الغيبة ذكرك الإنسان بما يكره سواء ذكرته بلفظك أو في كتابك أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعينك أو يدك أو رأسك فكلّ ما أفهمت به غيرك نقصان مسلم فهو غيبة محرّمة .
اعلم أخى المسلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول فكما يحرُم عليك أن تُحَدِّث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تُحَدِّث نفسك وتسيء الظن بأخيك .
فأما الخواطر وحديث النفس فهي معفوٌّ عنها، بل الشك أيضًا معفو عنه ولكن المنهي عنه أن يظن والظن عبارة عما تركنُ إليه النفس ويميل إليه القلب، فقد قال الله : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾. [الحجرات: 12].
قال ابن الجوزى رحمه الله :
وكم من ساكت عن غيبة المسلمين إذا اغتيبوا عنده فرح قلبه وهو آثم من ذلك بثلاثة وجوه :
أحدها : الفرح فإنه يحصل بوجود هذه المعصية من المغتاب.
والثاني : لسروره بثلب المسلمين.
والثالث : أنه لا ينكره . اهـ (تلبيس إبليس لابن الجوزى)
قال النووي رحمه الله :
ومن ذلك : المحاكاة بأن يمشي متعارجاً أو مُطَأْطِئاً أو على غير ذلك من الهيئات مريداً حكاية هيئة من يَتَنَقَّصُهُ بذلك فكلُّ ذلك حرام بلا خلاف .
ومن ذلك أيضا : غيبة المتفقهين والمتعبدين فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضاً يفهم به كما يفهم بالصريح فيُقال لأحدهم : كيف حال فلان؟ فيقول : اللّه يُصلحنا، اللّه يغفر لنا، اللّه يُصلحه، نسأل اللّه العافية، نحمدُ اللّه الذي لم يبتلنا بالدخول على الظلمة، نعوذ بالله من الشرّ، الله يُعافينا من قلّة الحياء، الله يتوبُ علينا.. وما أشبه ذلك مما يُفهم منه تنقُّصه، فكل ذلك غيبة محرّمة. ( انظر- الأذكار النووية)
المستمع إلى الغِيبة
المستمع للغيبة شريك للقائل بها ولا يتخلص من إثم سماعها إلا أن ينكر بلسانه فإن خاف فبقلبه وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك .
قال الإمام النووي رحمه الله :
اعلم : أن الغِيبة - كما يَحرُم على المغتاب ذِكرُها - يحرُم على السامع استماعُها و إقرارها، فيجب على مَن سمع إنسانًا يبتدئ بغيبة محرَّمة أن ينهاه إن لم يخف ضررًا ظاهرًا، فإن خافه وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس إن تمكَّن من مفارقته، فإن قدر على الإنكار بلسانه، أو على قطع الغِيبة بكلام آخر، لزمه ذلك، فإن لم يفعل عصى، فإن قال بلسانه : اسكت، وهو يشتهي بقلبه استمراره،
فقال أبو حامد الغزالي : ذلك نفاق لا يخرجه عن الإثم، ولا بد من كراهته بقلبه، ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغِيبة، وعجز عن الإنكار، أو أنكر فلم يقبل منه، ولم يمكنه المفارقة بطَريقٍ، حَرُمَ عليه الاستماع والإصغاء للغيبة،
بل طريقه أن يذكر الله بلسانه وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع من غير استماع وإصغاء في هذه الحالة المذكورة، فإن تمكَّن بعد ذلك من المفارقة وهم مستمرون في الغِيبة ونحوها، وجب عليه المفارقة؛ قال تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ). [الأنعام: 68] . اهـ "الأذكار" (ص: 291)
وقال المناوي رحمه الله :
والمستمع لا يخرج من إثم الغِيبة إلا بأن ينكر بلسانه، فإن خاف فبقلبه، فإن قدر على القيام أو قطع الكلام لزمه، وإن قال بلسانه : اسكت، وهو مشتهٍ ذلك بقلبه، فذلك نفاق،
قال الغزالي رحمه الله : ولا يكفي أن يشير باليد أن اسكت، أو بحاجبه أو رأسه... وغير ذلك، بل ينبغي الذبُّ عنه صريحًا كما دلَّت عليه الأخبار . اهـ ("فيض القدير" (6/ 127))
وقال ابن تيمية رحمه الله :
فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون أو فيه بعض ما يقولون ; لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم .
ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب ; وإنما أخبركم بأحواله . ويقول : والله إنه مسكين أو رجل جيد ; ولكن فيه كيت وكيت . وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله ; وإنما قصده استنقاصه وهضم لجانبه . ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا ; وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه .
ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه فيقول : لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان ; لما بلغني عنه كيت وكيت ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده . أو يقول : فلان بليد الذهن قليل الفهم ; وقصده مدح نفسه وإثبات معرفته وأنه أفضل منه .
ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين : الغيبة والحسد . وإذا أثنى على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه .
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به .
ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب فيقول تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت وكيف فعل كيت وكيت فيخرج اسمه في معرض تعجبه .
ومنهم من يخرج الاغتمام فيقول مسكين فلان غمني ما جرى له وما تم له فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به ولو قدر لزاد على ما به وربما يذكره عند أعدائه ليشتفوا به . وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه .
ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر . والله المستعان . اه [ مجموع فتاوى ابن تيمية ( ٢٨/ ٢٣٧-٢٣٨)]
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق