء ومتى شاء وأنه لا يشبه كلام المخلوقين ولا يحتاج لجوف وفم ولسان وشفتين ونحو ذلك من أدوات الكلام عند المخلوق ومن ذلك قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. {فصلت:11}، فكما أن كلام السماء والأرض لا يعني أن لها مثل هذه الأدوات فالله تبارك وتعالى وتقدس، أولى بالغنى عن مثل ذلك .
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبةً أن الله تعالى لم يزل متكلِّمًا إذا شاءَ ومتى شاءَ وكيف شاءَ وأن جبريل عليه السلام سمع القرآن الكريم من الله تعالى وبلَّغه إلى محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا فما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً ومنقوشاً كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق .
ومن الادلة على ذلك :
1- قال تعالى : ونَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا. (سورة مريم -52). وناديناه أي كلمناه ليلة الجمعة من جانب الطور الأيمن أي يمين موسى وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر ؛ قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال .
قال القرطبى فى تفسيره : وقربناه نجيا نصب على الحال ؛ أي كلمناه من غير وحي . وقيل : أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه . وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله - عز وجل - : وقربناه نجيا أي أدني حتى سمع صرير الأقلام . انتهى
وقال السعدى فى تفسيره : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } والفرق بين النداء والنجاء، أن النداء هو الصوت الرفيع، والنجاء ما دون ذلك، وفي هذه إثبات الكلام لله تعالى وأنواعه، من النداء، والنجاء، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، خلافا لمن أنكر ذلك، من الجهمية، والمعتزلة، ومن نحا نحوهم . انتهى
2- قال الله تعالى لموسى عليه السلام : " فاستمع لما يوحى . إنني أنا الله لا اله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري " .(سورة طه -13). فدل على أن موسى سمع كلام الله تعالى ولو كان ألقي في قلبه إلهاما لما كان فرق بين وموسى وغيره ، ولما سمي بالكليم .
قال ابن تيمية رحمه الله فى ((مجموع الفتاوى)) 6/531: ( أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ تَكْلِيمِ مُوسَى وَسَمْعِ مُوسَى لِكَلَامِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَلَّمَهُ بِصَوْتِ؛ فَإِنَّهُ لَا يُسْمَعُ إلَّا الصَّوْتُ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ مُوسَى : ( فاستمع لما يوحى ) ). انتهى
3- قال تعالى : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا. (سورة النساء-164). أي : وخاطَب اللهُ عزَّ وجلَّ بكلامِه موسى عليه السَّلام دون واسطةٍ، بكلامٍ واضح بحرف وصوت، سمعه منه موسى عليه السلام . يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/689)
قال القرطبي فى تفسيره : مصدر معناه التأكيد ؛ يدل على بطلان من يقول : خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى ، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما . قال النحاس : وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا ، وأنه لا يجوز في قول الشاعر : امتلأ الحوض وقال قطني أن يقول : قال قولا ؛ فكذا لما قال : تكليما وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل .انتهى
قال الشيخ العثيمين رحمه الله : (( كلم الله موسى تكليماً )) (( الله )) فاعل فالكلام واقع منه و (( تكليماً )) مصدر مؤكِّد والمصدر المؤكِّد قال العلماء إنه ينفي احتمال المجاز . أرأيت لو قلت جاء زيد ماذا تفهم؟ أفهم أنه جاء هو نفسُه ويحتمل أن يكون المعنى جاء خبر زيد، في احتمال وإن كان خلاف الظاهر لكن إذا أكدت فقلت جاء زيد نفسُه أو جاء زيد زيد، أكدت انتفى احتمال المجاز ، (( كلم الله موسى تكليماً )) لما قال تكليماً أكد الفعل فدل ذلك على أنه كلام حقيقي، لأن المصدر ينفي احتمال المجاز طيب كلام الله عز وجل لموسى كلام حقيقي سمعه ولا ما سمعه ؟ سمعه ولهذا جرت بينهما محاورة كما في سورة طه وغيرها فسمعه وحينئذٍ نقول إن كلام الله بحرف وصوت لا يُشبه أصوات المخلوقين هذا هو الحق وهو الواضح ولا أحد يفهم من النصوص إلا هذا إلا من فسدت فطرته والعياذ بالله طيب قلنا يتكلم بما شاء بما شاء وقلنا أن المراد بما شاء أي بأي موضوع أو بأي معنى شاءه يتكلم به ألا يمكن أن نقول ويتكلم أيضاً بأي لغة شاء ونجعل بما شاء من حيث اللغة ومن حيث موضوع الكلام . انتهى من (شرح العقيدة الواسطية-(15))
4- عن أبى سعيد الخدري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار " . رواه البخاري في ((صحيحه)) (7483)
جاء في مطالع الأنوار على صحاح الآثار لابن قرقول (4/ 310) : قوله : " فينادي بصوت " (يعني : الرب سبحانه. وقوله في الحديث الآخر: " فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت ". أي : صوت رب العزة أيضا جل جلاله، وكلام الله عز وجل بحرف وصوت لا محالة، إلا أنه لا يشبه كلام المخلوقين كما نقول في سائر صفاته - تعالى وتقدس - من السمع والبصر والكلام والعلم والإرادة والإتيان والمجيء، لا يؤول ولا يكيف ولا يشبه، ظاهره قبول، وباطنه مسلم لله عز وجل، قال الله تعالى : ﴿ وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ﴾. [الشورى: 10]، والذي يؤيد هذا قوله في الحديث الآخر : "فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق" ) . انتهى
قال الشيخ الألبانى رحمه الله : وفي ذلك ... رد على البيهقي في قوله : "ولم يثبت لفظ الصوت في حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - "!
ثم تأول الحديث بأن الصوت راجع إلى مَلكٍ أو غيره كما بينه الحافظ عنه، ثم أشار إلى رده بقوله : "وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة، ويلزم منه أن الله لم يُسمع أحداً من ملائكته ورسله كلامه، بل ألهمهم إياه ".
قلت (الالبانى) : وهذا باطل مخالف لنصوص كثيرة، وحسبك منها قول الله تبارك وتعالى في مكالمته لموسى : { فاستمع لِما يُوحى }. (طه: 13). (ثم قال ابن حجر) : " وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين، لأنها التي عُهد أنها ذات مخارج. ولا يخفى ما فيه؛ إذ الصوت قد يكون من غير مخرج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق. سلمنا؛ لكن نمنع القياس المذكور، وصفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوق، وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة، وجب الإيمان به، ثم إما التفويض، وإما التأويل. وبالله التوفيق ".
قلت (الالبانى) : بل الإيمان كما نؤمن بسائر صفاته، مع تفويض معرفة حقائقها إلى المتصف بها سبحانه وتعالى كما قال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}(الشورى: 111) . انتهى من ("الصحيحة" (7/ 2/756،758)).
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله : ( فينادي بصوت ) الله عز وجل وقوله : ( بصوت ) هذا من باب التأكيد كقوله تعالى : (( ولا طائر يطير بجناحيه )) (( وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم )) فالطائر الذي يطير بنفسه إنما يطير بجناحيه طيب إذن نقول : ( ينادي بصوت ) من باب التأكيد لماذا؟ لأن النداء لا يكون إلا بصوت ويكون بصوت مرتفع . انتهى من (شرح العقيدة الواسطية-(18))
5- عن أبى هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ... فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ما ذا قال ربكم ؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير . صحيح البخاري. وفي رواية أخرجها الطبري في التفسير بسند صحيح : " ولقوله صوت كصوت السلسلة على الصفوان ".
ففي هذا الحديث يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا قضى الله الأمر وقدره في السماء، أي : بأمر من أمور الخلق، ضربت الملائكة بأجنحتها « خضعانا » منقادين طائعين لقوله جل وعلا، ويكون القول المسموع يشبه صوت وقع السلسلة على « صفوان » وهو الحجر الأملس وهذا تشبيه للسماع بالسماع لا للمسموع بالمسموع تعالى الله أن يشبهه في ذاته أو صفاته شيء من خلقه وتنزه النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل شيء من كلامه على التشبيه وهو أعلم الخلق بالله عز وجل. .
ودل الحديث أيضا على أنَّ اللهَ تعالَى يتكلَّمُ بما شاء وقتَما شاء وكيف شاء دونَ تأويلٍ أو تعطيلٍ أو تشبيهٍ .
قال ابن بطال كما في الفتح 13 / 462 : " وفيه أنهم إذا ذهب عنهم الفزع قالوا لمن فوقهم : ما ذا قال ربكم ؟ فدل على أنهم سمعوا قولا لم يفهموا معناه من أجل فزعهم " انتهى .
قال الشيخ العثيمين رحمه الله في القول المفيد : وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا؛ لأن الله {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. [الشورى: 11]، بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه، بفزع من يسمع سلسلة على صفوان . انتهى
6- عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ . رواه البخاري ومسلم. دل الحديث على إثبات صفة الكلام لله تعالى على ما يليق بجلاله وأنه سبحانه وتعالى يتكلم بكلام مسموع مفهوم ليس بيْنه وبيْن الله سُبحانه واسِطة لا يحتاج إلى ترجمة يعرفه المخاطب به .
7- " قال مسروق عن ابن مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا ، فإذا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ، ونادوا : ما ذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق ". صححه الألباني في ظلال الجنة (514)
8- عن جابر عن عبد الله بن أنيس قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك الديان . أخرجه أحمد ، وصححه الألباني في " الصحيحة " ( 7/757 ) .
قال البخاري في ( خلق أفعال العباد ) ص 149 : " وفي هذا دليل على أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ؛ لان صوته جل ذكره يسمع من بعد كما يسمع من قرب وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا، وقال عز وجل : فَلَا تَجْعَلُوا لِلِّهِ أَنْدَادًا. {البقرة: 22} فليس لصفة الله نِدٌّ، ولا مِثلٌ ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين ". انتهى.
كلام السلف في إثبات الحرف والصوت
قال الإمام أحمد بن حنبل في رده على الجهمية والزنادقة :
أما قولهم : إن الكلام لا يكون إلا من جوف، وفم، وشفتين، ولسان، وأدوات، أليس الله قال للسماوات والأرض : {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}. [فصلت:11]، تراها أنها قالت بجوف، وفم، وشفتين، ولسان، وأدوات؟! وقال : {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}. [الأنبياء: 79]، أتراها سبحت بجوف، وفم، ولسان، وشفتين؟! والجوارح إذ شهدت على الكفار، فقالوا : {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}[فصلت: 21]، أتراها أنها نطقت بجوف، وفم، ولسان؟! ولكن الله أنطقها كيف شاء، وكذلك الله تكلم كيف شاء، من غير أن يقول بجوف، ولا فم، ولا شفتين، ولا لسان .
وقلنا للجهمية : من القائل يوم القيامة : ﴿ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾. [المائدة: 116] أليس الله هو القائل؟
قالوا : فيكوِّن الله شيئاً فيعبر عن الله، كما كون شيئاً فعبر لموسى .
قلنا : فمن القائل : ﴿ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ ﴾. [الأعراف: 6- 7] أليس الله هو الذي يسأل؟
قالوا : هذا كله إنما يكون شيئاً، فيعبر عن الله .
قلنا : قد أعظمتم على الله الفرية، حين زعمتم أنه لا يتكلم فشبهتموه بالأصنام التي تُعبد من دون الله؛ لأن الأصنام لا تتكلم ". انتهى من ( كتاب الرد على الجهمية والزنادقة ص 138- للإمام أحمد).
وقال عبد الله بن أحمد في السنة 1/281 ( 543) :
" وقال أبي رحمه الله : حديث ابن مسعود رضي الله عنه " إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان " قال أبى : وهذا الجهمية تنكره . وقال أبي : هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر . إلا أنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت ." .انتهى
وقال أيضا عبد الله بن أحمد :
قلت لأبي : إن ههنا من يقول : إن الله لا يتكلم بصوت ، فقال : يابني هؤلاء جهمية زنادقة ، إنما يدورون على التعطيل . انتهى من (الفتاوى (12/368))
وقال الخلال :
وأنبأنا أبو بكر المروزي : سمعت أبا عبد الله وقيل له : إن عبد الوهاب قد تكلم وقال : من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام ، فتبسم أبو عبد الله وقال : ما أحسن ما قال ، عافاه الله . نقله شيخ الإسلام في درء التعارض 2/38
وقال الإمام السجزي في رسالته إلى أهل زبيد :
في الرد على من أنكر الحرف والصوت : وهذه القضية توجب أن يكون كلامه حرفًا وصوتًا، وكذلك كلام المحدث، إلا أن كلامه معجز، ولا انتهاء له، وأزلي، وكلام المحدث غير معجز، وهو متناه، وعرض لم يكن في وقت، ولا يكون في وقت، وكلامه سبحانه بلا أداة، ولا آلة، ولا جارحة، وكلام المحدث لا يوجد إلا عن أداة، وآلة، وجارحة في المعتاد،
وقول الأشعري : " لما كان سمعه بلا انخراق، وجب أن يكون كلامه بلا حرف، ولا صوت "، مغالطة، وبناؤه لا يقتضي ما قاله، وإنما يقتضي : أن سمعه لما كان بلا انخراق، وجب أن يكون كلامه من غير لسان، وشفتين، وحنك، ولو قال ذلك لاستمر، ولم يقع فيه خلاف، وإنما موَّه وغالط، ويمر ذلك على من قصر علمه . انتهى من "رسالة السجزي إلى أهل زبيد"
وقال في موضع آخر :
وأما الصوت : فقد زعموا أنه لا يخرج إلا من هواء بين جرمين، وذلك لا يجوز وجوده من ذات الله تعالى، والذي قالوه باطل من وجوه : ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سلام الحجر عليه، وعلم تسليم الحصا في يده، وتسبيح الطعام بين يديه، وحنين الجذع عند مفارقته إياه، وما (جاء) لشيء من ذلك هواء منخرق بين جرمين؟ وقد أقر الأشعري : أن السماوات والأرض { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } حقيقة لا مجازًا . اهـ.
وقال الإمام المقدسي في (الاقتصاد في الاعتقاد) في إثبات أن كلام الله بحرف وصوت :
وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا تكلم الله بالوحي، سمع صوته أهل السماء، كجر السلسلة على الصفوان، فيخرون سجدًا ". وذكر الحديث.
وقول القائل : بأن الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج، باطل ومحال، قال الله عز وجل : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ }، وكذلك قال عز وجل إخبارًا عن السماء والأرض أنهما { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }، فحصل القول من غير مخارج، ولا أدوات. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كلمه الذراع المسمومة. وصح أنه سلم عليه الحجر . اهـ.
وقال أيضا رحمه الله :
وليس في الأئمة والسلف من قال : إن الله لا يتكلم بصوت ، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة : أن الله يتكلم بصوت ، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة ، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها منهم أحد ، حتى قال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : إن قوما يقولون : إن الله لا يتكلم بصوت ؟ فقال : يا بني هؤلاء جهمية إنما يدورون على التعطيل . ثم ذكر بعض الآثار المروية في ذلك .
وكلام " البخاري " في " كتاب خلق الأفعال " صريح في أن الله يتكلم بصوت ، وفرّق بين صوت الله وأصوات العباد ، وذكر في ذلك عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك ترجم في كتاب الصحيح باب في قوله تعالى : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) وذكر ما دل على أن الله يتكلم بصوت.
وكما أنه المعروف عند أهل السنة والحديث ، فهو قول جماهير فرق الأمة ، فإن جماهير الطوائف يقولون : إن الله يتكلم بصوت ، مع نزاعهم في أن كلامه هل هو مخلوق أو قائم بنفسه ؟ قديم أو حادث ؟ ..... وليس من طوائف المسلمين من أنكر أن الله يتكلم بصوت إلا ابن كلاب ومن اتبعه ، كما أنه ليس في طوائف المسلمين من قال : إن الكلام معنى واحد قائم بالمتكلم إلا هو ومن اتبعه . انتهى من " مجموع الفتاوى " (6/527) .
وقال أيضا رحمه الله 12/304 :
" واستفاضت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة : أنه سبحانه ينادي بصوت : نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ، ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : إن الله يتكلم بلا صوت أو بلا حرف ، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو حرف " . انتهى
وقال ابن حجر رحمه الله ((الفتح)) 13/460 :
وقالت الأشاعرة كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأثبتت الكلام النفسي وحقيقته معنى قائم بالنفس وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية واختلافها لا يدل على اختلاف المعبر عنه والكلام النفسي هو ذلك المعبر عنه وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القران وأما الصوت فمن منع قال إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحنجرة وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الادميين كالسمع والبصر وصفات الرب بخلاف ذلك فلا يلزم المحذور المذكور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه وأنه يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه . . . وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت فقال لي أبي بل تكلم بصوت هذه الأحاديث تروى كما جاءت .انتهى
وقال الشيخ الألبانى رحمه الله :
نعود إلى متن هذا الحديث حيث يقول ( قال الله تبارك وتعالى ) هنا مسألة لها علاقة بعلم التوحيد وقد انحرف عن الصواب فيها جماعة كثيرة من العلماء المتأخرين ممن نسميهم بالخلف، هذه المسألة هي كلام الله تبارك وتعالى فكلام الله عز وجل هل هو حقيقة كلام بحيث أنه كان من قبل غير مسموع فلما تكلم الله به صار مسموعا ؟ أهو هكذا ؟ أم هو كما يقول الأشاعرة والماتوريدية وغيرهم من الفرق الإسلامية أن كلام الله ليس مسموعا وإنما هو كلام نفسي يعبرون عنه بالكلام النفسي أي إن الكلام الذي منه القرآن ومنه الأحاديث القدسية لم يتكلم الله بها هذا معنى الكلام النفسي، إن الله لم يتكلم بها ولم يسمعها أحد منه تبارك وتعالى لا من الملائكة ولا من البشر إطلاقا ومن أجل هذا الانحراف عن دلالة الكلام على الحقيقة لكلام الله عز وجل جاؤوا بأشياء عجيبة جدا من تحريف الآيات القرآنية مثلا حينما قال الله تبارك وتعالى لموسى (( وما تلك بيمينك يا موسى )) يقول علماء الخلف ما قال الله لموسى (( وما تلك بيمينك يا موسى )) بل قول الله تبارك وتعالى هذا وكل كلامه هو كعلمه تبارك وتعالى قائم في ذاته لا يمكن أن يسمعه ولا أن يعني يحسّ به باعتباره إنسانا وإنما كيف خاطب الله موسى؟ خلق الله كلاما في الشجرة فقالت الشجرة لموسى وما تلك بيمينك يا موسى وقالت الشجرة إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري هذا مما يقوله أهل الاعتزال ومن اغتر بكلامهم وضلالهم في هذه المسألة من الأشاعرة والماتوريدية .
بينما هناك آيات صريحة أن كلام الله عز وجل يُسمع وهناك نصوص تدل على أن كلام الله قسمان أحدهما الكلام النفسي لكن النوع الآخر وهو الكلام المسموع فهذا ينكره أهل البدع ممن ذكرنا وغيرهم مثلا في الحديث الصحيح أيضا هو حديث قدسي ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) ( قال الله تبارك وتعالى من ذكرني ) يعني من عباده في نفسه ( ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير من ملإه ) إذًا كلام الله على نوعين، كلام نفسي وكلام ماذا نقول قولي فالكلام النفسي هو الذي صرح في هذا الحديث إذا إنسان ذكر الله خاليا ذكر الله سرا ذكره الله عز وجل في نفسه، أما إذا دعى الله وذكر الله على مسمع من الناس، الله عز وجل من باب هل جزاء الإحسان إلا الإحسان يذكره الله لهذا العبد في ملإ خير من الملأ الذين ذكر هذا الإنسان ربه من بينهم وهذا الملأ الذين هم خير من ذاك الملأ بلا شك هم الملائكة فإذا ذكر الله عبده بالخير أمام الملائكة فمعنى ذلك أن الملائكة يسمعون ذكر الله لهذا العبد الذاكر لله عز وجل على الملأ، فهذه المسألة في الواقع من المسائل التي خالف فيها الخلف السلف الصالح فأنكروا حقيقة كلام الله وعبروا عنه بأن كلام الله هو كلام نفسي .
ومن محاذير هذا الانحراف أن هذا القرآن الذي نحن معشر المسلمين نفخر به على سائر البشر أنه كلام الله المحفوظ بكل حرف أنزله الله فهو كذلك من محاذير القول والتفسير لكلام الله بأنه الكلام النفسي إنكار أن يكون هذا القرآن الكريم هو كلام الله فإذًا هنا يرد سؤال الله عز وجل ذكر بشرّ.....
فيجب أن نعلم جميعا أن القرآن كلام الله منه بدأ كما يعتقد السّلف وإليه يعود وكلام الله سمعه موسى منه مباشرة وسمعه محمد عليه السلام ليلة أسري به من وراء حجاب أي نعم وتسمعه الملائكة حتى جاء في بعض الأحاديث أن الله عز وجل إذا تكلم بكلام كان له صوت كصلصلة الحديد كصوت الحديد فتسمعه الملائكة فيخشعون ويسجدون خائفين من رب العالمين فيتساءل بعضهم لبعض ماذا قال ربكم قالوا الحق فتتحدث الملائكة بما كلمهم الله فكان من قبل بعثة الرسول عليه السلام الجن يصعدون إلى طبقات السماء فيسترقون هذا الكلام الذي تتحدث به الملائكة مما تكلم الله به فسمعته الملائكة وتحدثوا بينهم فيسترقون السّمع فينزل أحد هؤلاء القرناء من الجن فيلقيه إلى بني إلى قرينه من الإنس فكلام الله يسمعه الملائكة ويسمعه الأنبياء فهو كلامه حقيقة ليس مخلوقا وليس هو الكلام النفسي الذي يزعمه الأشاعرة وإنما الكلام النفسي هو أقل من أن يذكر بالنسبة للكلام الحقيقي كما في ذاك الحديث الذي ذكرناه آنفا ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير من ملإه ) فهذا كما يقول الإمام الذهبي هذا الحديث يجمع بين الكلامين، يثبت الكلامين، الكلام النفسي والكلام اللفظي إذا صح هذا التعبير. وهذا بحث في الواقع يطول فحسبنا منه هذا القدر . انتهى من (متفرقات للألباني-(190))
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
" متى شاء كيف شاء " " بما شاء " هذا المتكلم به " متى شاء " هذا الزمن " كيف شاء " هذا كيفية التكلم يعني إن شاء بصوت مرتفع وإن شاء بصوت منخفض وكلامه عز وجل هو الحرف والصوت هذا أيضا مذهب أهل السنة والجماعة.....
الكلام صفة المتكلم فإذا كان الكلام صفة المتكلم كان الكلام كلام الله صفته وصفات الله تعالى غير مخلوقة إذ أن الصفات تابعة لذات فكما أن ذات الرب عز وجل غير مخلوقة فكذلك صفاته غير مخلوقة وهذا واضح دليل عقلي .
ثم اعلم أنك إذا قلت إن كلام الله مخلوق سواء على طريق الأشاعرة أو على طريق المعتزلة بطل الأمر والنهي بطل الأمر والنهي فكروا كيف يبطل الأمر والنهي لأنك إذا قلت (( أقيموا الصلاة )) شيء مخلوق صار معناها أن الله خلق حروفا على هذا الشكل ليس لها معنى كما خلقنا الآن نحن على هذا الشكل أعضاء اربعة وراس وصدر وبطن وظهر فالكلام إذا كان مخلوق صار معناه عبارة عن صور مخلوقة صور أشياء الصاد على كذا والشين على كذا والطا على كذا والعين على كذا مخلوقة لا معنى لها وإذا كان كذلك أيش إذا كان كذلك بطل الأمر والنهي صار كل مثل لا تقرأ كلاهما صورة معينة خلقها الله لا تدل هذه على أمر ولا هذه على نهي ولهذا أكد شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من أهل العلم على أن من قال إن القرآن مخلوق فقد أبطل الشرع كله لأن القرآن أوامر ونواهي وحل وكراهة فإذا قلنا إن القرآن خلق هكذا صار ما في أمر ولا نهي ولا حل ولا كراهة إنما هي حروف خلقت على هذه الصورة .... انتهى باختصار من (شرح عقيدة أهل السنة والجماعة-(04))
الرد على شبهات الأشاعرة
الشبهة الأولى :
قالوا إن الحروف متعاقبة, يعقب بعضها بعضاً, وكذلك الأصوات، فلو كان كلام الله بحرف وصوت لكان حادثاً، والله منزه عن الحوادث، فلزم أن يكون كلامه بلا حرف ولا صوت . انظر ((مشكل الحديث)) لابن فورك (ص: 202) و((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 149)
والجواب :
1- تعارض الأشاعرة هنا بما سبق أن أورد عليهم في صفات الأفعال إذ يلزمهم القول بقيام الصفات الاختيارية بذات الباري, وهم يسمون مثل هذا بحلول الحوادث .
ووجه الإلزام أنه ما من شك أن كل مخلوق فهو كائن في وقت مخصوص بعد أن لم يكن فيقال عندئذ : ما الذي أوجب حدوثه في ذلك الوقت المخصوص؟
فإن قالوا الإرادة الأزلية هي التي خصصت ذلك! فيقال لهم : إن الإرادة صالحة لذلك أزلاً، فما من وقت يقدر إلا والإرادة صالحة للإيجاد فيه، قالوا : إن الإرادة وإن كانت صالحة أزلاً للتخصيص إلا أنها تعلقت تنجيزياً في وقت مخصوص بذلك المخلوق المراد.
فيقال لهم : هذا التعلق إن كان شيئاً عدمياً فهو ليس بشيء، فلم يحدث شيء إذا، فيلزم عدم وجود شيء أصلاً، وإن كان التعلق وجودياً فهذا هو الفعل الاختياري الذي فررتم منه، فصح إذا أن الله يفعل ما شاء متى ما شاء – فإذا ثبت هذا كان لا محذور من وجود التعاقب في الكلام .
2- ثم إن قولهم : يلزم من القول : بالتعاقب الحدوث، وأن كل حادث فهو مخلوق، فقول لا يسلم لهم، إذ هذا الكلام مبني على القياس الشمولي – وهو لا يجوز في المطالب الإلهية – فإنه وإن ثبت تعاقب في الكلام لكن لا يلزم ثبوت المساواة والمماثلة – بدليل "أن الله سبحانه وتعالى يتولى الحساب بين خلقه يوم القيامة في حالة واحدة، وعند كل واحد منهم أن المخاطب في الحال هو وحده" فثبت من هذا عدم تحقق المماثلة.
3- وإيرادهم الذي ذكروه هو خلاف مجرد للأدلة الكثيرة كقوله تعالى : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. [يس: 82] ففي هذه الآية إثبات تعلق الكلام بالمشيئة. وعلقه بإذا الدالة على المستقبل .
الشبهة الثانية :
قالوا إن الحروف تحتاج إلى مخارج : الحلق, واللسان, والشفة، ولابد من اصطكاك الهواء بالمخارج ونحو ذلك ليحدث الصوت، وهذه صفات الخلق لا صفات الخالق، فوجب تنزيه الله عنها . انظر ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 173)، و((قواعد العقائد)) للغزالي (ص: 182-184)
والجواب :
قولهم إنه لا يعقل حرف ولا صوت إلا بمخارج منقوض بتكلم السموات والأرض : قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ. [فصلت: 11] وتكلم الجوارح : أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ. [فصلت: 21] إلى غير ذلك مما تواتر نقله، فإذا بطلت هذه المقدمة فسدت النتيجة .
ويجاب عليهم ثانياً بأن هذا قياس للخالق على المخلوق – وهو ممنوع – كما قال الله تعالى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. [الشورى: 11] ويلزمهم على قولهم هذا ما أورده عليهم المعتزلة من أنه يلزم من إثبات صفة البصر إثبات ما للخلق من الحدقة وغيرها، وهم لا يسلمون بلزوم هذا الاشتراك فلزمهم كذلك . انظر : ((الرد على الزنادقة والجهمية)) للإمام أحمد (ص: 35).
الشبهة الثالثة :
قالوا : إذا قلتم إن الحروف والأصوات قديمة لزم أن يكون كل كلام قديماً كذلك، وإذا قلتم إنها حادثة رجع الكلام إلى ما قلناه أولاً، وإذا قلتم إن كلام الله بحروف وأصوات قديمة, وأن الخلق يتكلمون بحرف وصوت حادث لزم أن يكون ما في المصحف ليس كلاماً لله لأنه مكتوب بحروف حادثة، وإذا قرئ فبصوت حادث كذلك . انظر هذه الشبهة في ((الإنصاف)) للباقلاني (ص: 173).
الجواب :
لا يلزم إذا قلنا إن صوت الباري وحروفه غير مخلوقة أن تكون كل الأصوات والحروف غير مخلوقة، لأن الصوت الذي يحصل به إنشاء الكلام ليس مثل الصوت الذي يحصل به أداؤه وتبليغه – يوضحه الآتي :
لو أن شخصاً أنشد شعراً لأحد فحول الشعراء كلبيد مثلاً : فإنه يقال : إن الشعر شعر لبيد، الذي تكلم به بصوته، إلا أن هذا الشخص أداه بصوته، وهو فعله، وليس صوت هذا الشخص هو صوت لبيد, وهذا معلوم ضرورة – فإذا علم هذا الفرق بين المخلوقين، فأولى أن يكون هذا الفرق بين الخالق والمخلوق ثابتاً، وما قيل في الصوت يقال في الحرف . انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/73-74)
ولا يجوز إطلاق القول بأن الحروف قديمة، ذلك لأن الحروف صفة للكلام، فهي وإن كانت واحدة بالنوع إلا أن أعيانها ليست كذلك، والكلام إذا أطلق لا يكون إلا بحرف وصوت، فكلام الله ما قام به وهو ليس مخلوقاً، ففي هذه الحالة لا تكون الحروف مخلوقة. وأما كلام الخلق فهو ما قام بهم وهو مخلوق، إذ هو صفة لهم فحروفهم وأصواتهم إذاً مخلوقة . انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/64-65).
وأما قولهم إن المصحف مكتوب بحروف حادثة وإذا قرئ فبصوت حادث فيلزم أن يكون ما في المصحف ليس كلاماً لله فجوابه : إن الحروف تطلق ويراد بها الصوت المقطع، وقد يراد بها المداد أو شكله . انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/69-70). ولا شك أن المداد مخلوق وشكله كذلك إذ هو فعل الإنسان، ولكن لا يلزم من هذا أن يكون ما في المصحف ليس كلاماً لله – يوضحه :
أن الأشياء إما أعيان قائمة بذاتها، أو أشياء قائمة بالأعيان، فالأشياء القائمة بنفسها – وهي الأعيان كالسماء – لها أربع مراتب : وجودها الخارجي بنفسها، ووجودها الذهني، ووجودها اللفظي اللساني، ووجودها الرسمي الكتابي، ولاشك أن كل مرتبة تختلف عن الأخرى .
أما الأشياء التي لا تكون قائمة بنفسها وإنما تقوم بغيرها – فهذه قد تكون لها المراتب الأربع المذكورة سابقاً كالألوان، وقد تكون لها ثلاث مراتب فقط كالكلام فله وجود خارجي : وهو ما قام باللسان، ووجود ذهني هو ما قام بالقلب، ووجود رسمي هو ما ظهر بالكتابة . انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/112). وعليه فإن المرتبة اللفظية للكلام هي المرتبة الخارجية عينها, ولذلك فإن كلام الله غير مخلوق حيث ما تصرف، فإذا كتب كان هو كلامه، وأما الحبر, والمداد, وشكله فمخلوق، وإذا قرئ فسمع كان المسموع كلامه مسموعاً من المبلغ عنه, لا مسموعاً من الله . انظر ((مجموع الفتاوى)) (12/139). انتهى
قال الإمام الحافظ أبو نصر السجزي :
اعلموا ـ أرشدنا الله وإياكم ـ أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب والقلانسي والصالحي والأشعري وأقرانهم الذين يتظاهرون بالرد على المعتزلة وهم معهم بل أخس حالاً منهم في الباطن في أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق وإن اختلفت به اللغات . انتهى من ((رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت)) (145 و 173-178)
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق