الصحيح أن يقال : لا إنكار في مسائل الإجتهاد التي لا نص فيها وليس فى مسائل الخلاف.
** فإذا كان الخلاف قويًّا أي تكون الأدلة مُتعارضة قد يرجِّح هذا وقد يرجِّح هذا فإنه لا إنكار في مسائل الخلاف القويّ،
وأمّا إذا كان الخلاف ضعيفا أي : يقول طائفة من أهل العلم قولا فى مسألة بخلاف ما دل عليه الدليل ظاهرا أو نصا، فإنه يُنكر في مسائل الخلاف الضعيف .
** فقد أطلق بعض أهل العلم قاعدة وهي قولهم : لا إنكار في مسائل الخلاف،
وهذا الإطلاق غلطٌ لأنّ المسائل الخلافية الصحابة بعضهم أنكر على بعض فيها والتابعون أنكر بعضهم على بعض فيها.
* فالمسائل الخلافية ينكر فيها على المخالف بضوابط الإنكار من بيان الحق بعلم وتجرد وإنصاف وبالحكمة والحسنى،
مع بيان دليل القول الصحيح من الكتاب والسنة، وكذلك من قال به من أهل العلم والأئمة المتبعين .
** والمسائل التي اختلف العلماء فيها نوعان :
1 - مسائلُ الخلافِ غيرُ الاجتهادية أي غير سائغ :
وهي التي وُجدَ فيها إجماع أو نصٌ صريح أو نصوصٌ تدلّ على صحةِ أحدِ الآراء فيها، فهذه المسائل يُنكر فيها على من خالف الدليل مثل : "الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل".
2 - مسائلُ الخلافِ الاجتهاديةُ أي الخلاف سائغ فيها :
وهي المسائلُ التي لا يوجدُ فيها نصٌ صريحٌ يدلّ على صحَّةِ أحد الآراء فيها،
فهذه المسائل لا ينكر فيها على المخالف ما دام متبعاً لإمام من الأئمة وهو يظن أن قوله هو الصواب،
ولا مانع من بحث المسألة وبيان القول الراجح فيها. كمسألة : "نقض الوضوء بمس الذكر".
** وإليك أقوال العلماء :
- قال الإمامُ النوويُّ- في شرحه على صحيح مسلم (2/ 24) :
ولم يزل الخلافُ في الفروع بين الصَّحابة والتابعين فمَن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين ولا يُنكِر مُحتسبٌ ولا غيرُه على غيره،
وكذلك قالوا : ليس للمُفتي ولا للقاضي أن يَعترض على مَن خالفه إذا لم يُخالِف نصًّا، أو إجماعًا أو قياسًا جليًّا،. والله أعلم.
- وقال ابن تيمية رحمه الله :
وقولهم : مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح، فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل .
أما الأول : فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما، وجب إنكاره وفاقا، وإن لم يكن كذلك، فإنه ينكر، بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد، وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل : فإذا كان على خلاف سنة، أو إجماع، وجب إنكاره أيضا بحسب درجات الإنكار،
كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه، وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة، وإن كان قد اتبع بعض العلماء.
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهدا، أو مقلدا،
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس -
والصواب الذي عليه الأئمة، أن مسائل الاجتهاد لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوبا ظاهرا، مثل حديث صحيح، لا معارض من جنسه،
فيسوغ له -إذا عدم ذلك فيها- الاجتهاد؛ لتعارض الأدلة المتقاربة، أو لخفاء الأدلة فيها.
وليس في ذكر كون المسألة قطعية، طعن على من خالفها من المجتهدين، كسائر المسائل التي اختلف فيها السلف، وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها مثل :
كون الحامل المتوفى عنها، تعتد بوضع الحمل. وأن الجماع المجرد عن إنزال يوجب الغسل. وأن ربا الفضل، والمتعة حرام، وأن النبيذ حرام. ينظر: ("الفتاوى الكبرى" (6/ 96)).
- قال ابن القيم رحمه الله :
كما أنَّ المكِّيِّين والكوفيِّين لا يجوزُ تقليدُهم في مسألة : المُتعة والصَّرف والنَّبيذ، ولا يجُوزُ تقليدُ بعض المدنيِّين في مسألة : الحُشُوش، وإتيان النِّساء في أدبارهنَّ،
بل عند فقهاء الحديث : أنَّ من شرب النبيذ المُختلف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللِّسان،
بل عند فُقهاء أهل المدينة يُفسَّق، ولا تُقبل شهادتُه، وهذا يرُدُّ قولَ من قال : لا إنكار في المسائل المختلَف فيها،
... ثمَّ قال : "خطأ قول مَن قال : لا إنكار في المسائل الخلافيَّة : وقولهم : إنَّ مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيحٍ؛ فإنَّ الإنكار إمَّا أن يتوجَّه إلى القول والفتوى أو العمل،
أمَّا الأول: فإذا كان القولُ يخالِف سنَّةً أو إجماعًا شائعًا، وجب إنكارُه اتِّفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومُخالفته للدليل إنكار مثله،
وأما العملُ فإذا كان على خِلاف سنَّةٍ أو إجماعٍ وجب إنكارُه بحسب درجات الإنكار،
وكيف يقول فقيهٌ : لا إنكار في المسائل المُختلَف فيها، والفقهاءُ من سائر الطَّوائف قد صرَّحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالَف كتابًا أو سنَّةً، وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟
وأمَّا إذا لم يكن في المسألة سنَّة ولا إجماعٌ وللاجتهاد فيها مساغٌ، لم تُنكَر على من عمل بها مُجتهدًا أو مقلِّدًا.
وإنما دخل هذا اللَّبس مِن جهة أنَّ القائل يعتقدُ أنَّ مسائل الخلاف هي مسائلُ الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائفُ من الناس ممَّن ليس لهم تحقيقٌ في العلم.
والصَّوابُ ما عليه الأئمَّةُ :
أنَّ مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجب العملُ به وجوبًا ظاهرًا، مثل : حديث صحيحٍ لا مُعارض له من جنسه فيسوغُ فيها -
إذا عدم فيها الدَّليلُ الظَّاهرُ الذي يجبُ العملُ به - الاجتهادُ؛ لتعارض الأدلَّة أو لخفاء الأدلَّة فيها.
وليس في قول العالم : إنَّ هذه المسألة قطعيَّة أو يقينيَّةٌ، ولا يسوغ فيها الاجتهادُ - طعنٌ على من خالفها، ولا نسبةٌ له إلى تعمُّد خلاف الصَّواب،
والمسائل التي اختلف فيها السَّلَف والخلَفُ، وقد تيقَّنَّا صحَّة أحد القولين فيها - كثيرٌ؛ مثل :
كون الحامل تعتدُّ بوضع الحمل، وأنَّ إصابة الزَّوج الثاني شرطٌ في حلِّها للأوَّل، وأنَّ الغُسل يجبُ بمجرَّد الإيلاج وإن لم يُنزِل،
وأنَّ ربا الفضل حرامٌ، وأنَّ المُتعة حرامٌ، وأنَّ النَّبيذ المُسكِر حرام، وأنَّ المُسلم لا يُقتلُ بكافر. وأنَّ المسح على الخُفَّين جائزٌ حَضرًا وسفرًا،... إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل،
ولهذا صرَّح الأئمَّةُ بنقض حُكم من حكَم بخلاف كثيرٍ من هذه المسائل، من غير طعنٍ منهم على مَن قال بها.
وعلى كُلِّ حالٍ؛ فلا عُذر عند الله يوم القيامة لمن بلَغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا مُعارض لها،
إذا نبذها وراءَ ظهره، وقلَّد من نهاه عن تقليده. ينظر: ("إعلام الموقعين عن رب العالمين" (3/ 223 - 225)).
- وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
الإنكار معناه أن الإنسان ينكر عليه ما فعله، ولا يعذر به، وهذا لا ينكر في مسائل الاجتهاد، المسائل الاجتهادية لا ينكر فيها،
فلو أننا رأينا رجلا يأكل لحم إبل ولا يتوضّأ بناء على اجتهاده أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، فإننا لا ننكر عليه،
ولكن عدم إنكارنا عليه لا يمنع مناقشته في الأمر، أن نقول له يا أخي تعال بيننا وبينك السنة هل ينتقض الوضوء بأكل لحم الإبل أو لا ينتقض.
أما المسائل غير الاجتهادية : وهي التي لا مساغ للعقل فيها فإنه ينكر على المخالف فيها،
كما لو أن أحدا تكلم في أمور الغيب وأنكر شيئا من أمور الغيب التي أخبر الله بها ورسوله،
فإننا لا يمكن أن نقره على ذلك، وذلك لأنه لا مجال للاجتهاد في الأمور الغيبية. ينظر: (فتاوى الحرم النبوي-(21)).
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق