من كان على غير دين الإسلام من أهل الكفر من اليهود والنصارى وغيرهم،
وبلغه الإسلام على غير حقيقته أو لم تكن بلغته دعوة الإسلام على وجهها وحقيقتها،
فإن مآله في الآخرة على الصحيح أنه مثل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة لهم معاملة خاصة يمتحنون في عرصات يوم القيامة.
** فمن عدل الله تعالى ورحمته بعباده أنه لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال جلّ ثناؤه : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا }. [الإسراء: 15]،
ولا يحل سخطه سبحانه على من بلغه الإسلام على غير حقيقته محرفاً مشوهاً على وجه لا تقوم به الحجة ولا ينقطع به العذر .
* والواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر،
وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول هذا في الجملة ، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه.
* ومعنى قيام الحجة : هو بلوغ الإسلام إلى الشخص وتمكنه من العلم به وفهمها،
فإذا قامت الحجة الرسالية على الشخص فلم يسلم ثم مات كافراً فهو من أهل النار خالداً مخلداً فيها.
** ودليل ذلك :
1- نفى الله عز وجل عن نفسه الظلم بأنه لا يعذب إلا من كفر بالحجة التي بانت له، قال تعالى : ( وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ . ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ ). (الشعراء/208-209).
- وقال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ). (الإسراء15).
- قال الإمام الطبري فى تفسيره : يقول تعالى ذكره : وما كنا مهلكي قوم إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل، وإقامة الحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم . انتهى
- قال ابن كثير رحمه الله : ( يذكر تعالى عدله في خلقه، وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه، كما قال : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا. [الإسراء: 15] ) . ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 178).
- وقال العلامة السعدي فى تفسيره : والله تعالى أعدل العادلين لا يعذب أحدا حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة ثم يعاند الحجة.
وأما من انقاد للحجة أو لم تبلغه حجة الله تعالى فإن الله تعالى لا يعذبه.
واستدل بهذه الآية على أن أهل الفترات وأطفال المشركين، لا يعذبهم الله حتى يبعث إليهم رسولا لأنه منزه عن الظلم . انتهى.
** إذن يُشترط قيام الحجة ولا يكفي فيه مجرد بلوغها بل لابد مع ذلك من فهمها.
2- جاء فى قيام الحجة وفهمها، قال الله تعالى: " فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين ". [النحل: 82] .
- قال الإمام الطبري رحمه الله : ( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فإن أدبر هؤلاء المشركون -يا محمد- عما أرسلتك به إليهم من الحق، فلم يستجيبوا لك وأعرضوا عنه،
فما عليك من لوم ولا عذل؛ لأنك قد أديت ما عليك في ذلك؛ إنه ليس عليك إلا بلاغهم ما أرسلت به،
ويعني بقوله : " المبين " الذي يبين لمن سمعه حتى يفهمه ). ينظر:((تفسير ابن جرير)) (14/324).
3- قال الله تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه. [التوبة: 6].
- قال شيخ الإسلام رحمه الله : في تفسير قوله تعالى : { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ }،
قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكّن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى،
فلو كان غير عربي لوجب أن يترجم له ما تقوم به عليه الحجة ، ولو كان عربيا وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست من لغته، وجب أن نبيّن له معناها،
ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه ، فعلينا ذلك،
وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه ،
كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن ، فإنه كان يجيبهم عنه. انتهى من [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 2 / 114 )].
- وقال العلامة أبو السعود رحمه الله في تفسير قوله تعالى : ( حتى يسمع كلام الله ) ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه،
والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم؛ لكونهم من أهل اللسن والفصاحة ) . ينظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/ 44).
4- من بلغته دعوة الإسلام وفَهِم الحجة ولم يؤمن بها فهو كافر مخلد في نار جهنم، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:
( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ). رواه مسلم ( 240 ) .
والمراد بالسماع هنا هو الذي يكون فيه بيان الأمر لا مجرد السماع فالحديث يدلُّ على وجوب البيان وإقامة الحجَّة قبل المؤاخذة .
- قال الشيخ الألباني رحمه الله : « يسمع بي »؛ أي : على حقيقته - صلى الله عليه وآله وسلم - بشراً رسولاً نبياً،
فمن سمع به على غير ما كان عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - من الهدى والنور ومحاسن الأخلاق؛
بسبب بعض جهلة المسلمين؛ أو دعاة الضلالة من المنصرين والملحدين؛الذين يصورونه لشعوبهم على غير حقيقته - صلى الله عليه وآله وسلم - المعروفة عنه؛
فأمثال هؤلاء الشعوب لم يسمعوا به، ولم تبلغهم الدعوة، فلا يشملهم الوعيد المذكور في الحديث.
وهذا كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: « من رآني في المنام .. »؛ أي : على حقيقته وصفاته التي كان عليها في حال حياته، فمن ادعى فعلاً أنه رآه شيخاً كبيراً قد شابت لحيته؛ فلم يره؛
لأن هذه الصفة تخالف ما كان عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - مما هو معروف من شمائله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم . انتهى من "الصحيحة" (٧/ ١/٢٤٥، ٢٥١).
- قال الشيخ العثيمين رحمه الله : وظاهر الحديث أن مجرد السماع تقوم به الحجة ، لأنه قال : ( لا يسمع به ) ، ولكن يقيد هذا الإطلاق بسماع يبين به الأمر،
لقوله تعالى : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم )) فلا بد أن يحصل البلاغ الذي تقوم به الحجة.
لكن لو بلغناهم بلاغًا تقوم به الحجة وقال : أنا ما أفهم ما فهمت فهذا لا يعذر به،
وإذا قال لم أفهم قلنا نفهمك بالسيف إلا أن يكون بيننا وبينه عهد إلا أن يكون بيننا وبينه عهد أو يقبل الجزية.
فالحاصل أن هذا الحديث قد يستدل به من يرى أن مجرد سماع الحجة كافٍ في إقامتها عليه، لأنه قال : ( ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به ) ،
لكن يقال : النصوص يقيد بعضها بعضًا فلا بد من أن تبلغه على وجه يعرف المعنى . انتهى من (شرح صحيح مسلم -كتاب الإيمان-(14)).
قال ابن القيم رحمه الله :
العذاب يستحق بسببين؛
أحدهما : الإعراض عن الحجة وعدم إرادة العلم بها وبموجبها.
الثاني : العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة موجبها .
فالأول : كفر إعراض، والثاني : كفر عناد.
وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها، فهذا الذى نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل . ينظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 414).
وقال أيضا رحمه الله :
قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص؛
فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أخرى،
كما أنها تقوم على شخص دون آخر ؛ إما لعدم عقله وتمييزه ؛ كالصغير والمجنون ، وإما لعدم فهمه؛
كالذي لا يفهم الخطاب، ولم يحضر ترجمان يترجم له. فهذا بمنزلة الأصم الذي لا يسمع شيئا ولا يتمكن من الفهم . ينظر: ((طريق الهجرتين)) (ص: 414).
وقال الإمام الألباني رحمه الله :
اليوم يوجد أهل فترة تسمع بسكان القطب الشمالي والقطب الجنوبية هؤلاء وكثير من الأمريكان وغيرهم ما بلغتهم الدعوة،
فإن الحقيقة وهذه المسألة أثيرت منذ سنين وأنا في الجامعة الإسلامية ،
ليس المقصود ببلوغ الدعوة بلوغ اسمها دون حقيقتها، وإنما المقصود أن تبلغ قومًا ما الدعوة التي بعث بها الرسول سواء خاتم الأنبياء والرسل أو من بعثوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم،....
لعلكم جميعًا تعلمون أن النصارى ما يعرفون جلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه كان يحب النساء لأنه تزوج فوق التسع منهن ،
هكذا يصور قسيسوهم ورهبانهم نبينا صلى الله عليه وسلم لأولئك الأقوام الكفار،
فهل هؤلاء بلغتهم دعوة الرسول حينما لا يعرفون عنها إلا أن نبي الإسلام هو رجل يحب النساء وفقط ، لا شك أن هؤلاء لا تبلغهم الدعوة،...
فالآن : الدعوة الإسلامية اسمها بلغ آذان كثيرين من الأعاجم،
أما حقيقتها فلم تصل بعد إليهم ، لذلك سمى أهل الفترة ... أنهم الذين لم تبلغهم الدعوة، وعلى حقيقتها لأن النبي قال : « ثم لم يؤمن بي » ،
وهذا كقوله عليه السلام : « من رآني في المنام فقد رآني حقًا فإن الشيطان لا يتمثل بي » فمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم على غير أوصافه وشمائله التي كان عليها في حياته ما رآه ؛ .......
إذًا : حديثان يفضيان إلى حقيقة واحدة : من رآه في المنام كما كان هو في حياته، من سمع به كما كان هو في دعوته ،
فهذا وذاك قد انطبق عليهم حديث الذي رآه بصفته فقد رآه حقًا، والذي بلغته الدعوة على حقيقتها فقد بلغته،
فإذا لم يؤمن فقد كفر ومأواه النار كما جاء في الحديث.... انتهى باختصار من ("رحلة النور"(46أ/00:14:30)).
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
عند شرح حديث معاذ : " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب ". متفق عليه.
وهذا الحديث العظيم الذي بيَّن فيه معاذ بن جبل رضي الله عنه بماذا بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن فيه فوائد كثيرة، منها:
ومنها : أنه إذا كان المدعوُّ فاهمًا للخطاب، فإنه لا يحتاج إلى شرح، فإنه قال : (( أن تدعوهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله )) ولم يشرحها لهم؛ لأنهم يعرِفون معناها، لسانهم لسانٌ عربي،
لكن لو كنا نخاطِب بذلك من لا يعرف المعنى ، وجب أن نُفهمه المعنى؛ لأنه إذا لم يفهم المعنى لم يستفد من اللفظ ؛
ولهذا لم يرسل الله تعالى رسولًا إلا بلسان قومه ولغتهم حتى يُبيِّنَ لهم،
فمثلًا : إذا كنا نخاطب شخصًا لا يعرف معنى لا إله إلا الله، فلا بد أن نشرحها له، ونقول : معنى لا إله إلا الله : أي لا معبود بحقٍّ إلا الله، كلُّ ما عُبِد من دون الله فهو باطل،
كما قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ ﴾. [لقمان: 30].
كذلك أيضًا : " أن محمدًا رسول الله " لا يكفي أن يقولها الإنسان بلسانه أو يسمعها بأُذُنِه ، دون أن يفقهها بقلبه ، فيُبيَّنُ له معنى أن محمدًا رسول الله،
فيقال مثلًا : محمد هو ذلك الرجل الذي بعثه الله عزَّ وجلَّ من بني هاشم، بعثه ليُخرِجَ الناس من الظلمات إلى النور، أرسله بالهدى ودين الحق،
فبيَّن للناس كلَّ خير، ودعاهم إليه ، وبيَّن لهم كلَّ شر وحذَّرهم منه ، وهو رسول الله الذي يجب أن يُصدَّقَ فيما أخبَرَ ، ويُطاع فيما أمَر ، ويُترَك ما عنه نهى وزجر.
ويُبيَّنُ له أيضًا : بأنه رسول وليس بربٍّ ، وليس بكذاب ، بل هو عبدٌ لا يُعبَد ، ورسول لا يُكذَّب ، صلوات الله وسلامه عليه . انتهى باختصار من «شرح رياض الصالحين» (2/ 498- 508).
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق