لا يجوز للمسلم أن يؤثر غيره على نفسه في القربات والطاعات،
لأن الهدف من العبادات هو تعظيم الله وإجلاله، والإيثار فيها يُعد تفريطًا في هذا التعظيم.
** وأما الإيثار المشروع فيقتصر على أمور الدنيا التي تتعلق بحاجات الناس، كالإيثار بالطعام والشراب وهذا معنى قوله : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. [الحشر: 9]،
أما فيما يخص العبادات والقربات، فلا يصح الإيثار بها.
* مثال ذلك : أن الوقوف فى الصف الأول فى الصلاة قُرْبة وطاعة،
فلا يحق لك أن ترجع عن الصف الأول وتدخل غيرك مكانك، لأنه زُهْدٌ في الأجر، ولا يجوز للمسلم أن يزهد في الأجر.
** ومعنى الإيثار فى العبادة أو بالقُرب : هو أن يقدم المسلم أخاه في أمر من الأمور الدينية التي تُقرب إلى الله تعالى.
ومما يدل على ذلك :
1- قال الله تعالى : وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ. [المطففين:26].
* في أمور الآخرة : ينبغي للإنسان أن يجتهد ويسارع لنيل النعيم الأبدي الذي لا يزول ولا يتغير،
والإيثار في هذا الجانب قد يعكس تقصيرًا أو عدم تقدير لما أعده الله من فضل وثواب.
2- ما رواه البخاري بإسناده: عن سهل بن سعد رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بشراب فشرب منه – وعن يمينه غلام وعن يساره الأشياخ –
فقال للغلام : أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام : والله يا رسول الله، لا أوثر بنصيبي منك أحداً. قال فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ".
* فبين الغلام (وهو ابن عباس رضي الله عنه) العلة في عدم الإيثار، وأنه ليس كونه شرابا،
وإنما هو لحلول أثر بركته صلى الله عليه سلم عليه؛ لكونه ما فضل من شرابه، وذلك محل تنافس أصحاب الهمم .
** وإليك كلام أهل العلم :
- قال الإمام النووي رحمه الله :
وقد نص أصحابنا وغيرهم من العلماء على أنه لا يؤثر في القرب، وإنما الإيثار المحمود ما كان في حظوط النفس دون الطاعات،
قالوا : فيكره أن يؤثر غيره بموضعه من الصف الأول وكذلك نظائره. ينظر: (شرح النووي على مسلم (13/201)).
- وقال العلامة ابن القيِّم رحمه الله :
في قوله تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. أن الشارع لم يجعل الطاعات والقربات محلا للإيثار، بل محلا للتنافس والمسابقة؛
ولهذا قال الفقهاء : « لا يستحب الإيثار بالقربات »،....فإن المقصود رغبة العبد في التقرب إلى الله، وابتغاء الوسيلة إليه، والمنافسة في محابه.
والإيثار بهذا التقرب يدل على رغبته عنه، وتركه له، وعدم المنافسة فيه، وهذا بخلاف ما يحتاج إليه العبد من طعامه وشرابه ولباسه إذا كان أخوه محتاجا إليه،
فإذا اختص به أحدهما فات الآخر؛ فندب الله سبحانه عبده إذا وجد من نفسه قوة وصبرا على الإيثار به ما لم يخرم عليه دينا، أو يجلب له مفسدة. ينظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 299، 300).
- وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
مثال : ترك مكان في الصف الأول لكبير في السن إيثارا،
هذا التزاحم على التقدم في الصفوف كما رأيت أخانا أبا عبد الله هذا يذكرني بأن كثيرا من إخوانه عندهم أنانية ،
لكن ترى هذه الأنانية مشروعة أو غير مشروعة هذا الذي ينبغي لفت النظر إليه عندهم أنانية في الخير،
فهم لا يطبقون ظاهر وأعني ما أقول لا يطبقون ظاهر قوله تعالى : (( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )).. فترى خصاصة ظاهر هذه الآية يعمل بها كثير من الناس، وليس هذا الظاهر بمراد منها
لأن الإيثار ينقسم إلى قسمين :
1- إيثار في العبادة وفي الطاعة
2- وإيثار في أمور الدنيا
فالإيثار المذكور في الآية هو في أمور الدنيا في الطعام والشراب ونحو ذلك ، أما في العبادة والطاعة فالعكس من ظاهر الآية لا يشرع في ذلك الإيثار .
وهذا كثيرا ما يقع في الصف الأول والثاني في الصلاة،
فتجد الرجل في الصف الأول فينظر خلفه فيجد مثلا رجلا أكبر سنا منه فيتأخر ويقدمه لا لأنه ممن عناهم قوله عليه الصلاة والسلام : ( لِيَلَني منكم أولو الأحلام والنُّهى ).
وإنما لأنه كبير السن صاحبه صديقه فيؤثره بفضل الصف الأول، هذا خطأ وعلى ذلك فقس.
فالإيثار في الطاعات والعبادات هذا مكروه شرعا
أما الإيثار المذكور في الآية السابقة : فهو في الطعام والشراب ونحو ذلك ما الأمور العاديات، وهذا ما أردت التذكير بهذه في تلك المناسبة. ينظر: (سلسلة الهدى والنور- (0833)).
- وقال الشيخ العثيمين رحمه الله :
أن الإيثار بالقُرَب على نوعين :
النوع الأول: القُرَب الواجبة : فهذه لا يجوز الإيثار بها،
ومثاله : رجل معه ماء يكفي لوضوء رجل واحد فقط وهو على غير وضوء، وصاحبه الذي معه على غير وضوء،
ففي هذه الحال لا يجوز أن يؤثر صاحبه بهذا الماء؛ لأنه يكون قد ترك واجباً عليه وهو الطهارة بالماء فالإيثار في الواجب حرام.
وأما الإيثار: بالمستحب : فالأصل فيه أنه لا ينبغي بل صرح بعض العلماء بالكراهة،
وقالوا : إن إيثاره بالقُرَب يفيد أنه في رغبةٍ عن هذه القُرَب لكن الصحيح أن الأولى عدم الإيثار، وإذا اقتضت المصلحة أن يؤثر فلا بأس
مثل : أن يكون أبوه في الصف الثاني وهو في الصف الأول،
ويعرف أن أباه من الرجال الذين يكون في نفوسهم شيءٌ إذا لم يقدمهم الولد، فهنا نقول : الأفضل أن تقدم والدك،
أما إذا كان من الآباء الطيبين الذين لا تهمهم مثل هذه الأمور، فالأفضل أن يبقى في مكانه، ولو كان والده في الصف الثاني، وكذلك بالنسبة للعالم. ينظر: ( لقاءات الباب المفتوح 35/22).
** خلاصة الحكم :
- الإيثار في العبادات والقربات التي هي حق خالص لله، مثل الصلاة والصيام والطهارة، لا يجوز لأنه ينافي الغاية من العبادة.
- الإيثار في الأمور الدنيوية، كالطعام والشراب والمال، مستحب ويُثاب عليه المسلم.
فينبغي للمسلم أن يميز بين مواطن الإيثار، فيلتزم بالسباق في القربات طمعًا في رضا الله، ويحرص على إيثار إخوانه بما لا يضر دينه وآخرته.
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق