قال القرطبي في التفسير :
ولا خلاف أن القرآن أنزل من اللوح المحفوظ ليلة القدر ـ على ما بيناه ـ جملة واحدة، فوضع في بيت العزة في سماء الدنيا، ثم كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل به نجماً نجماً في الأوامر والنواهي والأسباب، وذلك في عشرين سنة. وقال ابن عباس : أنزل القرآن من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى الكتبة في سماء الدنيا، ثم نزل به جبريل عليه السلام نجوماً ـ يعني الآية والآيتين ـ في أوقات مختلفة في إحدى وعشرين سنة. اهـ
فهذا الأثر الموقوف عن ابن عباس له حكم الرفع لأن مثله لا يقال بالرأي .
قال الشيخ الألباني في كتاب " موسوعة الألباني في العقيدة " :
" ...ذاك هو حديث ابن عباس الموقوف أيضاً عليه والذي قال : « نزل القرآن إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل أنجماً حسب الحوادث » فهذا حديث موقوف، ولم نجده مرفوعاً إطلاقاً، جاء بالسند الصحيح عن ابن عباس موقوفاً عليه، فقال العلماء : إن هذا الحديث في حكم المرفوع؛ لأنه يتحدث عن أمر غيبي، وهو أنه يقول : نزل كلام الله القرآن الكريم جملة واحدة إلى السماء الدنيا، وهذا لا يستطيع العقل البشري أن يتحدث به إلا من إنسان لا يبالي ما يخرج من فيه، أما ابن عباس وهو صحابي جليل ابن صحابي ابن عم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلا يخطر في بال إنسان أن يتحدث رجل بالغيب .
فإذاً : قوله أن القرآن نزل جملة واحدة .. إلى آخر الحديث، فيه من الدقائق مايبعد أن يكون هذا الحديث قد قاله بالرأي، فيقول مثلاً بعد أن ذكر نزل جملة واحدة إلى بيت العزة، ما هو بيت العزة، وهل يستطيع الإنسان أن يعين مكاناً في السماء ويسميه باسم من عنده، هذا أبعد عن أن يكون قد حصل من رأي الصحابي، ثم هو يعين مكان بيت العزة هذا في السماء لا يقول لا السابعة، ولا .. ولا .. وإنما يقول السماء الدنيا .
فإذاً : هذا حديث موقوف في حكم المرفوع . فإذا صح الحديث , صار هذا الأمر الغيبي موضع تسليم , ومن هنا تسقط كل " الشبهات " و" التساؤلات " التي ترد حول هذه المرحلة من نزول القرآن الكريم . انتهى
وقال أيضا رحمه الله :
ومن الأمثلة المشهورة في ذلك أثر ابن عباس أن القرآن نزل جملة واحدة إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل أنجما فهذا مستبعد كل الإستبعاد أن يقول ابن عباس مثل هذا الكلام المتعلق بأمر غيبي لمجرد الرأي شو عرّفه أنه هناك في السماء الدنيا بيت اسمه بيت العزة هذا أولا وثانيا ما الذي دراه أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل أنجما حسب الحوادث هذا يستبعد كل الإستبعاد أن يكون مجرد اجتهاد وإنما بتوقيف من الرسول عليه والسلام . انتهى من (سلسلة الهدى والنور - شريط : (861))
وقال البيهقي رحمه الله :
"قوله تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} يريد به والله أعلم إنا أسمعناه الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع فيكون الملك منتقلاً به من علو إلى سفل " .اه (الأسماء والصفات للبيهقي)
وقال ابن حجر في فتح الباري :
والمنقول عن السلف اتفاقهم على أن القرآن كلام الله غير مخلوق تلقّاه جبريل عن الله وبلّغه جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام وبلّغه ﷺ إلى أمته .انتهى
قال ابن تيمية رحمه الله :
" فإن كونه – أي : القرآن - مكتوباً في اللوح المحفوظ وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك وإذا كان قد أنزله مكتوبا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر فقد كتبه كله قبل أن ينزله ... ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه وساقها : ". انتهى باختصار من .(" مجموع الفتاوى " ( 12 / 127 ، 128 )) .
وقال أيضا رحمه الله في مجموع الفتاوى :
ومذهب سلف الأمّة وأئمتها وخلفها أن النبي ﷺ سمع القرآن من جبريل وجبريل سمعه من الله عز وجل .انتهى
وقال أيضا ابن تيمية رحمه الله :
فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد، ولا غيرهما، وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيراً منه من هذا الوجه .اه (مجموع الفتاوى لابن تيمية 1-(21))
وذكر ابن تيمية عن أبي حامد الاسفرائيني قوله :
مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال : مخلوق فهو كافر والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا : مسموعاً، ومكتوباً، ومحفوظاً.."
"فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه سمعه منه جبريل، وبلغه عن الله إلى محمد، ومحمد سمعه من جبريل وبلغه إلى أمته، فهو كلام الله حيث سمع، وكتب، وقرئ، كما قال تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} " .اه (مجموع الفتاوى لابن تيمية 1-(21))
وقد بسط ابن تيمية رحمه الله هذا المعنى في موضع آخر موضحاً نزول القرآن الكريم من عند الله لا من شيء من مخلوقاته مستدلاً له ومبيناً لمعناه فقال :
.. وكذلك قد أخبر في غير موضع من القرآن أن القرآن نزل منه، وأنه نزل به جبريل منه.. قال تعالى : {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (الأنعام: 114) قال تعالى : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل:102) وروح القدس هو جبريل كما قال في الآية الأخرى : {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193،194) وقال هنا : {نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} (النحل:102) فبين أن جبريل نزله من الله لا من هواء، ولا من لوح، ولا غير ذلك، وكذلك سائر آيات القرآن كقوله : {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الزمر: 1) .وقوله : {حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (غافر: 1،2) وقوله {حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت: 1،2) وقوله : {آلم. َنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (السجدة: 1،2) .وقوله : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة: 67) .
فقد بين في غير موضع أنه منزل من الله. فمن قال إنه منزل من بعض المخلوقات كاللوح، والهواء فهو مفتر على الله، مكذب لكتاب الله، متبع لغيرسبيل المؤمنين، ألا ترى أن الله فرق بين ما نزل منه وما نزله من بعض المخلوقات كالمطر بأن قال : {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة:22). فذكر المطر في غير موضع وأخبر أنه نزله من السماء، والقرآن أخبر أنه منزل منه..
ثم قال : ولو كان جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ لكان اليهود أكرم على الله من أمة محمد لأنه قد ثبت بالنقل الصحيح أن الله كتب لموسى التوراة بيده وأنزلها مكتوبة. فيكون بنو إسرائيل قد قرأوا الألواح التي كتبها الله. وأما المسلمون فأخذوه عن محمد صلى الله عليه وسلم ومحمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن اللوح. فيكون بنو إسرائيل بمنزلة جبريل، وتكون منزلة بني إسرائيل أرفع من منزلة محمد صلى الله عليه وسلم على قول هؤلاء الجهمية .
والله سبحانه جعل من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه أنزل عليهم كتاباً لا يغسله الماء وأنه أنزله عليهم تلاوة لا كتابة وفرقه فيهم لأجل ذلك، فقال : {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} (الإسراء:106) وقال تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. (الفرقان:32).
ثم إن كان جبريل لم يسمعه من الله وإنما وجده مكتوباً كانت العبارة عبارة جبريل، وكان الكلام كلام جبريل ترجم به عن الله كما يترجم عن الأخرس الذي كتب كلاماً ولم يقدر أن يتكلم به، وهذا خلاف دين المسلمين .اه (مجموع الفتاوى - الجزء الثاني عشر).
فقد جعل شيخ الإسلام ابن تيمية القول بأخذ جبريل للقرآن من اللوح المحفوظ أو غيره تفريعاً للقول بخلق القرآن .
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء، وكيف شاء وأن جبريل عليه السلام سمع القرآن الكريم من الله تعالى وبلغه محمد صلى الله عليه وسلم .
السر في إنزاله جملة إلى السماء
قيل : تفخيم أمره، وأمر من نزل عليه؛ وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم، قد قربناه إليهم لننزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجَّمًا بحسب الوقائع لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن الله بايَن بينه وبينها، فجعل له الأمرين : إنزاله جملة، ثم إنزاله مفرقًا؛ تشريفًا للمُنزَل عليه .
قال ابن حجر في شرح البخاري :
قد أخرج أحمد والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (أنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه).
قال : وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى : ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185]، ولقوله : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، فيحتمل أن يكون ليلة القدر في تلك السنة كانت الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أولُ : ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [العلق: 1] .اه
قال السيوطى رحمه الله :
قال أبو شامة أيضًا :
فإن قيل : ما السر في نزوله منجمًا؟ وهلا نزل كسائر الكتب جملة؟!
قلنا : هذا سؤال قد تولى الله جوابه؛ فقال تعالى : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ﴾ [الفرقان: 32]، يعنون : كما أنزل على مَن قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله : ﴿ كَذَلِكَ ﴾ [الفرقان: 32]؛ أي : أنزلناه كذلك مفرَّقًا؛ ﴿ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ . [الفرقان: 32]؛ أي : لنقوي به قلبك؛ فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة، كان أقوى بالقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجدد العهد به، وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة؛ ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان؛ لكثرة لقياه جبريل .اه (كتاب الإتقان للشيخ جلال الدين السيوطي)
وقال أيضا السيوطي رحمه الله :
والذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها أن القرآنَ كان ينزل بحسَب الحاجة، خمسَ آيات، وعشرًا، وأكثر وأقل، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة، وصح نزول عشر آيات من أول "المؤمنون" جملة، وصح نزول : ﴿ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ﴾ [النساء: 95] وحدها، وهي بعض آية، وكذا قوله : ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً ﴾ [التوبة: 28] إلى آخر الآية، نزلت بعد نزول أول الآية .اه (الإتقان في علوم القرآن - السيوطي - ج (١))
وأما آخر ما نزل من القرآن
ليس في شيء من ذلك خبر عن المعصوم يمكن القطع به .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" أصحّ الْأَقْوَالِ فِي آخِرِيَّةِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله)". انتهى من "فتح الباري" (8/ 317) .
قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله :
" اختلفت الصحابةُ ومَن بعدَهم في آخرِ ما أُنزل من القرآن ... " - ثم ذكر الخلاف ثم قال - : " وليس في شيءٍ من الرواياتِ ما رُفع إلى النبي عليه السلام ، وإنّما هو خَبَر عن القائل به ، وقد يجوزُ أن يكونَ قالَ بضربٍ من الاجتهاد ، وتغليبِ الظنِّ وبظاهرِ الحال ، وليسَ العلمُ بذلك أيضاً من فرائضِ الدين ، ولا هو مما نصّ الرسولُ على أمر فيه ، بيّنه وأشاعه وأذاعَه ، وقصدَ إلى إيجابه وإقامةِ الحجّة به ...
وقد يَحتمِلُ أن يكونَ كلُ قائلٍ ممن ذكرنا يقولُ إن ما حكمَ بأنَّ ما ذكره آخرُ ما نزل لأجل أنّه آخرُ ما سمعه مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .. وقد سمع منه غيرُه شيئاً نزل بعدَ ذلك ، وإن لم يسمعه هو لمفارقته له ، ونزولِ الوحي بقرآنٍ بعدَه .." ، ثم ذكر وجوها أخرى في توجيه ما ورد في ذلك من اختلاف الروايات .اه ينظر : "الانتصار للقرآن" (1/ 243-247) .
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق