">

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

قوله : من خلق ربك كلام متهافت ينقض آخره أوله لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقًا ثم لو كان السؤال متجهًا لاستلزم التسلسل وهو محال وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات فالخالق لا يُخلَق والله ليس مخلوقًا لنسأل : من خلقه؟ وثبت أنه سبحانه وتعالى هوالخالق فكيف يكون مخلوقا؟! فهذا أمر محال ولا يقبله عقل أبدا فلو جازَ أَنْ يُقَال : مَن خَلَقَ الخَالِق لأدَّى إلى ما لا يَتناهَى وهو بَاطِلٌ قَطْعًا .

أمّا أن المخلوقات تنتهي إلى خالقٍ خلق كل شيء ولم يخلقه أحد بل هو الخالق لما سواه فإن هذا هو الموافق للعقل والمنطق وهو الله سبحانه وتعالى .

فالأصل في الخالق الوجودُ إذ لو كان الأصل فيه العدم لَمَا أوجد الكون لأن فاقد الشيء لا يعطيه وإذا كان وجود الله هو الأصل فهذا يستلزم أنه لا يحتاج إلى موجِدٍ يوجده ولا علة لوجوده إذ لا يُبحَث عن علةِ وجودِ ما الأصلُ فيه الوجود!.

ولا يألو الشيطان جهدا في غواية الإنسان وإضلاله فيدخل عليه من كل باب الشهوات والشبهات والوساوس فليس لوسوسته انتهاء بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة نعوذ بالله من ذلك فمن صادف شيئا من ذلك القول والسؤال أو وجد في خاطره شيئا من جنس ذلك الحديث فليقل : آمنت بالله ورسله. أي : آمنت بالذي قاله الله تعالى ورسله عليهم السلام من وصفه تعالى بالتوحيد والقدم وقوله سبحانه وإجماع الرسل هو الصدق والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!.

وإليك بيان ذلك :

1 - قال الله تعالى : ﴿ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾. [الحديد: 3] .

أي: الله هو الأول الذي ليس قبله شيء وهو الآخِرُ الذي ليس بعده شيء وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء وهو الباطن الذي ليس دونه شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء عليمٌ.

2 وقال صلى الله عليه وسلم :  " اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء "رواه مسلم

3  وقال صلى الله عليه وسلم : لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل : آمنت بالله. وفي رواية : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق السماء؟ من خلق الأرض؟ فيقول : الله...، ثم ذكر بمثله وزاد : ورسله. صحيح مسلم

قال الحافظ في الفتح :

 قوله : من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها.

قال الخطابي : 

وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكف عن مطاولته في ذلك اندفع، قال : وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان، قال : والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه الكلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة وأصاب الحجة انقطع .اه

 وإذا وقع الناس في هذا التساؤل الخبيث فالواجب في الإجابة أن يقول المسؤول : 

آمنت بالله ورسله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ولينته عند هذا فإن الله خالق كل شيء هو الخالق العظيم ومن سواه مخلوق فهذا السؤال باطل أملاه الشيطان فيجب على من سئل عن هذا أن يقول : آمنت بالله ورسله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا علم الأمة النبي عليه الصلاة والسلام إذا سئلوا عن مثل هذا السؤال .

 فالله سبحانه وتعالى واجب الوجود أي : وجوده ذاتي لا ينفك عنه فلم يكُنْ في زمن من الأزمان بمفتقرٍ إلى الوجود ولم يكن في زمن من الأزمان معدومًا حتى يحتاج إلى من يخرجه من العدم إلى حَيِّز الوجود سبحانه خالق الزمان والمكان، وعليه فإن الله‏ لا يصدُقُ عليه أنه مخلوق حتى نسأل عن خالقه .

قال العلامة ابن باز رحمه الله :

اعلم وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه أن شياطين والإنس والجن لم يزالوا ولن يزالوا يوردون الكثير من الشبه على أهل الإسلام وغيرهم للتشكيك في الحق، وإخراج المسلم من النور إلى الظلمات، وتثبيت الكافر على عقيدته الباطلة، وما ذاك إلا لما سبق في علم الله وقدره السابق من جعْل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان وصراع بين الحق والباطل؛ حتى يتبين طالب الهدى من غيره، وحتى يتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، كما قال الله سبحانه : الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. [العنكبوت:1]، وقال سبحانه : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ. [محمد:31]، وقال تعالى : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ. [الأنعام:121]، وقال سبحانه : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ . [الأنعام:112-113].

فأوضح سبحانه في الآيات الأولى والثانية والثالثة أنه يبتلي مدعي الإيمان بشيء من الفتن؛ ليتبين صدقه في إيمانه وعدمه، كما أخبر سبحانه أنه فعل ذلك بمن مضى؛ ليعلم سبحانه الصادقين من الكاذبين، وهذه الفتنة تشمل فتنة المال والفقر والمرض والصحة والعدو، وما يلقي الشياطين من الإنس والجن من أنواع الشبه، وغير ذلك من أنواع الفتن، فيتبين بعد ذلك الصادق في إيمانه من الكاذب، ويعلم الله ذلك علمًا ظاهرًا موجودًا في الخارج بعد علمه السابق؛ لأنه سبحانه قد سبق في علمه كل شيء كما قال : لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. [الطلاق:12]، وقال النبي ﷺ : إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء. خرجه مسلم في صحيحه.

ولكنه لا يؤاخذ العباد بمقتضى علمه السابق، وإنما يؤاخذهم ويثيبهم على ما يعلمه منهم بعد عملهم إياه ووجوده منهم في الخارج، وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه وزخرف القول ما يغرونهم به ليجادلوا به أهل الحق، ويشبهوا به على أهل الإيمان، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضوا به، فيصولوا ويجولوا ويلبسوا الحق بالباطل؛ ليشككوا الناس في الحق، ويصدوهم عن الهدى وما الله بغافل عما يعملون.

لكن من رحمته  أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم ويزيح شبهتهم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة، فيقيموا بذلك الحجة ويقطعوا المعذرة، وأنزل كتابه سبحانه تبيانا لكل شيء كما قال : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ. [النحل:89]، وقال سبحانه : وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا. [الفرقان:33] قال بعض السلف : هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض الصحابة قالوا للنبي ﷺ : يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.[أخرجه مسلم]، قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك : إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به؛ لعظم بشاعته ونكارته، حتى أن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به، فاستنكار العبد لهذه الوساوس واستفظاعه إياها ومحاربته لها هو صريح الإيمان؛ لأن إيمانه الصادق بالله  وبكمال أسمائه وصفاته، وأنه لا شبيه له ولا ند له، وأنه الخلاق العليم الحكيم الخبير، يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس ومحاربتها واعتقاد بطلانها.

قال الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح ص 336 من المجلد السادس من فتح الباري طبعة المطبعة السلفية في باب صفة إبليس وجنوده : حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، قال : أخبرني عروة بن الزبير : قال أبو هريرة : قال رسول الله ﷺ : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته.[أخرجه البخاري]، ثم رواه في كتاب الاعتصام ص 264 المجلد الثالث عشر من فتح الباري عن أنس قال : قال رسول الله ﷺ : لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا : هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟. [أخرجه البخاري] انتهى.

وأخرج مسلم في صحيحه اللفظ الأول من حديث أبي هريرة ص 154 من الجزء الثاني من المجلد الأول من شرح مسلم للنووي، وأخرجه مسلم أيضًا بلفظ آخر عن أبي هريرة  قال : قال رسول الله ﷺ: لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد شيئًا فليقل : آمنت بالله ورسله. [أخرجه مسلم]، ثم ساقه بألفاظ أخر ثم رواه من حديث أنس  عن رسول الله ﷺ قال : قال الله  إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا ما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله . [أخرجه مسلم].

خرج مسلم أيضًا رحمه الله عن أبي هريرة  قال : «جاء ناس من أصحاب النبي ﷺ فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال : ذاك صريح الإيمان . [أخرجه مسلم]، ثم رواه من حديث ابن مسعود  قال : «سئل النبي ﷺ عن الوسوسة قال: تلك محض الإيمان. [أخرجه مسلم].

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم لما ذكر هذه الأحاديث ما نصه : (أما معاني الأحاديث وفقهها : فقوله ﷺ : ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك.

واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهي مختصرة من الرواية الأولى، ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى وقيل : معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان أو الوسوسة علامة محض الإيمان، وهذا القول اختيار القاضي عياض.

وأما قوله ﷺ فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله، وفي الرواية الأخرى فليستعذ بالله ولينته فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه.

قال الإمام المازري رحمه الله ظاهر الحديث أنه ﷺ أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال : والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها وعلى هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها، والله أعلم.

وأما قوله ﷺ : فليستعذ بالله ولينته فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها، والله أعلم.

وقال الحافظ في الفتح في الكلام على حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا الجواب ما نصه: قوله : من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها.

قال الخطابي : وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكف عن مطاولته في ذلك اندفع، قال: وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان، قال : والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه الكلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك.

قال الخطابي : 

على أن قوله : من خلق ربك كلام متهافت ينقض آخره أوله لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقًا، ثم لو كان السؤال متجهًا لاستلزم التسلسل وهو محال، وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث. فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات، انتهى.

والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر؛ لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث : لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا فليقل: آمنت بالله فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره. وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال : سألني عنها اثنان، وكان السؤال عن ذلك لما كان واهيا لم يستحق جوابا، أو الكف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات.

قال المازري :

 الخواطر على قسمين :

 فالتي لا تستقر ولا يجلبها شبهة هي التي تندفع بالإعراض عنها، وعلى هذا ينزل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم وسوسة، وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر والاستدلال.

 وقال الطيبي : إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج؛ لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة، ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به، وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء وعما هو مستغن عنه، وفيه علم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (بيان موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول) : ولفظ "التسلسل" يراد به التسلسل في المؤثرات -وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل- وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي ﷺ بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل آمنت بالله ورسله كما في الصحيحين عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله ﷺ : يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته. [أخرجه مسلم]  وفي رواية : لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال : فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب، فقالوا : يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال : فأخذ حصى بكفه فرماهم به، ثم قال : قوموا، قوموا، صدق خليلي، وفي الصحيح أيضًا عن أنس بن مالك عن رسول الله ﷺ قال : قال الله : إن أمتك لا يزالون يسألون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟. [أخرجه مسلم].

 الله سبحانه لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو خالق كل شيء وما سواه مخلوق، وقد أخبرنا في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم بما يجب اعتقاده في حقه سبحانه وبما يعرفنا به ويدلنا عليه من أسمائه وصفاته وآياته المتلوة وآياته المشاهدة من سماء وأرض وجبال وبحار وأنهار وغير ذلك من مخلوقاته ، ومن جملة ذلك نفس الإنسان فإنها من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته وكمال علمه وحكمته؛ كما قال : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ. [آل عمران:190]، وقال تعالى : وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. [الذاريات:20].

أما كنه ذاته وكيفيتها وكيفية صفاته فذلك من علم الغيب الذي لم يطلعنا عليه، فالواجب علينا فيه الإيمان والتسليم وعدم الخوض في ذلك كما وسع ذلك سلفنا الصالح من الصحابة  وأتباعهم بإحسان فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولم يسألوا عنه بل آمنوا بالله سبحانه وبما أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد ﷺ ولم يزيدوا على ذلك مع إيمانهم بأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وعلى من وجد شيئًا من هذه الوساوس أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكارا شديدا، وأن يقول : آمنت بالله ورسله، وأن يستعيذ بالله من نزغات الشيطان، وأن ينتهي عنها ويطرحها؛ كما أمر الرسول ﷺ بذلك في الأحاديث السابقة، وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيمان، وعليه ألا يتمادى على السائلين في هذا الباب؛ لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير، وإلى شكوك لا تنتهي، فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي ﷺ والتمسك به والتعويل عليه وعدم الخوض في ذلك، وهذا هو الموافق لقول الله : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. [الأعراف:200].

فالاستعاذة بالله سبحانه واللجوء إليه وعدم الخوض فيما أحدثه الموسوسون وأرباب الكلام الباطل من الفلاسفة ومن سلك سبيلهم في الخوض في باب أسماء الله وصفاته، وما استأثر الله بعلمه من غير حجة ولا برهان هو سبيل أهل الحق والإيمان، وهو طريق السلامة والنجاة والعافية من مكائد شياطين الإنس والجن.

وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للسلامة من مكائدهم، ولهذا لما سأل بعض الناس أبا هريرة  عن هذه الوسوسة حصبهم بالحصباء ولم يجبهم على سؤالهم، وقال : صدق خليلي.

ومن أهم ما ينبغي للمؤمن في هذا الباب أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وتدبره؛ لأنه فيه من بيان صفات الله وعظمته، وأدلة وجوده وكماله ما يملأ القلوب إيمانا ومحبة وتعظيما واعتقادا جازما بأنه سبحانه هو رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق لكل شيء، والعالم بكل شيء، والقادر على كل شيء، لا إله غيره ولا رب سواه، كما ينبغي للمؤمن أيضًا أن يكثر من سؤال الله المزيد من العلم النافع والبصر النافذ والثبات على الحق والعافية من الزيغ بعد الهدى، فإنه سبحانه قد وجه عباده إلى سؤاله، ورغبهم في ذلك، ووعدهم الإجابة، كما قال : وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. [غافر:60]. والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وأسأل الله أن يوفقنا وإياك وزميلك وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه، وأن يعيذنا جميعًا من مضلات الفتن، ومن مكايد شياطين الإنس والجن ووساوسهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .اه

[مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (28/ 380).].

إذن

* لا ينبغي فهم قوله ﷺ : (فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ) على أنه هروب من السؤال، بل في أمره ﷺ السائلَ بالانتهاء إرشادٌ إلى دليل عقلي برهاني، فهذا سؤال متضمّن لخطإ منطقي وغلطٍ عقلي ظاهر .

كما أنه سؤال فاسد

يقول ابن تيمية عن هذا السؤال : “من المعلوم بالعلم الضروري الفطري لكل مَن سلِمتْ فطرته مِن بني آدم أنه سؤال فاسد، وأنه يمتنع أن يكون لخالقِ كلِّ مخلوقٍ خالقٌ، فإنه لو كان له خالقٌ لكان مخلوقاً. ولم يكن خالقاً لكل مخلوق، بل كان يكون من جملة المخلوقات، والمخلوقات كلها لا بد لها من خالق، وهذا معلوم بالضرورة والفطرة، وإن لم يخطر ببال العبد قطع الدور والتسلسل، فإن وجود المخلوقات كلها بدون خالق معلوم الامتناع بالضرورة”. [درء تعارض العقل والنقل، ت. محمد رشاد سالم، الجزء الثالث، ص: 314.].

فالسؤال غلط من أساسه

 إذ أن السؤال عن خالق الخالق كالسؤال عمن دخل قبل صاحب المركز الأول، فهذا مما لا يُمكن عقلا، لأنه بمثابة القول “هل تستطيع إعدام المعدوم؟” فهذا سؤال مكون من كلمات عادية، لكن محتواه مستحيل عقلا، ولهذا إذا أجزْتَ في حق الخالق ضرورة وجود خالقٍ له، فقد جعلته مخلوقا ولزمك التسلسل بحثا عن الخالق غير المخلوق.
والتسلسل الممتنع هو عبارة عن اجتماع سلسلة من العلل والمعلولات الممكنة بصورة غير متناهية، بحيث يُقال أن وجود الشيء 1 متوقف على الشيء 2، وأن وجود 2 متوقف على 3، وأن وجود 3 متوقف على 4…. إلى ما لا نهاية، فإذا لم يكن هناك شيء غير متوقف في وجوده على شيء آخر بعده هل سيكون للشيء 1 وجود؟!! طبعا لا قطعا، وبالتالي فالعقل يرفض تسلسل العلل إلى ما لا نهاية، وهذا من الضروريات العقلية التي تقوم عليها المعرفة. يقول ابن تيمية رحمه الله: “لفظ التسلسل يراد به التسلسل في المؤثرات، وهو أن يكون للحادث فاعل، وللفاعل فاعل، وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء، وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي ﷺ بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه” . [ درء تعارض العقل والنقل، ت. محمد رشاد سالم،الجزء الأول، ص: 363].

غلط قول بأن لكل موجود موجِدا 

 ومما يُبنى عليه هذا السؤال القول بأن لكل موجود موجِدا، وهذا غلط، إذ أن الصواب هو “لا بد لكل حادث من مُحدِثٍ” أي كل شيء أصبح موجودا بعد أن لم يكُن لا بد له عقلا مِن أحدٍ أوجدَه، وعليه فالإله كما سبق وأشرنا واجبُ الوجود، فهو بهذا غير حادث، وبالتالي لا تشمله القاعدة الوجودية .

وهنا تجدر الإشارة إلى أمر مهم جدا، وهو أن الحاجة إلى علة الوجود مُقترنة بإثبات الحدوث، أي أن الشيء الحادث لا بد له عقلا من مُحدث، وبما أن الكون بما فيه ثبت عقليا وعلميا حدوثُه بعد عدمه- كما سيأتي-، اقتضى ذلك لزوم وجود من أوجده، أما الإله فيلزم من طرح السؤال عَمَّنْ خلَقَه إثباتُ حدوثه، وهذا محال  فالله سبحانه لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهو خالق كل شيء وما سواه مخلوق .


والله اعلم


وللفائدة..


هل اعجبك الموضوع :
author-img
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تعليقات