الغِيبة محرَّمة بالإجماع ولا يُستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح والتعديل والنصيحة فالغِيبة هي الصاعقة المهلكة للطاعات ومثل من يغتاب كمن ينصب منجنيقًا فهو يرمي به حسناته شرقًا وغربًا ويمينًا وشمالًا . وقد قيل للحسن : اغتابك فلان فبعث إليه بطبق فيه رطب وقال : أهديت إليَّ بعض حسناتك فأحببت مكافأتك .
ومن ذلك :
- عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت للنَّبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفيَّة كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم : لقد قلتِ كلمةً لو مزجت بماء البحر لمزجته . (((صحيح سنن أبي داود)) (4875)) .
قال المناوي رحمه الله :
قال النووي : هذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغِيبة أو أعظمها وما أعلم شيئًا من الأحاديث بلغ في ذمها هذا المبلغ . انتهى من (((فيض القدير)) (2/411)) .
فإذا كانت هذه الكلمة بهذه المثابة في مزج البحر الذي هو من أعظم المخلوقات فما بالك بغيبة أقوى منها فلا يجوز للمسلم أن يذكر أخاه المسلم بما يكره إلا أن هذا الحكم العام تستثنى منه صور تباح فيها الغيبة .
قال النووي رحمه الله :
لكن تباح الغيبة لغرض شرعي وذلك لستة أسباب :
الأول :
التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه فيقول : ظلمني فلان بكذا.
قال الشوكانى رحمه الله :
في رفع الريبة فيما يجوز وما لا يجوز من الغيبة ( قد دل على جواز هذه الصورة قوله الله - عز وجل - ﴿ لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول إلا من ظُلم﴾ النساء 148. فهذا الاستثناء قد أفاد جوازَ ذكر المظلوم للظالم بما يبينُ للناس وقوع الظلم له ورفع صوته بذلك والجهر به في المواطن التي يجتمع الناس بها ، أما إذا كان يرجو منهم نُصرته ودفع ظلامته كمن له منهم قدرة على ذلك فالأمر ظاهر .
ثم قال رحمه الله :
فأدلة تحريم الغيبة تمنع ذكر المظلوم للظالم في غيبته والآية قاضية بالجواز ، ولا يخفاك أن أدلة تحريم الغيبة أقوى لدلالة الكتاب والسنة والإجماع ، وآية جواز ذكر المظلوم للظالم ظنّيةُ الدلالة، وقد عارضها ما هو مثلها من القرآن وانضم إلى ذلك السنة والإجماع.
فتصيرُ دلالة آية جواز ذكر المظلوم للظالم على ذكره بالسوء في وجهه ولا يجوز له ذكره في غيبته ترجيحا للدليل القوي فلا تكون هذه الصورة التي جعلها النووي عنوانا للصورة المستثناة صحيحة لعدم قيام مخصصٍ صحيحٍ صالحٍ للتخصيص يخرجها من العموم . انتهى من (الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية)
الثاني :
الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر فإن لم يقصد ذلك كان حراما .
قال الشوكاني رحمه الله :
اعلم أن هذا الذي رأى منكرا، إن كان قادرا على تغييره بنفسه أو بالاستنصار به بأن يقول لجماعة المسلمين في المكان الفلاني من يرتكب المنكر فهلموا إلىَّ وقوموا معي حتى ننكره ونغيره ، فليس به حاجة إلى الغيبة وإلى تعيين فاعل المنكر وبيان اسمه . انتهى من (الرسائل السلفية في إحياء سنة خير البرية)
الثالث :
الاستفتاء فيقول للمفتي : ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك ؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم ؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة؛ ولكن الأحوط والأفضل أن يقول : ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا ؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز فدليله حديث هند وقولها للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أبا سفيان رجل شحيح .
الرابع :
تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من وجوه منها :
1- جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة .
2- المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة .
3- إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
4- أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها إما بأن لا يكون صالحا لها، وإما بأن يكون فاسقا أو مغفلا ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به .
الخامس :
أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وأخذ المكس وجباية الأموال ظلما وتولي الأمور الباطلة فيجوز ذكره بما يجاهر به ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه .
ودليل جواز غيبته :
- قوله صلى الله عليه وسلم : ما أظن فلانا وفلانا يعرفان من ديننا شيئا . رواه البخاري.
- وقوله صلى الله عليه وسلم في المرأة التي كانت تظهر السوء في الإسلام : لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت هذه .
السادس :
التعريف فإذا كان الإنسان معروفا بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى .
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة . انتهى من (شرح مسلم (ج16ص142))
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
القدح ليس بغيبة في ستة : متظلِّمٍ ، ومعرِّفٍ ، ومحذِّر ؛ عندك هون صفتان : " معرِّف " و " محذِّر " ،
وقد جاء في السنة شواهد لهذه الخصال السِّتِّ ، ويهمنا منها الآن حديث هند التي جاءت تشكو زوجَها إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لتقول : إن زوجي رجلٌ شحيحٌ ؛ فانتبه لقولها شحيح فإنه غيبة ؛ لأنها تذكر بما يكره زوجها ، ولكن شفَّع لها أن تذكر ذلك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو بدوره سكت عنها ؛ لأنها لم تقصد بهذه الغيبة أمرًا نفسيًّا ، وإنما حكمًا شرعيًّا ؛ لأنها قالت : رجل شحيح ؛ أفآخذ من ماله ما يكفيني أنا وأولادي ؟ فقال لها - عليه الصلاة والسلام - : ( خُذي ما يكفيك أنت وولدك من ماله بالمعروف ) ، بالمعروف ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرَّها على هذا الوصف الذي هو غيبة ، والأصل فيها التحريم ، ولكن لما كان القصد من هذه الغيبة الوصول إلى حكم شرعي سكت الرسول - عليه السلام - عنها ، ومن هنا جاء في البيتين السابقين استثناء من القدح المعرِّف .
من هذا القبيل - أيضًا - أن امرأةً أخرى جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن أبا جهم - بالميم وليس باللام - إن أبا جهم ومعاوية خطباني ؛ كأنها تقول له : فبِمَ تنصحني يا رسول الله ؟ هو لم يقل لها : خذي هذا أو هذا ، ولا قال لها : لا تتزوجي لا هذا ولا هذا ، وإنما عرَّفها بعيب كلٍّ منهما ؛ فقال : ( أما أبو جهم فرجلٌ لا يضع العصا عن عاتقه ) .
فاختلف العلماء في تفسير هذه الجملة على قولين اثنين ؛ أحدهما أنه كثير الأسفار ؛ لأنَّ من عادة العرب أنهم يضعون العصا على الكتف ، ويعلِّقون عليها الزاد والشراب ؛ فهو كناية عن أنه كثير الأسفار ، وهذا بلا شك أمر ليس مرغوبًا عند النساء ، يكون الرجل غائبًا كثيرًا عن بيته عن أهله ؛ فلذلك ذكر لها هذا العيب ؛ ( أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه ) ، هذا القول الأول الذي فُسِّرت فيه هذه الجملة .
والقول الآخر - وهو المعتمد - : أنَّه كناية عن أنه ضرَّاب للنساء ؛ كثير الضرب ؛ فهو لأتفَهِ الأسباب يقوم على الزوجة ويضربها ، وقد جاء في بعض الأحاديث : ( أولئك شراركم ) ؛ أي : الذين يضربون النساء لأتفه الأسباب هم شرار الناس ، والشاهد سواء كان المعنى هو هذا الثاني الراجح لديَّ أو كان المعنى الأول ؛ فقوله - عليه السلام - : ( رجلٌ لا يضع العصا عن عاتقه ) داخلٌ في معنى الغيبة ؛ لأن هذا مما يكرهه الخاطب ، وعندنا في بلاد الشام يقولون : أنُّو لا تقول يا فلان فلان صفته كذا وكذا وتقطع رزقته ؛ هكذا يقولون ، لكن هذا جهل !
ثم قال - عليه الصلاة والسلام - : ( وأما معاوية ؛ فرجلٌ صعلوكٌ ؛ فهو رجل فقير لا مالَ له ) ، وكلٌّ من الصِّفتين مما لا ترغب فيهما النساء ، فإذًا لمَّا استفتي - عليه الصلاة والسلام - من هذه المرأة عن هذَين الرجلَين فذكر لها عيبَ كلٍّ منهما لها ، فهذه - وإن كانت غيبة - فإنها من باب ( الدين النصيحة ) ،
ومن هنا يكون من الورع البارد أن يقول الإنسان : لا ، أنا ما أذكر فلان بعيبه ؛ لأنه هذا غيبة ، وربما نقطع برزقته - كما يقولون هناك ! - ، لا ، الشرع يقول : ( الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة ) . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامَّتهم ) ؛
فمن النصيحة لعامَّة المسلمين أنه إذا جاء إنسان يسألك عن شخصٍ يريد أن يشارك فلانًا إيش رأيك فيه ؟ وأنت تعرف عنه كل شيء ؛ فلا يجوز أن تكتمَ بزعم إن هذه غيبة بل عليك أن تبيِّن حتى تنصح . انتهى من (فتاوى جدة - شريط : 30 توقيت الفهرسة : (00:13:09 ))
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
ذكر العلماءُ ستة أشياء تجوز فيها الغيبة :
إذا أظهر الفسق .
وهكذا في الاستفتاء .
وهكذا في التَّظلم .
وهكذا في جرح الشهود، وجرح الرواة كل هذه أمور لا بأس فيها .
وهكذا في المُناصحة؛ أن يستنصحك ويستشيرك .
فهذه الأمور الستة ليس فيها غيبة : عند جرح الشهود، عند جرح الرواة، عند المُستفتي الذي يستفتيك عن كذا وكذا : تستفتيه امرأةٌ أن تأخذ من مال زوجها؛ لأنه بخيلٌ ما يُعطيها حقوقها، يستفتيك في إنسانٍ ظلمه : هل يُخاصمه؟ هل يأخذ من ماله مقابل حقِّه؟ وما أشبه ذلك .
فالإنسان إذا أظهر الفسق لا غيبةَ له : إذا أظهر حلق اللحية، وقال إنسانٌ : هذا فلان محلوق اللحية، ما هي بغيبة، وإذا كان يُسبل ثيابه وقال بعضُ الناس فيه : إنه مُسْبِلٌ، ما هي بغيبةٍ؛ لأنه أظهرها، هو الذي أظهر المعصية، هو الذي فضح نفسه، فلا يُسمَّى : مُغتابًا -نسأل الله السلامة . انتهى من (فتاوى الدروس)
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة :
: " وتجوز الغيبة في مواضع معدودة دلت عليها الأدلة الشرعية إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، كأن يستشيرك أحد في تزويجه أو مشاركته أو يشتكيه أحد إلى السلطان لكف ظلمه والأخذ على يده - فلا بأس بذكره حينئذ بما يكره ؛ لأجل المصلحة الراجحة في ذلك ، وقد جمع بعضهم المواضع التي تجوز فيها الغيبة في بيتين ، فقال :
الذم ليس بغيبة في ستة
متظلم ومعرف ومحذر
ولمظهر فسقًا ومستفتٍ
ومن طلب الإعانة في إزالة منكر . انتهى
من ("فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء" (26/20) )
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق