من عدل الله تعالى ورحمته بعباده أنه لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه ولا يحل سخطه سبحانه على من بلغته الدعوة محرفة مشوهة على وجه لا تقوم به الحجة ولا ينقطع به العذر .
والدليل :
1- نفى الله عز وجل عن نفسه الظلم بأنه لا يعذب إلا من كفر بالحجة التي بانت له قال تعالى : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ )
الشعراء/208-209.
- وقال تعالى :
( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ).
الإسراء15.
قال الامام الطبري فى تفسيره :
يقول تعالى ذكره : وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم .اه
وقال العلامة السعدى فى تفسيره :
والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة. وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
واستدل بهذه الآية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم .اه
2- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ). رواه مسلم ( 240 ) .
والمراد بالسماع هنا هو الذي يكون فيه بيان الأمر لا مجرد السماع فالحديث يدلُّ على وجوب البيان وإقامة الحجَّة قبل المؤاخذة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
وظاهر الحديث أن مجرد السماع تقوم به الحجة ، لأنه قال: ( لا يسمع به ) ، ولكن يقيد هذا الإطلاق بسماع يبين به الأمر ، لقوله تعالى: (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )) فلا بد أن يحصل البلاغ الذي تقوم به الحجة.
لكن لو بلغناهم بلاغًا تقوم به الحجة وقال: أنا ما أفهم ما فهمت فهذا لا يعذر به ، وإذا قال لم أفهم قلنا نفهمك بالسيف إلا أن يكون بيننا وبينه عهد إلا أن يكون بيننا وبينه عهد أو يقبل الجزية.
فالحاصل أن هذا الحديث قد يستدل به من يرى أن مجرد سماع الحجة كافٍ في إقامتها عليه، لأنه قال: ( ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به ) ، لكن يقال: النصوص يقيد بعضها بعضًا فلا بد من أن تبلغه على وجه يعرف المعنى .اه
قال الإمام الألباني رحمه الله :
اليوم يوجد أهل فترة تسمع بسكان القطب الشمالي والقطب الجنوبي؟
مداخلة: نعم.
الشيخ :
هؤلاء وكثير من الأمريكان وغيرهم ما بلغتهم الدعوة، فإن الحقيقة وهذه المسألة أثيرت منذ سنين وأنا في الجامعة الإسلامية ليس المقصود ببلوغ الدعوة بلوغ اسمها دون حقيقتها، وإنما المقصود أن تبلغ قومًا ما الدعوة التي بعث بها الرسول سواء خاتم الأنبياء والرسل أو من بعثوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه: من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل من هذه الأمة من يهودي أو نصراني سمع بي ثم لم يؤمن بي إلا دخل النار».
(فقوله عليه الصلاة والسلام: ( يسمع بي، يعني: على حقيقة دعوته أم على ما انحرفت هذه الدعوة بالنسبة لبعض المسلمين الذين ضلوا في فهمها ضلالًا بعيدًا أو قريبًا فضلًا عن ضلال الكفار متشتتين والرهبان الذين يتعمدون نقل الدعوة الإسلامية إلى أقوامهم على خلاف عقيدتها وواقع أمرها.
لعلكم جميعًا تعلمون أن النصارى ما يعرفون جلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان يحب النساء لأنه تزوج فوق التسع منهن، هكذا يصور قسيسوهم ورهبانهم نبينا صلى الله عليه وسلم لأولئك الأقوام الكفار،
فهل هؤلاء بلغتهم دعوة الرسول حينما لا يعرفون عنها إلا أن نبي الإسلام هو رجل يحب النساء وفقط، لا شك أن هؤلاء لا تبلغهم الدعوة،
وأنا أفترض هذا وهذه فرضية واسعة، لكن من عرف الإسلام على عقيدته الصافية، منها: لا إله إلا الله بمعناها الصحيح، وأن محمد رسول الله كذلك، فهذا بلغته الدعوة فإن لم يؤمن فهو بلا شك كافر كما قال عليه السلام: فهو في النار.
فالآن :
الدعوة الإسلامية اسمها بلغ آذان كثيرين من الأعاجم، أما حقيقتها فلم تصل بعد إليهم، لذلك سمى أهل الفترة... أنهم الذين لم تبلغهم الدعوة، وعلى حقيقتها لأن النبي قال: «ثم لم يؤمن بي» وهذا كقوله عليه السلام: «من رآني في المنام فقد رآني حقًا فإن الشيطان لا يتمثل بي» فمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم على غير أوصافه وشمائله التي كان عليها في حياته ما رآه؛ لأنه يقول: «من رآني» فمن رآه مثلًا شيخًا كبيرًا كما وقع كثيرًا مع بعض الناس حينما يستفتون علينا يقول: أنا البارح رأيت الرسول في المنام، ويقص قصة طويلة، كيف رأيته يا أخي؟
يقول :
رأيته ما شاء الله شيخ كبير وجهه مصباح نور، لحيته بيضاء إلى آخره،
نقول :
ما رأيت الرسول؛ لأن أصحابه يقولون: ما شانه تبارك وتعالى ببيضاء، أو رآه يمشي على عكاز بينما هو كان يمشي وكأنه ينصب من صبب
إذًا :
حديثان يفضيان إلى حقيقة واحدة : من رآه في المنام كما كان هو في حياته، من سمع به كما كان هو في دعوته فهذا وذاك قد انطبق عليهم حديث الذي رآه بصفته فقد رآه حقًا، والذي بلغته الدعوة على حقيقتها فقد بلغته، فإذا لم يؤمن فقد كفر ومأواه النار كما جاء في الحديث.
مداخلة :
الرافضة عوامهم وجهالهم ينطبق عليهم هذا؟
الشيخ :
إذا أنتم قصرتم معهم فهم كذلك، إذا قصرتم معهم وهم عرب أمثالكم ليسوا مسلمين مثل الإيرانيين الأعاجم لا يفقهون اللغة العربية، فإذا لم تبلغوا الدعوة للروافض الذين ابتيتم بهم في عقر داركم فأنتم مسؤولون عنهم، ليس هم المسؤولون.اه
("رحلة النور"(46أ/00:14:30))
وقال أيضا رحمه الله :
اليوم كما أشرتم أمم في القطب الشمالي والقطب الجنوبي ، بل أوروبا بل وأمريكا وإلى آخره ما يعرفون عن الإسلام شيئا ، والحقيقة كما يقال : إن أنسى فلن أنسى ، أول لقاء كان بيني وبين بعض أساتذة الجامعة لأول سنة أظن في نفس الجامعة ، في جماعة من أهل العلم ، ومحمد أمان تذكرون جيدا ، أثيرت هذه القضية ، وأنا بينت وجهة نظري باختصار حسب ما سمعتم بشيء من التفصيل ، قال الشيخ المشار إليه بأنه لا نستطيع أن نقول أنه ما بلغتهم الدعوة اليوم الأوربيون والأمريكيون ونحو ذلك ، لأنه ما شاء الله هذا القرآن يتلى في الإذاعات ليلا ونهارا ،
قلنا له : يا شيخ الله يهدينا وإياك ، العرب ما عم يفهموا الكلام هذا حتى يفهموه الأعاجم .! فإذا قلت للأعجمي قل : (( قل هو الله أحد الله الصمد )) راح يقول ، لكن أولا بشيء من الصعوبة ، لكن هو يدري أن هذا يهدم الصليب تبعه والمعبود بالباطل .؟ هو ما يدري ولا يفقه أي شيء ، فإذا ليس المقصود ببلوغ الدعوة ألفاظها وإنما المقصود بها معاني الدعوة وحقائقها .
أبو مالك :
سماعها على الوجه الذي يفهمها هو .
الشيخ :
هو كذلك هذه حقائقها ، ولهذا أنا أقول اليوم كثير من المسلمين الذين نراهم في ضلال مبين ويشركون ويجعلون لله أندادا وهم لا يعلمون ، المشركين الأولين وهم يعلمون ، أما جماعتنا فهم لا يعلمون ، الله أكبر ، هؤلاء ما نستطيع أن نحكم لهم بنار ، لأنه من هو الذي يقيم الحجة عليهم ، المشايخ الذين يحيطون بهم هم سبب ضلالهم ، يسموا الاستغاثة كما تعلمون توسلا ، ونحو ذلك من الضلالات والانحرافات ، فهؤلاء ما بلغتهم الدعوة .
أبو مالك :
إذا على هذا شيخنا أننا نحمل قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني من هذه الأمة ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ) إذا هنا السماع المقصود به هو سماع الحق الذي عناه الله أيضا بقوله تبارك وتعالى : (( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ))
الشيخ : أي نعم . اه
(سلسلة الهدى والنور-(179))
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
فمن بلغه بعض القران دون بعض : قامت عليه الحجة بما بلغه ، دون ما لم يبلغه . فإذا اشتبه معنى بعض الايات وتنازع الناس في تأويل الاية : وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله . فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم: فالمصيب له أجران ، والمخطئ له أجر .
فلا يمنع أن يقال ذلك في أهل الكتاب قبلنا فمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب قبلنا لم تقم عليه الحجة إلا بما بلغه، وما خفي عليهم معناه منه فاجتهد في معرفته : فإن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر وخطؤه محطوط عنه .
فأما من تعمد تحريف الكتاب لفظه أو معناه وعرف ما جاء به الرسول فعانده : فهذا مستحق للعقاب .وكذلك من فرط في طلب الحق واتباعه متبعا لهواه مشتغلا عن ذلك بدنياه .
وعلى هذا :
فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب وفيهم اخرون لم يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول : لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد. انتهى. باختصار من ( "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/291-298)).
وقد اختلف أهل العلم
فيمن لم تبلغه الدعوة ومات على ذلك وكذلك أطفال المشركين.
فالراجح أن حكمه حكم أهل الفترة الذين لم تبلغهم رسالة الرسل عليهم السلام وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنهم يمتحنون يوم القيامة.
فعن الأسود بن سريع أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: أربعة يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا ، وأما الأحمق فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : رب ، لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ، ما أتاني لك رسول . فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه ، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما . (والحديث صححه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (881)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (19)، وحسنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16301)، وصحح إسناده وجوده وقواه ابن كثير في ((جامع المسانيد والسنن)) (443)، )
قال ابن تيمية رحمه الله :
من لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة؛ كالأطفال، والمجانين، وأهل الفترات؛ فهؤلاء فيهم أقوال؛ أظهرها: ما جاءت به الآثار؛ أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيبعث إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب، وإن عصوه استحقوا العذاب. (((مجموع الفتاوى)) (24/372).) .
وقال ابن القيم بعد حكايته للأقوال في أطفال المشركين وأدلتها: المذهب الثامن: أنهم يمتحنون في عرصة القيامة، ويرسل إليهم هناك رسول، وإلى كل من لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها، وتتوافق الأحاديث. ( ((طريق الهجرتين)) (ص: 396).)
وقال القرطبي رحمه الله :
عن حديث (لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ). فيه دليل على أن لم تبلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلمولا أمره لا عقاب عليه، ولا مؤاخذة، وهذا كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾. [الإسراء:15] . اه [المفهم (1 /368)].
قال العلامة الالبانى رحمه الله :
لا نستطيع أن نقول أن الذين كانوا قبل الرسول عليه السلام كلهم من أهل الفترة ، ولا نستطيع أن نقول كلهم ليسوا من أهل الفترة ، لا نستطيع أن نقطع بأن كل فرد من أفراد العرب الذين كانوا قبل الرسول بلغته الدعوة ، كما أن العكس لا نستطيع أن نقوله أنه كل فرد من أفراد هؤلاء ما بلغتهم الدعوة ، إذا القضية مربوطة بالبلاغ وعدم البلاغ ، إذا كان هذا بينا كما تعلمون ، حينئذ نقول إذا جاءنا خبر عن الرسول عليه السلام صحيح بأن فلان كان من أهل الجاهلية وهو في النار نحن نقطع فورا أن هذا بلغته الدعوة : (( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا )) ولا يخفاكم أن الآية هذه تعني أيضا رسولا إما مباشرة وإما بدعوته ، فإذا ثبتت هناك أحاديث مثل حديث : ( إن أبي وأباك في النار ) يحكم على ناس ماتوا في الجاهلية قبل بعثة الرسول عليه السلام ، فذلك يعني تماما أن هؤلاء بلغتهم دعوة التوحيد ، ولذلك جحدوا بها كما قال تعالى : (( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم )) .اه (سلسلة الهدى والنور-(179))
وأما في الدنيا
فإننا نحكم عليهم بأنهم كفار كما هو ظاهر لنا لأن كل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر وإنما مصيرهم في الآخرة فإلى الله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله :
" والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل فهذا مقطوع به في جملة الخلف، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا؟ فذلك مالا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله وحكمه هذا في أحكام الثواب والعقاب، وأما في أحكام الدنيا فهي جارية على ظاهر الأمر".اه
[طريق الهجرتين (1/610)].
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
إذا مات أطفال الكفار وهم لم يبلغوا سن التمييز وكان أبواهم كافرين، فإن حكمهم حكم الكفار في الدنيا، أي: لا يغسلون، ولا يكفنون، ولا يصلى عليهم، ولا يدفنون مع المسلمين؛ لأنهم كفار بوالديهم. هذا في الدنيا.
أما في الآخرة فالله أعلم بما كانوا عاملين، وأصح الأقوال فيهم أن الله سبحانه وتعالى يختبرهم يوم القيامة بما يشاء من تكليف، فإن امتثلوا أدخلهم الله الجنة، وإن أبوا أدخلهم النار، وهكذا نقول في أهل الفترة، ومن لم تبلغهم الرسالات؛ فالله أعلم بما كانوا عاملين، يختبرون ويكلفون بما يشاء الله عز وجل، وما تقتضيه حكمته؛ فإن أطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار . (((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (17/443).) .
وأما أمرهم بدخول النار
ليس عقوبة لهم وكيف يعاقبهم على غير ذنب ؟ إنما هو امتحان واختبار لهم هل يطيعونه أو يعصونه فلو أطاعوه ودخلوها : لم تضرهم وكانت عليهم برداً وسلاماً فلما عصوه وامتنعوا من دخولها : استوجبوا عقوبةَ مخالفةِ أمرِه.
والملوك قد تمتحن مَن يُظهر طاعتهم هل هو منطوٍ عليها بباطنه فيأمرونه بأمرٍ شاقٍّ عليه في الظاهر هل يوطِّن نفسه عليه أم لا فإن أقدم عليه ووطن نفسه على فعله أعفوه منه وإن امتنع وعصى : ألزموه به أو عاقبوه بما هو أشد منه .
وقد أمر الله سبحانه الخليل بذبح ولده ولم يكن مراده سوى توطين نفسه على الامتثال والتسليم وتقديم محبة الله على محبة الولد فلما فعل ذلك رَفع عنه الأمر بالذبح .
وأما قول بعض أهل العلم
إن الآخرة دار جزاء وليست دار تكليف فكيف يكلفهم دخول النار وليس ذلك في وسعهم؟
قال ابن تيمية رحمه الله :
والتكليف إنما ينقطع بدخول دار الجزاء وهي الجنة والنار ، وأما عَرَصات القيامة فيمتحنون فيها كما يمتحنون في البرزخ ، فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ : مَنْ رَبُّك ؟ وَمَا دِينُك ؟ وَمَنْ نَبِيُّك ؟ ، وقال تعالى : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ) الْآيَةَ .اه (مجموع الفتاوى " ( 4 / 303 ، 304 ))
وقال ابن القيم ملخصا الرد على ذلك :
فإن قيل :
فالآخرة دار جزاء، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع، وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف، وأما في عرصة القيامة، فقال تعالى: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، فهذا صريح في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك. ((طريق الهجرتين)) (ص: 400).
- كما أن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط وهو جسر على جهنم أحدّ من السيف ، وأدق من الشعرة ، ويمرُّ المؤمنون عليه بحسب أعمالهم ، كالبرق ،وكالريح وكأجاويد الخيل والرِّكاب ، ومنهم الساعي ، ومنهم الماشي ، ومنهم من يحبو حبواً ، ومنهم المكدوش على وجهه في النار وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم .
- وقد ثبتت السنَّة في الصحاح وغيرها : أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة وأما المنافق : فلا يستطيع ذلك ويعود ظهره طبقاً واحداً كلما أراد السجود: خَرَّ لقفاه .
- وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها : أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك مراراً ، ويقول الله تعالى : ( يا ابن آدم ، ما أغدرك ! ) ثم يأذن له في دخول الجنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وهنا أصل لا بد من بيانه وهو :
أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه : قال تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا * من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.[الإسراء: 13 - 15] ... وقال : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ايات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين. [الزمر: 71]. وقال تعالى : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم اياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين. [الأنعام: 130]. وقال تعالى : وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم اياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون.[القصص: 59] ...
وإذا كان كذلك :
فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقران على من بلغه كقوله: لأنذركم به ومن بلغ. [الأنعام: 19] .
فمن بلغه بعض القران دون بعض : قامت عليه الحجة بما بلغه ، دون ما لم يبلغه . فإذا اشتبه معنى بعض الايات وتنازع الناس في تأويل الاية : وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله . فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم: فالمصيب له أجران ، والمخطئ له أجر .
فلا يمنع أن يقال ذلك في أهل الكتاب قبلنا فمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب قبلنا لم تقم عليه الحجة إلا بما بلغه، وما خفي عليهم معناه منه فاجتهد في معرفته : فإن أصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر وخطؤه محطوط عنه .
فأما من تعمد تحريف الكتاب لفظه أو معناه وعرف ما جاء به الرسول فعانده : فهذا مستحق للعقاب .وكذلك من فرط في طلب الحق واتباعه متبعا لهواه مشتغلا عن ذلك بدنياه .
وعلى هذا :
فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب وفيهم اخرون لم يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول : لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد . وإذا جاز أن يكون في أهل الكتاب من لم يعرف جميع ما جاء به المسيح بل خفي عليه بعض ما جاء به أو بعض معانيه فاجتهد : لم يعاقب على ما لم يبلغه ، وقد تحمل أخبار اليهود الذين كانوا مع تبع ، والذين كانوا ينتظرون الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - من أهل المدينة كابن التيهان وغيره ، على هذا ؛ وأنهم لم يكونوا مكذبين للمسيح تكذيب غيرهم من اليهود .
وقد تنازع الناس :
هل يمكن مع الاجتهاد واستفراغ الوسع أن لا يبين للناظر المستدل صدق الرسول ، أم لا ؟ وإذا لم يتبين له ذلك : هل يستحق العقوبة في الاخرة أم لا ؟ . وتنازع بعض الناس في المقلد منهم أيضا .
والكلام في مقامين :
المقام الأول :
في بيان خطأ المخالف للحق وضلاله وهذا مما يعلم بطرق متعددة ، عقلية وسمعية ، وقد يعرف الخطأ في أقوال كثيرة من أهل القبلة المخالفين للحق وغير أهل القبلة ، بأنواع متعددة من الدلائل.
والمقام الثاني :
الكلام في كفرهم واستحقاقهم الوعيد في الاخرة فهذا فيه ثلاثة أقوال للناس ، من أصحاب الأئمة المشهورين مالك والشافعي وأحمد لهم الأقوال الثلاثة :
قيل :
إنه يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسل إليه رسول لقيام الحجة عليه بالعقل . وهذا قول كثير ممن يقول بالحكم العقلي ، من أهل الكلام والفقه ، من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم ، وهو اختيار أبي الخطاب.
وقيل :
لا حجة عليه بالعقل بل يجوز أن يعذب من لم يقم عليه حجة لا بالشرع ولا بالعقل .
وهذا قول من يجوز تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم . وهذا قول كثير من أهل الكلام ، كالجهم وأبي الحسن الأشعري وأصحابه والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم.
والقول الثالث :
وعليه السلف والأئمة :
أنه لا يعذب إلا من بلغته الرسالة ولا يعذب إلا من خالف الرسل كما دل عليه الكتاب والسنة ؛ قال تعالى - لإبليس - : لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. [ص: 85]
وإذا كان كذلك فنحن فيما نناظر فيه أهل الكتاب: متقدميهم ومتأخريهم : تارة نتكلم في المقام الأول وهو بيان مخالفتهم للحق وجهلهم وضلالهم ، فهذا تنبيه لجميع الأدلة الشرعية والعقلية .
وتارة نبين كفرهم الذي يستحقون به العذاب في الدنيا والاخرة فهذا أمره إلى الله ورسوله لا يتكلم فيه إلا بما أخبرت به الرسل كما أنا أيضا لا نشهد بالإيمان والجنة إلا لمن شهدت له الرسل .
ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة ، كالأطفال والمجانين وأهل الفترات : فهؤلاء فيهم أقوال ؛ أظهرها ما جاءت به الاثار : أنهم يمتحنون يوم القيامة فيبعث الله إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب وإن عصوه استحقوا العقاب.".انتهى .
( "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (2/291-298)) .
قال العلامة ابن باز رحمه الله :
إذا مات غير المكلف بين والدين كافرين فحكمه حكمهما في أحكام الدنيا؛ فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، أما في الآخرة فأمره إلى الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سئل عن أولاد المشركين قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)). (أخرجه البخاري) ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن علم الله سبحانه فيهم يظهر يوم القيامة، وأنهم يمتحنون كما يمتحن أهل الفترة ونحوهم، فإن أجابوا إلى ما يطلب منهم دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتحان أهل الفترة يوم القيامة، وهم الذين لم تبلغهم دعوة الرسل، ومن كان في حكمهم كأطفال المشركين؛ لقول الله عز وجل: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا، وهذا القول هو أصح الأقوال في أهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الدعوة الإلهية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، وجماعة من السلف والخلف، رحمة الله عليهم جميعا. ( ((مجموع فتاوى ابن باز)) (3/163).
إذن
يشترط بلوغ الحجة وفهمها
فالله عز وجلّ حكم عدل لا يعذّب أحدا من خلقه ما لم تقم عليه الحجّة الرّسالية من الكتاب والسنّة كما قال جلّ ثناؤه : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }. [الإسراء: 15] وقوله تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم}. [ محمد : 32 ]. ونحو ذلك من الآيات وعلى هذا فقيام الحجة لا يكفي فيه مجرد بلوغها بل لابد مع ذلك من فهمها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
في تفسير قوله تعالى : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ }
قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكّن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما تقوم به عليه الحجة، ولو كان عربيا وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته، وجب أن نبيّن له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه، فعلينا ذلك، وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه،كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن، فإنه كان يجيبهم عنه.اه [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 2 / 114 )]
وقال ابن القيم رحمه الله :
والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله ، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل ، فهذا مقطوع به في جملة الخلق ، وأما كون زيد بعينه وعمرو قامت عليه الحجة أم لا ؟ فذلك ما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه .اه [طريق الهجرتين]
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق