أى : لا يحب الله تعالى أن يجهر أحدنا بالدعاء على أحد إلا من ظُلم كأن يشتكي ممن ظلمه أو يقول للنَّاس إنَّه ظالم أو يَدعو عليه لكن بحسب مظلمته لا يزيد فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك لأنه قد رخص له في ذلك .
فمن عدالة الإسلام أنَّه رخَّص للمظلومِ أن يجهر بالقول لكن بحسَب مظلمتِه ولا يزيد فيجوز له أن يدعو على من ظلمه ويتشكى منه ويجهر بالسوء لمن جهر له به من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه فإن زاد فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( على البادئ منها ما لم يعتدي المظلوم ) . ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى كما قـال تعالى : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } .
ومع ذلك لا يجوز للمظلومِ أن يتَّبع هواه في الاسترسال والتَّمادي في الجهرِ بالسوء بما لا دَخل له في منْع الظلمِ والتَّخلُّص منه فقد ختم الله جل وعلا الآية بقوله : وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا بعد ذكر ما يُمنع وما يُباح مِن الكلام تحذير مِن التَّكلُّم بما يُغضِب الله فيُعاقبكم على ذلِك وفيه أيضًا ترغيبٌ في القول الحسَن .
* فقوله تعالى : ( لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ). (148 - سورة النساء)
أي : إنَّ الله تعالى يُبغض- أيُّها الناسُ- جَهْرَ أحدٍ منكم بالقول السيِّئ، كالشَّتمِ والقَذْف والسَّبِّ، ونحوِ ذلك .
"إِلَّا مَنْ ظُلِمَ"
أي: أمَّا مَن ظُلم؛ فلا حرَجَ عليه أن يُخبِرَ بما أُسيء به إليه، كأنْ يدعوَ على مَن ظلَمَه ويتشكَّى منه، أو أن يقول له : أنت ظلمتني، أو يقول للناس : إنه ظالم، من غير أن يَكذِبَ عليه، ولا يَزيد على مظلمتِه، ولا يَتعدَّى بشَتمِه غيرَ ظالِمِه .
"وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا"
أي : إنَّ الله تعالى سميعٌ لِمَا تَجهرون به من سوءِ القولِ وغير ذلك من أقوالِكم, عليمٌ بما تُخفون منها، وعليمٌ بنِيَّاتكم ومَصدرِ أقوالكم, ومُحْصٍ ذلك كلَّه عليكم، فيُجازي كلًّا منكم بحَسَبه؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ، فاحْذروا أن تقولوا ما لا يَرضاه، أو أن تُخفوا في قلوبِكم ما لا يحبُّه . يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/632)، ((تفسير السعدي)) (ص: 212)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/381-382).
قال البغوي رحمه الله :
يعني : لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه، قال الله تعالى : وَلَمَنْ انتصرَ بعد ظلمه فأولئك ما عليهم مِنْ سَبيل . [الشورى: 41]، قال الحسن : دعاؤه عليه أن يقول : اللهم أعني عليه اللهم استخرجْ حقي منه، وقيل : إن شُتِم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه . (((معالم التنزيل)) للبغوي (2/ 304).).
إلا أن السلف الصالح اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك ؛ فقال الحسن : هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه ، ولكن ليقل : اللهم أعني عليه ، اللهم استخرج حقي ، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي . فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء . وقال ابن عباس وغيره : المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر فهو خير له ؛ فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم . وقال أيضا هو والسدي : لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول .
* ومما يدل على جواز الدعاء على الظالم ولو كان مسلماً ما رواه مسلم في صحيحة عن عروة عن أبيه : أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد : أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شبراً من الأرض ظلماً طوقه إلى سبع أرضين. فقال له مروان : لا أسألك بينة بعد هذا، فقال : اللهم إن كانت كاذبة فعم بصرها، واقتلها في أرضها. قال : فما ماتت حتى ذهب بصرها، ثم بينما هي تمشي في أرضها إذ وقعت في حفرة فماتت.
قال الشيخ الالبانى رحمه الله :
قال تعالى : (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم )) ، إلا من ظلم فيجوز للمظلوم أن يذكر ظالمه بالسوء من القول لماذا ؟ لكي يتمكن من الوصول إلى حقه المهضوم و في هذه الحالة قال عليه الصلاة و السلام مبينا الآية ( لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ) اللّيّ هو المماطلة ... على الذمة ويأتي صاحب الدين يطالبه فيماطله يقول له اليوم وبكرة وبعد بكرة كما هو معروف عند كثير من الناس وليس ذلك عن عذر فعلا أي عن عن عدم وجود ما يؤدي به دينه وإنما هو للاستفادة من هذا المال الذي بين يديه ولو تضرر من تأخير أدائه لصاحبه فقال عليه الصلاة والسلام ( لي الواجد ... ) مماطلة الواجد لما ... به ما عليه من الدين ( يحل عرضه ) يحل للدائن أن ينال من عرضه ويجب أن نتذكر أن العرض في اللغة ليس هو ما يمس فقط شرف الإنسان من ناحية نسائه بل ما يمسه بصورة عامة في خلقه فهنا يحل عرضه أي يحل للدائن المماطل من المدين أن يذكره بالمماطلة وأنه رجل مثلا أعطيناه أعناه ديّناه إلى أجل مسمى وهو اليوم مضى الشهر والشهران والثلاثة وإلى آخره ولسى يماطل يماطل وما هو عن فقر وإنما عن بخل وشح كما قلنا آنفا استغلال هذا المال لصالحه الخاص ، فيحل مطله لصاحب الحق أن ينال منه لا ينال منه أن يقول مثلا كنا جرت العادة من بعض الناس مما لا خلاق لهم يسبه لشرفه لأهله لأبيه ربما وإنما لا يتعدى أن ينال منه في شخصه أولا وفيما يتعلق بمماطلته من وفاءه بالدين ثانيا قال عليه السلام عطفا على عرضه قال ( وعقوبته ) وهذه العقوبة إنما هي للحاكم الحاكم يجوز أن يحبس الدائن المدين إذا ما تبين له أنه يستطيع الوفاء ولكنه يماطل فهذا من الأحاديث التي تشهد لاستثناء المظلوم فيما إذا استغاب ظالمه من الغيبة المحرمة .
وهناك قصة وقعت في عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه فيها أولا الشاهد لهذا المستثنى من الغيب وفيها شيء من أسلوب الرسول صلوات الله وسلامه عليه في معاجالته أخطاء الظالمين وفي انتصاره للمظلومين فقد جاء في الأدب المفرد للإمام البخاري وسنن أبي داود وغيرهما من حديث أبي هريرة وغيره أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله جاري ظلمني فأمره عليه الصلاة والسلام بأن يخرج متاعه ويجعله على قارعة الطريق عفش البيت قال له أطلعه وضعه في الطريق وواضح المقصد والمغزى من هذا الأمر النبوي وهو أن الناس سيسترعي انتهابهم و يلفت أنظارهم إنسان أخرج متاع البيت عفشه كله فوضعه في حافة الطريق فلا بد أن يتساءلوا وأن يسألوا ما لك ؟ وهذا الذي وقع فما كان منه إلا أن يقول جاري ظلمني ! فما يكون من الناس وهم العهد بتوجيهاتهم الإسلامية الصريحة الصحيحة التي لا تعرف للنفاق والمداهنة معنى فما يكون منهم إلا أن يدعوا على جاره الذي ظلمه بقولهم قاتله لعنه الله فكانت هذه المساب أو الشتائم كافية لتأديب الرجل و لذلك ما كان منه إلا أن ذهب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم و قال يا رسول الله مر جاري بأن يرجع متاعه إلى داره وقد لعنني الناس قال ( لقد لعنك الله قبل أن يلعنك الناس ! ) بسبب إيذاءه لجاره المسلم وهنا حينما جاء الرجل أولا إلى النبي صلى الله عليه و سلم شاكيا قائلا جاري ظلمني يتساءل ترى هذا الجار ألا يكره أن يقال أمام الناس بل أمام سيد الناس أنه ظالم ؟ لا شك أنه يكره ذلك إذا هذا يمكن أن يدخل تحت المبدأ العام ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ) فهل هذا النوع يدخل تحت المبدأ العام ؟ الجواب لا لماذا ؟ لأنه لم يقل لم يستغب هذا المظلوم أخاه الظالم من باب يعني ... النفس وشفاء غيظها وإنما محاولة منه للوصول إلى رفع الظلم عنه من جاره الظالم ولهذا لم يقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الجار المظلوم موقف المنكر عليه .انتهى باختصار
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
عن حكم الدعاء على الظالم؟
فأجاب :
لا حرج في الدعاء على من ظلم بقدر ظلمه، قال الله تعالى : لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ. [النساء:148]، فمن ظلم استحق أن يدعى عليه، وإذا سمحت وعفوت فلك أجر عظيم، وإذا دعوت على من ظلمك بقدر ظلمه وأن الله يجازيه عن ظلمه بما يستحق فلا حرج، وإذا تركت وعفوت فالأجر أكبر، ولك أجر عظيم إذا عفوت وصبرت . انتهى من (فتاوى نور على الدرب)
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
قال الله تبارك وتعالى : (( لا يحب الله الجهر بالسوء إلا من ظلم )) لا يخفى أن هذه الجملة جملة خبرية منفية (( لا يحب الله الجهر بالسوء )) والجهر بالسوء معناه أن يقول فلان ظلمني ، فلان أخذ حقي ، وفلان جحده ، وما أشبه ذلك ، فالله لا يحب هذا إلا من ظلم ، إلا من ظلم بأخذ حقه والعدوان عليه فإن محبة الله لا تنتفي بحقه.
مثال : المظلوم لو أن إنسانا آذاه جاره فصار يتكلم عند الحاكم أو عند الأمير أو عند من يستطيع أن يزيل مظلمته ويجهر بهذا السوء وليس المراد بالجهر أن يصوت بين الناس ، المراد أن يبينه لغيره ، فإن هذا مظلوم ، فله أن يقول ذلك ، ومن هذا القصة الجار الذي كان يؤذي جاره فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يخرج متاعه عن بيته فيمر الناس به فيقول ما هذا ؟ فيقول آذاني جاري ، فيكون في هذا فضيحة للجار بالقول أو الفعل ؟ بالفعل .
ومن الجهر بالسوء ممن ظلم أن يسبك إنسان أمامك ويقول أنت بخيل ، أنت جبان ، أنت سفيه ، وما أشبه ذلك فلك أن ترد عليه بمثل ما وصفك به من العيب ، فتقول السفيه أنت ، الجبان أنت ، البخيل أنت ، كما قال بدون زيادة ، لقوله تعالى: (( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )) ولقوله : (( فإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به )) ولقوله تعالى : (( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم )) ولقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتدي المظلوم ) كل هذه النصوص تدل على أنه يجوز الجهر بالقول ممن كان مظلوما ، ومن ذلك ما يفضيه الإنسان إلى صديقه ورفيقه في شكاية الحال كما لو كان الإنسان ظلمه شخص وجاء إلى صديقه يتحدث ويقول فلان فعل بي كذا فعل بي كذا فعل بي كذا ، ومن ذلك أيضا الزوجة تشكوا ما يحصل من زوجها إلى أخواتها ، إلى أمها ، وما أشبه ذلك ، لأن كل هؤلاء مظلومون وقد استثنى الله تعالى من ظلم ، ومن ذلك إذا قال لعنك الله فقل لعنك الله أنت ، لأن هذا اعتداء بمثل ما اعتدى عليك.
وعلى هذا نقول إن الجهر بالسوء من القول إذا كان من مظلوم فإن محبة الله لا تنتفي عنه ، وهذا من نعمة الله عزوجل ورفع الحرج عن الأمة ، لأنه لو كان الله لا يحب الجهر بالسوء من القول حتى من المظلوم صار في ذلك حرج لأن المظلوم يكاد يشقق صدره حتى يتحدث عما في صدره من الظلامة فيخف عليه الأمر . (( وكان الله سميعا عليما )) (( سميعا )) لأقوالكم (( عليما )) بما في قلوبكم يعني فاحذروه ، احذروا أن تقولوا ما لا يرضاه ، احذروا أن تخفوا في صدوركم ما لا يرضاه .
ومن فوائد الآية : عدالة الإسلام ، وجه ذلك أنه رخص للمظلوم أن يجهر بالقول لكن بحسب مظلمته ، لا يزيد ، فإن زاد فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( على البادئ منها ما لم يعتدي المظلوم ) .
ومن فوائدها : أن الدين الإسلامي لا يكفت النفوس بل يوسع لها ويشرح الصدور ويدخل السرور ، ولهذا نهي الإنسان أن يتعرض لما فيه الغم والهم والوساوس والأوهام حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام قال للذي يشك : ( هل خرج منك ريح أو لا ، قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) والمعنى حتى يتيقن مثل يقين الشمس ، أما مجرد التخيل أنه خرج من بطنه شيء أو من دبره شيء أو من قبله شيء فهذا يجب أن يطرح ، لماذا ؟ لئلا يقع الإنسان في تذبذب وتردد .
الدين الإسلام يريد منك أن تكون دائما في ، وجه ذلك في هذه الآية أنه رخص للمظلوم أن يجهر بالسوء بقدر مظلمته لأن ذلك تنفيس عن نفسه بلاشك . انتهى باختصار
وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :
معنى الآية : أنه لا يجوز لأحد أن يدعو على أحد إلا إذا كان المدعو عليه ظالماً له فيجوز للإنسان أن يدعو على من ظلمه، وقيل في معنى الآية : أن من سبّك يجوز لك أن تسبّه من باب القصاص، أما السباب من غير قصاص فإنه لا يجوز فمن سابك أو شتمك جاز لك أن تقتص منه وأن ترد عليه بالمثل .انتهى من (المنتقى من فتاوى الفوزان)
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق