لا يجوز أن يؤثر المسلم غيره على نفسه في القربات والطاعات لأن الغرض من العبادات هو التعظيم والإجلال فمن آثر به فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه ، وإنما يكون الإيثار فيما يتعلق بالنفوس فى أمور الدنيا في الطعام والشراب ونحو ذلك لا فيما يتعلق بالقرب والعبادات .
مثال ذلك : أن الوقوف فى الصف الأول فى الصلاة قُرْبة وطاعة، فلا يحق لك أن ترجع عن الصف الأول وتدخل غيرك مكانك لأنه زُهْدٌ في الأجر ولا يجوز للمسلم أن يزهد في الأجر .
ومعنى الإيثار فى العبادة أو بالقُرب : هو أن يقدم المسلم أخاه في أمر من الأمور الدينية التي تقرب إلى الله تعالى.
ومما يدل على ذلك :
1- قال الله تعالى : وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ. [المطففين:26]. فأمور الآخرة الإنسان يشمر ويسارع في طلب النعيم المقيم الذي لا يزول ولا يحول والإيثار بذلك يدل على زهد فيما عند الله .
قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله :
في قوله تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. أن الشارع لم يجعل الطاعات والقربات محلا للإيثار، بل محلا للتنافس والمسابقة؛ ولهذا قال الفقهاء : « لا يستحب الإيثار بالقربات »،....
فإن المقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابه.
والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه، وتركه له، وعدم المنافسة فيه، وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه إذا كان أخوه محتاجا إليه،
فإذا اختص به أحدهما فات الآخر؛ فندب الله سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوة وصبرا على الإيثار به ما لم يخرم عليه دينا، أو يجلب له مفسدة . ينظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 299، 300).
2- ما رواه البخاري بإسناده عن سهل بن سعد رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشراب فشرب منه – وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ – فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام : والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً. قال فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ".
فبين الغلام (وهو ابن عباس رضي الله عنه) العلة في عدم الإيثار، وأنه ليس كونه شرابا، وإنما هو لحلول أثر بركته صلى الله عليه سلم عليه؛ لكونه ما فضل من شرابه، وذلك محل تنافس أصحاب الهمم .
قال الإمام النووي رحمه الله :
وقد نص أصحابنا وغيرهم من العلماء على أنه لا يؤثر في القرب، وإنما الإيثار المحمود ما كان في حظوط النفس دون الطاعات قالوا : فيكره أن يؤثر غيره بموضعه من الصف الأول وكذلك نظائره . انتهى من (شرح النووي على مسلم (13/201))
وقال العلامة السيوطي رحمه الله فى الاشباه والنظائر :
القاعدة الثالثة : الإيثار في القرب مكروه وفي غيرها محبوب قال تعالى : { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
قال الشيخ عز الدين : لا إيثار في القربات ، فلا إيثار بماء الطهارة ولا بستر العورة ولا بالصف الأول لأن الغرض بالعبادات : التعظيم ، والإجلال . فمن آثر به ، فقد ترك إجلال الإله وتعظيمه .
وقال الإمام : لو دخل الوقت ومعه ماء يتوضأ به فوهبه لغيره ليتوضأ به لم يجز لا أعرف فيه خلافا لأن الإيثار إنما يكون فيما يتعلق بالنفوس لا فيما يتعلق بالقرب ، والعبادات .
وقال في شرح المهذب في باب الجمعة : لا يقام أحد من مجلسه ليجلس في موضعه فإن قام باختياره ، لم يكره فإن انتقل إلى أبعد من الإمام كره . قال أصحابنا : لأنه آثر بالقربة.
وقال الشيخ أبو محمد في الفروق : من دخل عليه وقت الصلاة ومعه ما يكفيه لطهارته وهناك من يحتاجه للطهارة لم يجز له الإيثار .
ولو أراد المضطر إيثار غيره بالطعام لاستبقاء مهجته كان له ذلك وإن خاف فوات مهجته .
والفرق : أن الحق في الطهارة لله فلا يسوغ فيه الإيثار والحق في حال المخمصة لنفسه . وقد علم أن المهجتين على شرف التلف إلا واحدة تستدرك بذلك الطعام فحسن إيثار غيره على نفسه . انتهى.
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
مثال : ترك مكان في الصف الاول لكبير في السن إيثارا
هذا التزاحم على التقدم في الصفوف كما رأيت أخانا أبا عبد الله هذا يذكرني بأن كثيرا من إخوانه عندهم أنانية ،
لكن ترى هذه الأنانية مشروعة أو غير مشروعة هذا الذي ينبغي لفت النظر إليه عندهم أنانية في الخير فهم لا يطبقون ظاهر وأعني ما أقول لا يطبقون ظاهر قوله تعالى : (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )).. فترى خصاصة ظاهر هذه الآية يعمل بها كثير من الناس وليس هذا الظاهر بمراد منها
لأن الإيثار ينقسم إلى قسمين :
1- إيثار في العبادة وفي الطاعة
2- وإيثار في أمور الدنيا
فالإيثار المذكور في الآية هو في أمور الدنيا في الطعام والشراب ونحو ذلك ، أما في العبادة والطاعة فالعكس من ظاهر الآية لا يشرع في ذلك الإيثار .
وهذا كثيرا ما يقع في الصف الأول والثاني في الصلاة فتجد الرجل في الصف الأول فينظر خلفه فيجد مثلا رجلا أكبر سنا منه فيتأخر ويقدمه لا لأنه ممن عناهم قوله عليه الصلاة والسلام : ( لِيَلَني منكم أولو الأحلام والنُّهى ). وإنما لأنه كبير السن صاحبه صديقه فيؤثره بفضل الصف الأول هذا خطأ وعلى ذلك فقس.
فالإيثار في الطاعات والعبادات هذا مكروه شرعا
أما الإيثار المذكور في الآية السابقة فهو في الطعام والشراب ونحو ذلك ما الأمور العاديات وهذا ما أردت التذكير بهذه في تلك المناسبة. ولذلك نستطيع أن نقول في ذلك فليتنافس المتنافسون . انتهى من (سلسلة الهدى والنور للعلامة الالبانى رحمه الله (0833))
وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
أن الإيثار بالقُرَب على نوعين :
النوع الأول : القُرَب الواجبة : فهذه لا يجوز الإيثار بها،
ومثاله : رجل معه ماء يكفي لوضوء رجل واحد فقط وهو على غير وضوء، وصاحبه الذي معه على غير وضوء ففي هذه الحال لا يجوز أن يؤثر صاحبه بهذا الماء؛ لأنه يكون قد ترك واجباً عليه وهو الطهارة بالماء فالإيثار في الواجب حرام.
وأما الإيثار: بالمستحب : فالأصل فيه أنه لا ينبغي بل صرح بعض العلماء بالكراهة، وقالوا : إن إيثاره بالقُرَب يفيد أنه في رغبةٍ عن هذه القُرَب لكن الصحيح أن الأولى عدم الإيثار، وإذا اقتضت المصلحة أن يؤثر فلا بأس
مثل : أن يكون أبوه في الصف الثاني وهو في الصف الأول ويعرف أن أباه من الرجال الذين يكون في نفوسهم شيءٌ إذا لم يقدمهم الولد، فهنا نقول : الأفضل أن تقدم والدك،
أما إذا كان من الآباء الطيبين الذين لا تهمهم مثل هذه الأمور فالأفضل أن يبقى في مكانه،ولو كان والده في الصف الثاني، وكذلك بالنسبة للعالم . انتهى من ( لقاءات الباب المفتوح 35/22).
قال العلامة ابن القيِّم رحمه الله :
الله سُبحانَه وتعالَى يُحبُّ المُبادَرةَ أو المُسارَعةَ إلى خدمتِه، والتَّنافُسَ فيها؛ فإنَّ ذلك أبلَغُ في العُبوديَّةِ؛ فإنَّ المُلوكَ تحبُّ المُسارَعةَ والمُنافَسةَ في طاعتِها وخِدمَتِها،
فالإيثارُ بذلك مُنافٍ لمقصودِ العُبوديَّةِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه أمَر عبدَه بهذه القُربةِ إمَّا إيجابًا وإمَّا استِحبابًا، فإذا آثَر بها ترَكَ ما أُمِر به وولَّاه غيرَه... وقد كان الصَّحابةُ يُسابِقُ بعضُهم بعضًا بالقُرَبِ، ولا يُؤْثِرُ الرَّجُلُ منهم غيرَه بها . انتهى من ((الروح)) (ص: 130).
إذن الإيثار ثلاثة أقسام
- القسم الأول : وهو الممنوع :
وهو أن تؤثر غيرك بما يجب عليك شرعا، فإنه لا يجوز أن تقدم غيرك فيما يجب عليك شرعا... فالإيثار في الواجبات الشرعية حرام، ولا يحل لأنه يستلزم إسقاط الواجب عليك .
- القسم الثاني : وهو المكروه أو المباح :
فهو الإيثار في الأمور المستحبة، وقد كرهه بعض أهل العلم، وأباحه بعضهم، لكن تــركه أولى لا شك إلا لمصلحة.
- القسم الثالث : وهو المباح :
وهذا المباح قد يكون مستحبا، وذلك أن تؤثر غيرك في أمر غير تعبدي أي تؤثر غيرك، وتقدمه على نفسك في أمر غير تعبدي . انتهى من ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (3/416-417).
وأما معنى قوله تعالى :
﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ﴾. [الحشر: 9]. الإيثار المحمود الذي أثنى الله على فاعله هو الإيثار بالدنيا لا بالوقت والدين وما يعود بصلاح القلب .
فالإيثار المذكور في الآية هو في الطعام والشراب ونحو ذلك فى الأمور الدنياوية وهو إيثار مستحب وذلك أن تؤثر غيرك على نفسك في أمر غير تعبُّدي .
سبب نزول هذه الآية :
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه : (( أنَّ رَجُلًا أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبَعَث إلى نسائِه فقُلْنَ : ما مَعَنا إلَّا الماءُ! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : مَن يَضُمُّ أو يُضيفُ هذا؟
فقال رجُلٌ مِن الأنصارِ : أنا، فانطلَقَ به إلى امرأتِه، فقال : أكرِمي ضَيفَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقالت : ما عِندَنا إلَّا قوتُ صِبياني،
فقال : هَيِّئِي طعامَكِ، وأَصْبِحي (أوقِدِيه) سِراجَكِ، ونَوِّمي صِبيانَكِ إذا أرادوا عَشاءً، فهَيَّأَت طَعامَها، وأصبَحَت سِراجَها، ونوَّمَت صِبيانَها، ثمَّ قامت كأنَّها تُصلِحُ سِراجَها فأطفَأَتْه! فجعَلَا يُرِيانِه أنَّهما يأكُلانِ، فباتا طاوِيَينِ (بغَيرِ عَشاءٍ) !
فلمَّا أصبَحَ غَدَا إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال : ضَحِكَ اللهُ اللَّيلةَ، أو عَجِبَ مِن فِعالِكما! فأنزَلَ اللهُ : وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )). (رواه البخاريُّ (3798) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2054).).
قال الإمام الطَّبري رحمه الله :
يقول تعالى ذكره : وهو يصفُ الأنصار : وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قبل المهاجرين، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ يقول : ويعطون المهاجرين أموالهم إيثَارًا لهم بِها على أنفسهم وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ يقول : ولو كان بهم حاجة وفاقة إلى ما آثَرُوا به مِن أموالهم على أنفسهم . ينظر : [317] ((جامع البيان)) (22/527)
وقال العلامة السعدي رحمه الله :
الإيثار بمحاب النفس من الأموال وغيرها، وبذلها للغير مع الحاجة إليها، بل مع الضرورة والخصاصة، وهذا لا يكون إلا من خلق زكي، ومحبة لله تعالى مقدمة على محبة شهوات النفس ولذاتها،
ومن ذلك قصة الأنصاري الذي نزلت الآية بسببه، حين آثر ضيفه بطعامه وطعام أهله وأولاده وباتوا جياعا . انتهى من ( تفسير السعدى)
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق