القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

مقاصد الشريعة هي الحكم والغايات المستنبطة من خطاب الشارع لتحقيق مصالح العباد الأُخرويَّة والدنيويَّة . 

فالشريعة إنَّما جاءت لتحكم الواقِع وتُغيِّره وفق حُكم الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم أمَّا أن ينقلب الأمر فيُصبح الواقع هو الذي يوجِّه النصوص ويُحدد الأحكام المناسبة له فهذا هو الذي يتوجَّه إليه الرفض والإنكار .

فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان لعبادته وحده لا شريك له وشرع له الشرائع التي تهدف إلى مصلحته الدنيوية والأخروية وتسهل عليه القيام بأداء المهمة التي من أجلها خلق . 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : 

إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا، ودفع شر الشرين إذا لم يمكن أن يندفعا. 

ومن مقاصد الشريعة الإسلامية المحافظة على الكليات الخمس التي تواترت رسل الله تعالى على وجوب المحافظة عليها، وهي الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال، والعرض، ومنها اليسر ورفع الحرج والمشقة . اه (مجموع الفتاوى (23/343)).

وتنقسم المقاصد إلى :

المقاصد العامة : وهي تحقيق مصالح الناس جميعا في الدنيا والآخرة وهي خمسة :

أولاً : حفظ الدين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: (( لولا أن قومَك حديثو عهدٍ بإسلام، لهدمتُ الكعبة وبَنَيتُها على قواعد إبراهيم ))

ومحل الشاهد : أن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم كاملة لكنه خشي مفسدة أعظم وهي أن يرتد الناس عن الإسلام لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر فترك هدمَ الكعبة لمقصدِ حفظ الدين .

قال العلامة السعدى رحمه الله : 

قد شرع الله الشرائع، وبين للخلق العقائد، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب؛لحفظ الدين وشرع الله جل وعلا الجهاد وكذلك قتل الزنديق، وتعزير الداعية إلى البدعة بالقتل أو ما هو دونه؛ كل ذلك من أجل حفظ ضرورة الدين .

إذاً : فالجهاد قد شرع مع ما فيه من سفك للدم، ومن تعرض لسلب المال وسبي النساء وغير ذلك؛ كل ذلك لأجل حفظ هذه الضرورة، وهي ضرورة حفظ الدين .اه (كتاب شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي).

ثانيًا : حفظ النفس قال سبحانه وتعالى : ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾.[النساء: 29].

 فكل سبب يؤدِّي إلى قتل النفس - بشكل مباشر أو غير مباشر - مُحرَّم في شرع الله فأوجب على الإنسان أن يمد نفسه بوسائل الإبقاء على حياته من تناول للطعام والشراب وتوفير اللباس والمسكن .

وشرع الله القصاص لحفظ النفوس أن يعتدى عليها وكذلك أيضاً فيما يتعلق بالقصاص في الأطراف وفي الجراح فهذا كله لأجل ضرورة حفظ النفس.

قال العز بن عبد السلام : 

ولن تتم حياته إلا بدفع ضروراته وحاجاته من المآكل والمشارب، والملابس، والمناكح وغير ذلك من المنافع، ولن يتم ذلك إلا بإباحة التصرفات الرافعة للضرورات والحاجات .اه ("قواعد الأحكام 1/58").

ثالثًا : حفظ العقل قال سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.[المائدة: 90].

ومحل الشاهد : أنه - سبحانه وتعالى حرم الله شرب الخمر، وشرع حده من أجل حفظ هذه الضرورة لأن العقل هو مناط التكليف في الشريعة الإسلامية فإن حفظه إذًا ضرورة لا غنى عنها ولا تستقيم حياة الناس بدون ذلك .

وقال تعالي : ( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (الملك:10) أي نسمع قول الرسول أو نعقل وجه الدليل ، وهو محل معرفة الإله ، ومناط خطابه وتكاليفه ، ويتوصل به إلي معرفة مصالح الدنيا ومفاسدها ، ولا يخفي علي عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن ، ولا يسمي عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه ، والشر فتركه .اه (” قواعد الأحكام 1/24 ، 29 ”) .

رابعًا : حفظ المال : قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾. [النساء: 29].

 ومحل الشاهد : أنه - سبحانه وتعالى - حرَّم المعاملات التي تُضيِّع المال وتفسده على أهله الذين يستحقونه كالربا والرشوة فشرع الله جل وعلا حد السرقة وحرم الاعتداء على الأموال وجعل أموال المسلمين حراماً فلا يحل لمسلم أن يأخذ مال أخيه بغير حق هذا من أجل هذه الضرورة وهي ضرورة حفظ المال .

خامسًا : حفظ النسل : قال سبحانه وتعالى : ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ﴾. [الإسراء: 32].

 ومحل الشاهد : أنه - سبحانه وتعالى - حرَّم فاحشة الزنا لأنها تُضيِّع النسل والنسب واستقرار المجتمعات فحرم الله الزنا وشرع حده من رجم أو جلد وكذلك حرم القذف وحرم الاعتداء على الأعراض بكل شكل هذا كله من أجل حفظ ضرورة العرض والنسل .

إذاً هذه هي الضرورات الخمس التي إذا لم تراعى ترتب على ذلك فساد وخلل في أمر الدين والدنيا وهذه هي أعلى المصالح .

وأما المقاصد الخاصة : فهي الغاية التي شُرِّع من أجلها الحكم الجزئى أو تحقيق مصالح خاصة بمجال معين من مجالات الحياة كالجانب الاقتصادي أو الأسري .

فمثلاً : حكم الزواج شُرِّع في الدين لاستمرار الحياة البشرية وحفظ استقرار الإنسان المادي والمعنوي .

ومن مراتب مقاصد التشريع أيضا:

 الحاجيات والتحسينات

فالحاجيات : وهي ما يحتاج الناس إليه ويؤدي غيابها إلى مشقة الحياة وصعوبتها على الناس كمشروعية الرخص دفعًا للحرج والمشقة عن الناس كرخص السفر والمرض والعذر في ترك صلاة الجماعة أو الجمعة في بعض الحالات كالتيمم عند وجود العذر وغير ذلك .

قال العلامة السعدى رحمه الله :

لو أن الشارع لم يراع هذه المصلحة -وهي الحاجيات- لترتب على ذلك حرج، كالإجارة والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك؛ فهذه يحتاج إليها الناس، فلو أن الشارع حرم الإجارة مثلاً لترتب على ذلك حرج، كذلك الهبات. اه (كتاب شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي)

وأما التحسينات : هى الأخذ بمحاسن العادات والأخلاق فشرع الله جل وعلا شرائع روعيت فيها هذه المصلحة وهي مصلحة التحسينات أو التزيينات وهذه المصلحة هي الأخذ بمحاسن العادات والأخلاق. كالطهارة وآداب الخلاء واللباس والطعام وآداب المجالس ودخول البيوت والاستئذان . 

قال العلامة السعدى رحمه الله :

ومن التحسينات الأمر بإزالة النجاسة من الثوب والبقعة، هذه من التحسينات وهي شرط في الصلاة لا تصح الصلاة إلا بثوب طاهر وبقعة طاهرة وبدن طاهر .

من ذلك أيضاً : أمور الفطرة كإعفاء اللحية وقص الشارب، وعلى ذلك فالتحسينات منها ما يكون واجباً ومنها ما يكون مستحباً . 

إذاً : الشريعة مبنية على جلب المصالح وعلى درء المفاسد .اه (كتاب شرح منظومة القواعد الفقهية للسعدي)

ولكن عند تعارض المصالح 

فإننا سنقدم حفظ الأهم فالأهم فالقاعدة تقديم حفظ الدين على النفس والعقل والنسل والمال، وحفظ النفس يُقدّم على العقل والنسل والمال، وحفظ العقل يُقدم على النسل والمال، وحفظ النسل يُقدّم على المال. وكذلك تُقدّم الضروريات على الحاجيات والتحسينات، وتُقدّم الحاجيات على التحسينات.

قال ابن أمير الحاج رحمه الله : 

" ( ويقدم حفظ الدين ) من الضروريات على ما عداه، عند المعارضة؛ لأنه المقصود الأعظم . 

قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. [الذاريات: 56]، وغيره مقصود من أجله، ولأن ثمرته أكمل الثمرات، وهي نيل السعادة الأبدية، في جوار رب العالمين .

ثم يقدم حفظ (النفس) على حفظ النسب والعقل والمال، لتضمنه المصالح الدينية، لأنها إنما تحصل بالعبادات، وحصولها موقوف على بقاء النفس.

ثم يقدم حفظ (النسب) على الباقيين، لأنه لبقاء نفس الولد؛ إذ بتحريم الزنا لا يحصل اختلاط النسب، فينسب إلى شخص واحد، فيهتم بتربيته وحفظ نفسه، وإلا أهمل فتفوت نفسه لعدم قدرته على حفظها .

ثم يقدم حفظ (العقل) على حفظ المال؛ لفوات النفس بفواته، حتى إن الإنسان بفواته يلتحق بالحيوانات، ويسقط عنه التكليف، ومن ثمة وجب بتفويته، ما وجب بتفويت النفس، وهي الدية الكاملة. انتهى باختصار " من "التقرير والتحبير" (3/ 231).

 وإليك فوائد معرفة مقاصد الشريعة

الفائدة الأولى : الفَهم الصحيح للشريعة.

الفائدة الثانية : تعميق فهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الثالثة : الوصول إلى الحكم الشرعي في النوازل التي لم يُنصَّ عليها في الشرع.

الفائدة الرابعة : التيسير على الناس في دينهم ودنياهم؛ قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾[البقرة: 185].

قال الشيخ العثيمين رحمه الله :

 من المعلوم أن هذه الشريعة الإسلامية جاءت لجلب المصالح أو تكميلها ودفع المضار أو تقليلها، وهذا عامٌ يشمل كلما يحتاج الإنسان إليه في أمور دينه ودنياه، ولا ينحصر الأمر في الضرورات الخمس التي أشار إليها السائل، بل هو عام لكل مصلحة، سواءٌ كانت تتعلق بالنفس أو بالمال أو بالبدن أو بالعقل أو بالدين، بل كل شيء تحصل به المصلحة أو يحصل به تكميل المصلحة فهو أمرٌ مطلوب، 

إن كان أمراً لا بد منه فإنه يقوم على سبيل الوجوب، وإن كان أمراً دون ذلك فإنه يكون على سبيل الاستحباب، وكل شيء يتضمن ضرراً في أي شيء كان فإنه منهيٌ عنه، إما على سبيل وجوب الترك وإما على سبيل الأفضل والأكمل، 

وهذه القاعدة العظيمة لا يمكن أن تنحصر جزيئاتها، وهي مفيدةٌ لطالب العلم؛ لأنها ميزانٌ صادق مستقيم، وتدل عليه آيات من كتاب الله عز وجل وأحاديث من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قول الله تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ﴾. فهنا أشار الله عز وجل إلى أن في الخمر والميسر إثمٌ كبير ومنافع متعددة للناس، ولكن الإثم أكبر من النفع، ولهذا جاءت الشريعة الكاملة بالمنع منهما منعاً كاملاً في قوله تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ومن هنا نعلم أن من جملة الحكم التي حرم الله من أجلها الخمر والميسر والأنصاب والأزلام أنها توقع العداوة والبغضاء بين الناس، وهذه مفسدة اجتماعية مع ما فيها من المفاسد الأخرى، كالإخلال بالعقل والإخلال بالدين، فإن الأنصاب والأزلام، الأزلام تؤدي إلى المغامرة في الإقدام والإحجام، والأنصاب شرك، وأنصاب تعبد من دون الله عز وجل، 

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : ﴿ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ﴾. وهذا أمرٌ لحفظ النفس ووقايتها من كل ضرر، 

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : ﴿ وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ﴾. فأمر بالتيمم في هذه الحال خوفاً من الضرر أو استمرار الضرر بالمرض الذي يخشى من استعمال الماء فيه،

 ومن ذلك قوله تعالى في آية الصيام : ﴿ ومن كان مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيامٍ أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾. 

والسنة في ذلك أيضاً كثيرة

 منها قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص : « إن لنفسك عليك حقاً، وإن لربك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً ». 

ومن ذلك أيضاً تأنيبه الذين قال بعضهم : أصوم ولا أفطر، وقال الثاني : أقوم ولا أنام، وقال الثالث : لا أتزوج النساء، فقال صلى الله عليه وسلم : « أنا أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ». 

والخلاصة أن هذه الشريعة الكاملة جاءت بتحصيل المصالح أو تكميلها وبدفع المفاسد أو تقليلها . انتهى من (فتاوى نور على الدرب>الشريط رقم [181])

أخيرا :

 هذا الشرع المنزل أعظم الضرورات وهو أتم نعمة وأعظم سرور وعبادة الله ولزوم شرعه أشرف الغايات والمقاصد فلا يسوغ أن يكون وسيلة لغيره ولا يصلح أن تكون مجرد حظوظ الدنيا مرادة من الشرع مع الإعراض عما هو خير وأبقى من صلاح القلب ونعيم الاخرة والشوق إلى لقاء الله والنظر إلى وجهه الكريم .


والله اعلم


وللفائدة..


هل اعجبك الموضوع :
author-img
الحمدلله الذى بنعمته تتم الصالحات فاللهم انفعنى بما علمتنى وعلمنى ما ينفعنى وزدنى علما واهدنى واهد بى واجعلنى سببا لمن اهتدى. اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تعليقات