اختلف العلماء في تحديد سنة وشهر وليلة الإسراء على أقوال كثيرة،
والصحيح أنه لا دليل صحيحاً على التحديد وليس فيها قول مسند إلى خبر صحابي يطمئن له البال .
* وكان الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمعراج من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهى ثم إلى حيث شاء الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى في ذكر الإسراء:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ. [الإسراء:1].
* فحادثة الإسراء والمعراج لم تقع أصلاً في شهر رجب وما يذكرونه من أن الحادثة كانت في رجب يُعتبر عند أهل التحقيق هو عينُ الكذب .
* كما أن الذي عليه أئمة النقل : أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة وقيل : بسنة وشهرين. ذكره ابن عبد البر. يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (1/ 272).
إليك كلام أهل العلم فى ذلك
قال الحافظ ابن دحية الكلبي رحمه الله :
ذكر بعض القُصّاص أن الإسراء كان في رجب ، وذلك عند أهل التعديل والجرح عينُ الكذب ، قال الإمام أبو إسحاق الحربي :
أُسري برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الأول ،
وقد ذكرنا ما فيه من الإختلاف والإحتجاج في كتابنا المسمى : بالإبتهاج في أحاديث المعراج . اهـ ("أداء ما وجب من بيان وضع الوضاعين في رجب" (ص 53-54) ).
قال العلامة الألباني رحمه الله :
وقد ذكر الأقوال المشار إليها السيوطي في الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء ص 34 ، والعلامة الآلوسي في تفسيره روح المعاني (4/469) فبلغت خمسة أقوال!
وليس فيها قول مسند إلى خبر صحابي يطمئن له البال ، ولذلك تناقض فيها أقوال العالم الواحد !.
فهذا هو النووي رحمه الله تعالى ، له في ذلك ثلاثة أقوال حكوها عنه ، أحدها مثل قول الحربي الذي في الكتاب ، وقد جزم به النووي في الفتاوى له ص 15 ! .
وفي ذلك ما يُشعر اللبيب أن السلف ما كانوا يحتفلون بهذه الليلة ، ولا كانوا يتخذونها عيداً ، لا في رجب ولا في غيره ،
ولو أنهم احتفلوا بها ، كما يفعل الخلف اليوم ، لتواتر ذلك عنهم ، ولتعيّنت الليلة عند الخلف ، ولم يختلفوا هذا الإختلاف العجيب !. اهـ (تخريج كتاب "أداء ما وجب" (ص 54)) .
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
ثم إننا نقول أيضاً : إن ليلة المعراج لم يثبت من حيث التاريخ في أي ليلة هي، بل إن أقرب الأقوال في ذلك على ما في هذا من النظر أنها في ربيع الأول وليست في رجب كما هو مشهور عند الناس اليوم،
فإذن لم تصح ليلة المعراج التي يزعمها الناس أنها ليلة المعراج وهي ليلة السابع والعشرين من رجب، لم تصح تاريخياً كما أنها لم تصح شرعاً،
والمؤمن ينبغي أن يبني أموره على الحقائق دون الأوهام. اه (فتاوى نور على الدرب>الشريط رقم [35])
** الإسراء كان بالجسد والروح يقظةً لا مناماً
ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة، قوله تعالى : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى. [الإسراء:1].
والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح.
فيكون الإسراء بهذا المجموع ولا يمتنع ذلك عقلاً ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر .
قال الإمام الطبري في تفسيره :
الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال : إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أن الله حمله على البراق، حتى أتاه به، وصلى هناك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات .
ولا معنى لقول من قال : أسري بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته، ولا حجة له على رسالته،
ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه،
إذ لم يكن منكراً عندهم ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل .
وبعد فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا بأنه أسري بروح عبده، وليس جائزاً لأحد أن يتعدى ما قاله الله إلى غيره.
بل الأدلة الواضحة، والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به على دابة يقال لها البراق،
ولو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجساد . انتهى.
** فإن قيل : فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟
فالجواب :
أن ذلك كان إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه،
ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن اطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس، فأخبرهم بنعته.
وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى : من وجوه، لمن تدبره، وبالله التوفيق . انتهى من ((شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي-)(1/270)).
** إليك بعض النقاط الهامة
1- إن أحاديث الإسراء والمعراج ثابتة وصحيحة ومتواترة، ولا تناقض بينها، فقد وردت بروايات متعددة في صحيحي البخاري ومسلم،
وقد ذكر الكتاني في نظم المتناثر أن أحاديث الإسراء والمعراج رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خمسة وأربعين صحابيا،
وعلى هذا فلا يمكن القدح أو التشكيك في نسبتها إليه صلى الله عليه وسلم .
2- إن حادثة الإسراء والمعراج قد حدثت مرة واحدة بعد البعثة يقظة بالروح والجسد،
وليس هناك دليل صحيح على أنها حدثت بالروح فقط، كما لا يوجد دليل على كونها حدثت مناما،
فكون الملك جاءه وهو نائم لا يعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمر في نومه أثناء الرحلة .
3- ليس هناك اضطراب في الروايات المخبرة بحادثة شق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا مانع من أن يحدث الشق أكثر من مرة،
فقد حدث مرة في طفولته - صلى الله عليه وسلم - تمهيدا للرسالة، ومرة عند البعثة، ومرة ثالثة تمهيدا للقائه بربه في رحلة الإسراء .
4- لا اضطراب بين الروايات في تحديد المكان الذي بدأت منه الرحلة، فهو - صلى الله عليه وسلم -
نام في بيت أم هانئ وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه -
فنزل منه الملك، فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعا وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق .
5- إن الاضطراب المزعوم حول أمكنة الأنبياء في السماوات غير مسلم به - أيضا، فعند من يرى تعدد المعراج فلا إشكال ألبتة،
وأما مع الاتحاد فقد جمع الحفاظ بين هذه الروايات أو رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم في الأرض .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض،
وأجيب : بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة تشريفا له وتكريما،
ويؤيده حديث عبد الرحمن بن هاشم عن أنس، ففيه : « وبعث له آدم، فمن دونه من الأنبياء » فافهم ". [فتح الباري بشرح صحيح البخاري].
6- لا اختلاف في آخر ما وصل إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أجمعت الروايات على أن سدرة المنتهى هي آخر ما وصل إليه النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا مشكلة في الألفاظ المختلفة ما دامت تعبر عن معنى واحد مفهوم من الحديث،
كما أنه لا اختلاف في موضعها؛ لأن العلماء وجهوا ذلك على أن أغصانها في السماء السادسة وفروعها في السابعة، وعلى ذلك فلا اختلاف ولا تعارض .
7- لا اضطراب بين قوله - سبحانه وتعالى - في الحديث : « لا يبدل القول لدي » وبين مراجعة موسى - عليه السلام - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يرجع إلى ربه لطلب التخفيف،
ودليل عدم التعارض هو قوله - صلى الله عليه وسلم - لموسى - عليه السلام - عند آخر مرة يراجعه فيها : « استحييت من ربي »،
فقوله : «استحييت» دل على علمه - صلى الله عليه وسلم - بأن طلب التخفيف بعد ذلك يعتبر رفعا للصلاة لا تخفيفا لها،
فالله - سبحانه وتعالى - لم يبدل قوله، بمعنى أن لم يرفع الصلاة بعد أن فرضها .
8- ليس هناك أي تناقض بين القرآن الكريم وبين روايات الإسراء والمعراج، وما قيل من أن القرآن لم يذكر المعراج - غير صحيح؛
لأن سورة النجم صريحة وواضحة في ذكر المعراج، ولا سيما في قول تعالى : ) ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى (14)( (النجم).
9- كما أن أحاديث الإسراء والمعراج لا تنسب صفة جهل إلى الله - عز وجل - ولا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأحوال المكلفين -
كما فهم بعضهم من مراجعة موسى - عليه السلام - لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وإعطائه النصح بطلب التخفيف من الله - سبحانه وتعالى؛
وذلك لأن الله يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أن محمدا سيطلب التخفيف، وكانت الحكمة من ذلك هي إظهار رحمة الله بالأمة،
وبيان حبه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلو منزلته عنده، وغير ذلك من الحكم والفوائد.
10- كذلك فإن أحاديث الإسراء والمعراج لا تظهر مكانة موسى - عليه السلام - بقدر ما تظهر مكانة محمد - صلى الله عليه وسلم - وفضله وإمامته للأنبياء، وعلو منزلته عند ربه .
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق