اتَّفق المسلمون على أنَّ التوجُّهَ نحو البيت شرطٌ من شروط صِحَّة الصلاة لقوله تعالى : وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . (سورة البقرة) فمن صلى إلى غير القبلة ناسياً أو تفريطاً منه فإنه يعيد الصلاة لإخلاله بشرط من شروط الصلاة .
والدليل :
عن أبي هريرة رضي الله عنه : ( أن رجلا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فصلى ثم جاء فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل، فرجع فصلى، ثم جاء فسلم، فقال: وعليك السلام، ارجع فصل؛ فإنك لم تصل، فقال في الثانية، أو في التي بعدها: علمني يا رسول الله، فقال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر... ) . رواه البخارى
قال ابنُ عبد البَرِّ رحمه الله :
أجمع العلماء أنَّ القبلة التي أَمر الله نبيَّه وعبادَه بالتوجُّه نحوها في صلاتهم هي الكعبةُ البيت الحرام بمكَّة، وأنَّه فرضٌ على كلِّ مَن شاهدها وعاينها استقبالُها، وأنه إنْ ترك استقبالها وهو معاينٌ لها أو عالم بجهتها فلا صلاةَ له، وعليه إعادة كلِّ ما صلَّى كذلك . اه ((التمهيد)) (17/54).
سئل العلامة العثيمين رحمه الله :
إذا صلت جماعة إلى غير القبلة فما الحكم في تلك الصلاة؟
فأجاب :
هذه المسألة لا تخلو من حالين :
الحال الأولى :
أن يكونوا في موضع لا يمكنهم العلم بالقبلة مثل أن يكونوا في سفر وتكون السماء مغيمة ولم يهتدوا إلى جهة القبلة فإنهم إذا صلوا بالتحري ثم تبين أنهم على خلاف القبلة فلا شيء عليهم لأنهم اتقوا الله ما استطاعوا، وقد قال تعالى : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }. [سورة التغابن: الآية 16]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". وقال الله تعالى في خصوص هذه المسألة : { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }. [سورة البقرة: الآية 115] .
الحال الثانية :
أن يكونوا في موضع يمكنهم فيه السؤال عن القبلة ولكنهم فرطوا وأهملوا ففي هذه الحال يلزمهم قضاء الصلاة التي صلوها إلى غير القبلة سواء علموا بخطئهم قبل خروج وقت الصلاة أم بعده لأنهم في هذه الحال مخطئون خاطئون مخطئون في شأن القبلة لأنهم لم يتعمدوا الانحراف عنها لكنهم خاطئون في تهاونهم وإهمالهم السؤال عنها.
إلا أنه ينبغي أن نعلم أن الانحراف اليسير عن جهة القبلة لا يضر كما لو انحرف إلى جهة اليمين أو إلى جهة الشمال يسيراً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في أهل المدينة : " ما بين المشرق والمغرب قبلة ". (أخرجه الترمذي: كتاب الصلاة / باب ما جاء أن ما بين المشرق والمغرب قبله، وابن ماجة ( 1011 )، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي " المستدرك " 14/225).
فالذين يكونون شمالاً عن الكعبة نقول لهم ما بين المشرق والمغرب قبلة وكذلك من يكونون جنوباً عنها، ومن كانوا شرقاً عنها، أو غرباً نقول لهم : ما بين الشمال والجنوب قبلة، فالانحراف اليسير لا يؤثر ولا يضر.
وهاهنا مسألة أحب أن أنبه عليها وهي : أن من كان في المسجد الحرام يشاهد الكعبة فإنه يجب أن يتجه إلى عين الكعبة لا إلى جهتها، لأنه إذا انحرف عن عين الكعبة لم يكن متجهاً إلى القبلة، وأرى كثيراً من الناس في المسجد الحرام لا يتجهون إلى عين الكعبة تجد الصف مستطيلاً طويلاً، وتعلم علم اليقين أن كثيراً منهم لم يكن متجهاً إلى عين الكعبة،وهذا خطأ عظيم يجب على المسلمين أن ينتبهوا له، وأن يتلافوه لأنهم إذا صلوا على هذه الحال صلوا إلى غير القبلة. انتهى "مجموع الفتاوى - باب استقبال القبلة".
أما من أخطأ
في استقبال القبلة في الحضر وجبت عليه الإعادة مطلقا سواء كان عمل بقول مخبر أو بدليل أو باجتهاد .
وإن كان صلى عدة صلوات لغير القبلة فالواجب عليه الآن أن يحصي كل ما مرَّ عليه من صلوات ويعيدها وإذا كان لا يدري كم عدد الصلوات وإذا كان لا يدري كم عدد الصلوات التي فاتته فإنه يتحرى ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
قال الإمام ابن باز رحمه الله :
إذا اجتهد المؤمن في تحري القبلة حال كونه في الصحراء أو في البلاد التي تشتبه فيها القبلة ثم صلى باجتهاده وبعد ذلك ظهر أنه صلى إلى غير القبلة فإنه يعمل باجتهاده الأخير إذا ظهر له أنه أصح من اجتهاده الأول، وصلاته الأولى صحيحة؛ لأنه أداها عن اجتهاد وتحر للحق وقد ثبت عن النبي ﷺ وعن أصحابه حين تحولت القبلة من جهة بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ما يدل على ذلك
أما إن كان في الحضر فعليه القضاء لأن في إمكانه سؤال من حولهم عن جهة القبلة . انتهى
قال ابن قدامة في المغني :
أما البصير إذا صلى إلى غير الكعبة في الحضر، ثم بان له الخطأ، فعليه الإعادة، سواء إذا صلى بدليل أو غيره; لأن الحضر ليس بمحل الاجتهاد؛ لأن من فيه يقدر على المحاريب والقبل المنصوبة، ويجد من يخبره عن يقين غالبا، فلا يكون له الاجتهاد، كالقادر على النص في سائر الأحكام .
فإن صلى من غير دليل فأخطأ، لزمته الإعادة ; لتفريطه. وإن أخبره مخبر، فأخطأه، فقد غره، وتبين أن خبره ليس بدليل . انتهى.
وأما الإنحراف اليسير عن القبلة
الواجب على من كان بعيدا عن الكعبة أن يتجه إلى جهتها ولا يشترط في حقه أن يكون اتجاهه إلى عين الكعبة .
فالانحراف عن القبلة إن كان يسيرا فإن هذا لا يضر ولا تبطل به الصلاة ولا يسلب اسم الاستقبال عن البعيد عن الكعبة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ ). صحيح النسائي أى : في السَّعَةِ والبُعْدِ
قال ابن عبد البر رحمه الله :
« قال أشهب :
سئل مالك عمن صلى إلى غير قبلة، فقال : إن كان انحرف انحرافا يسيرا فلا أرى عليه إعادة وإن كان انحرف انحرافا شديدا فأرى عليه الإعادة ما كان في الوقت). ((التمهيد)) (17/56).
وقال ابن تيمية رحمه الله :
«بل لو كان منحرفا انحرافا يسيرا لم يقدح ذلك في الاستقبال والاسم إن كان له حد في الشرع رجع إليه، وإلا رجع إلى حده في اللغة والعرف، والاستقبال هنا دل عليه الشرع واللغة والعرف .
وأما الشارع، فقال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة»، ومعلوم أن من كان بالمدينة والشام ونحوهما إذا جعل المشرق عن يساره والمغرب عن يمينه فهو مستقبل للكعبة ببدنه؛ بحيث يمكن أن يخرج من وجهه خط مستقيم إلى الكعبة ومن صدره وبطنه؛ لكن قد لا يكون ذلك الخط من وسط وجهه وصدره؛ فعلم أن الاستقبال بالوجه أعم من أن يختص بوسطه فقط، والله أعلم . ((مجموع الفتاوى)) (22/216).
قال الشيخ العثيمين رحمه الله :
الانحراف اليسير عن جهة القبلة لا يضر، كما لو انحرف إلى جهة اليمين أو إلى جهة الشمال يسيرا. ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (12/415).
من تغير اجتهاده
في تحديد القبلة أثناء الصلاة فإنه ينحرف إلى الجهة الثانية ويتم صلاته لأنه يجب العمل بالاجتهاد فيما يستقبل أما ما مضى بالاجتهاد فإنه لا ينقض باجتهاد مثله.
ففي المبسوط للسرخسي :
فأما إذا كان مصليا إلى الجهة التي أدى إليها اجتهاده فتبين أنه أخطأ فعليه أن يتحول إلى جهة الكعبة ويبني على صلاته لأنه لو تبين له بعد الفراغ لم يلزمه الإعادة فكذلك إذا تبين له في خلال الصلاة. انتهى .
وقال ابن عبد البر رحمه الله :
في حديث هذا الباب دليل على أن من صلى إلى القبلة عند نفسه باجتهاده، ثم بان له وهو في الصلاة أنه استدبر القبلة، أو شرق أو غرب، أنه ينحرف ويبني . ((التمهيد)) (17/54، 55).
من شك في اجتهاده
في تحديد القبلة أثناء الصلاة إذا دخل في الصلاة باجتهاد ثم شك فيه ولم يترجح له شيء من الجهات أتم صلاته إلى جهته ولا إعادة عليه لأن الشك الطارئ لا يساوي غلبة الظن التي دخل بها في الصلاة.
* من صلى في غير مكة إلى غير القبلة مجتهدا ولم يعلم إلا بعد أن سلم أجزأته صلاته لأنه صلى إلى غير الكعبة للعذر فلم تجب عليه الإعادة كالخائف يصلي إلى غيرها.
قال الجصَّاص رحمه الله :
وقال أصحابنا جميعًا، والثوريُّ : إنْ وجَدَ مَن يسأله فعرَّفه جهة القبلة فلم يفعل لم تجز صلاته، وإن لم يَجِد مَن يُعرفه جهتَها فصلَّاها باجتهاده أجزأتْه صلاتُه، سواء صلَّاها مستدبرَ القبلة أو مشرِّقًا أو مغرِّبًا عنها، ورُوي نحو قولنا عن مجاهد، وسعيد بن المسيَّب، وإبراهيم، وعطاء، والشعبيِّ . ((أحكام القرآن)) (1/77).
* من صلى إلى جهة غير القبلة من غير اجتهاد فلا تجزئ صلاته وعليه إعادتها .
قال ابنُ عبد البَرِّ رحمه الله :
وأجمَعوا على أنَّه مَن صلَّى إلى غير القِبلة من غير اجتهادٍ حمَلَه على ذلك، أنَّ صلاته غيرُ مجزئةٍ عنه، وعليه إعادتُها إلى القِبلة، كما لو صلَّى بغير طهارة . (التمهيد)) (17/54).
المواضعُ التي يَسقُط فيها
وجوب استقبال القِبلة.
المسألة الأولى :
إذا كان عاجزاً كمريض وجهه إلى غير القبلة ولا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة فإن
استقبال القبلة يسقط عنه في هذه الحال . لقوله : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم}. [سورة التغابن: الآية 16]. وقوله تعالى : {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا}. [سورة البقرة: الآية 286]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".
المسألة الثانية :
إذا كان في شدة الخوف كإنسان هارب من عدو، أو هارب من سبع، أو هارب من سيل يغرقه، فهنا يصلي حيث كان وجهه. ودليله قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. [سورة البقرة: الآية 239]. فإن قوله : {فَإِنْ خِفْتُمْ} عام يشمل أي خوف وقوله : {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}. [سورة البقرة: الآية 239]
يدل على أن أي ذكر تركه الإنسان من أجل الخوف فلا حرج عليه فيه ومن ذلك استقبال القبلة. ويدل عليه أيضاً ما سبق من الآيتين الكريمتين، والحديث النبوي في أن الوجوب معلق بالاستطاعة .
المسألة الثالثة :
في النافلة في السفر سواء كان على طائرة أو على سيارة، أو على بغير فإنه يصلي حيث كان وجهه في صلاة النفل مثل الوتر، وصلاة الليل، والضحى وما أشبه ذلك.
والمسافر ينبغي له أن يتنفل بجميع النوافل كالمقيم تماماً إلا في الرواتب كراتبة الظهر، والمغرب، والعشاء فالسنة تركها فإذا أراد أن يتنفل وهو مسافر فليتنفل حيث كان وجهه ذلك هو الثابت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه ثلاث مسائل لا يجب فيها استقبال القبلة . انتهى " مجموع الفتاوى - باب استقبال القبلة ".
قال ابنُ بطَّال رحمه الله :
أجمَع العلماءُ أنَّه لا يجوز أن يُصلِّيَ أحدٌ فريضةً على الدابَّة من غير عُذر، وأنَّه لا يجوز له ترْكُ القِبلة، إلَّا في شدَّة الخوف، وفي النافلة في السَّفر على الدابَّة . انظر: ((شرح صحيح البخاري)) (3/90). وينظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (2/575).
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق