لا يجوز توقير أهل البدع والثناء عليهم أو تعظيمهم بأخذ العلم والدين عنهم ولو كان عندهم شيء من الحق ،
لأن من مخاطر ذلك هدمٌ لعرى الدين وإعانة على نقضه وفى هذا إضرارًا كبيرًا على الإسلام والمسلمين ومن يثني عليهم فهو منهم وداع لهم نسأل الله العافية.
ومن أدلة ذلك :
1- قال تعالى : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينّك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ). [ الأنعام : 68 ].
قال القرطبي رحمه الله :
في هذه الآية رد من كتاب الله عز وجل على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويصوبوا آراءهم تقية ،
وذكر الطبري عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنه أنه قال : لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله .
قال ابن العربي : هذا دليل على أن مجالسة أهل الكبائر لا تحل.
قال ابن خويد منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر مؤمنا كان أو كافرا،
وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو وكنائسهم والبيع وجالسة الكفار وأهل البدع وألا تعتقد مودتهم ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم " . اهـ .
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ آثارا دالة على وجوب هجر المبتدعين عن جملة من السلف منهم أبو عمران النخعي وأيوب السختياني والفضيل بن عياض ـ رحمهم الله . انتهى من (تفسير القرطبي)
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه :
وفي هذه الآية موعظة عظيمة لمن يتمسح بمجالسة المبتدعة الذين يحرفون كلام الله ويتلاعبون بكتابه وسنة رسوله ويردون ذلك إلى أهوائهم المضلة وبدعهم الفاسدة ،
فإنه إذا لم ينكر عليهم ويغير ما هم فيه فأقل الأحوال أن يترك مجالستهم ، وذلك يسير عليه غير عسير
وقد يجعلون حضوره معهم مع تنزهه يتلبسون به شبهة يشبهون بها على العامة فيكون في حضوره مفسدة زائدة على مجرد سماع المنكر ،
وقد شاهدنا من هذه المجالس الملعونة ما لا يأتي عليه الحصر وقمنا في نصرة الحق ودفع الباطل بما قدرنا عليه وبلغت إليه طاقتنا
ومن عرف هذه الشريعة المطهرة حق معرفتها علم أن مجالسة أهل البدع المضلة فيها من المفسدة أضعاف أضعاف ما في مجالسة من يعصي الله بفعل شيء من المحرمات ،
ولا سيما لمن كان غير راسخ القدم في علم الكتاب والسنة فإنه ربما ينفق عليه من كذباتهم وهذيانهم ماهو من البطلان بأوضح مكان فينقدح في قلبه ما يصعب علاجه ويعسر دفعه،
فيعمل بذلك مدة عمره ويلقى الله به معتقدا أنه من الحق وهو ـ والله ـ من أبطل الباطل وأنكر المنكر . انتهى من [فتح القدير 2/128].
2- ومنها قوله تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النّار ). [ هود : من الآية 113 ] .
قال القرطبي رحمه الله :
" الصحيح في معنى هذه الآية : أنها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم فإن صحبتهم كفر أو معصية إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة.
وقد قال حكيم ـ أي : طرفة بن العبد ـ : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي . اهـ (تفسير القرطبي)
3- ومن مخاطر توقير أهل البدع والثناء عليهم، قوله تعالى : ( وقَد نَزَّلَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ أَن إذَا سَمِعتُم آيَاتِ اللَّهِ يُكفَرُ بِهَا ويُستَهزَأُ بِهَا فَلا تَقعُدُوا مَعَهُم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ, غَيرِهِ إنَّكُم إذاً مِّثلُهُم إنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ والكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ). النساء (140)
قال القرطبي رحمه الله :
فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر،
قال الله - عز وجل -: ( إنَّكُم إذاً مِّثلُهُم ) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء،
وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية.
وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى
وروى جويبر عن الضحاك قال : ( دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة ).انتهى من [تفسير القرطبي 5 /418.].
4- ومنها قوله تعالى : ( وأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُستَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السٌّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ ). سورة الأنعام - الآية (153)
قال القرطبي رحمه الله :
ومضى في النساء، وهذه السورة النهي عن مجالسة أهل البدع والأهواء، وأن من جالسهم حكمه حكمهم فقال : ( وإذَا رَأَيتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ) الآية،
ثم بين في سورة النساء، وهي مدنية.عقوبة من فعل ذلك وخالف ما أمر الله به فقال : ( وقَد نَزَّلَ عَلَيكُم فِي الكِتَابِ ) الآية، فألحق من جالسهم بهم.
وقد ذهب إلى هذا جماعة من أئمة هذه الأمة، وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم : أحمد بن حنبل والأوزاعي، وابن المبارك،
فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع، قالوا : ينهى عن مجالستهم فإن انتهى وإلا ألحق بهم، يعنون في الحكم ). انتهى من [تفسير القرطبي 7 /142]. وغير هذه الآيات في هذا الحكم كثير .
** ومن مخاطر توقير أهل البدع والثناء عليهم ما جاء فى السنة من قول النبي ﷺ وفعله .
فمن قوله : ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال : " سيكون في آخر أمتي ناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم " .
قال الإمام البغوي بعد هذا الحديث ما نصه :
" قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة وظهور الأهواء والبدع فيهم ، وحكم بالنجاة لمن اتبع سنته وسنة أصحابه رضي الله عنهم
فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا أو يتهاون بشيء من السنن ،
أن يهجره ويتبرأ منه حيا وميتا فلا يسلم عليه إذا لقيه ، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته ويراجع الحق ...
إلى أن قال رحمه الله : والنهي عن الهجران فوق ثلاث فيما يقع بين الرجلين من التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا . انتهى من [شرح السنة 1/224].
قال الفضيل بن عياض رحمه الله :
من عظّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله عز وجل على محمد،
ومن زوّج كريمته من مبتدع فقد قطـع رحمهـا، ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع . انتهى من [شرح السنّة للإمام البربهاري ( ص : 139 )]
قال الشاطبى رحمه الله :
فتوقير صاحب البدعة مظنّة لمفسدتين تعودان علىٰ الإسلام بالهدم :
❶- إلتفات الجهال والعامة إلىٰ ذلك التوقير فيعتقدون في المبتدع أنه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره فيؤدي ذلك إلىٰ اتباعه علىٰ بدعته؛ دون اتباع أهل السنة على سنتهم .
❷- أنه إذا وقّر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرّض له علىٰ إنشاء الابتداع في كل شيء وعلىٰ كل حال فتحيا البدع وتموت السنن وهو هدم الإسلام بعينه .اه "الاعتصام"(١٥١/١).
وعن عقبة بن علقمة قال : " كنت عند أرطاة بن المنذر فقال بعض أهل المجلس : ما تقولون في الرجل يجالس أهل السنّة ويخالطهم فإذا ذكر أهل البدع قال : دعونا من ذكرهم لا تذكروهم؟ قال أرطأة : هو منهم لا يلبّس عليكم أمره
قال : فأنكرت ذلك من قول أرطاة قال : فقدمت على الأوزاعي وكان كشّافاً لهذه الأشياء إذا بلغته فقال : صدق أرطأة والقول ما قال هذا يَنهى عن ذكرهم ومتى يحذروا إذا لم يُشد بذكرهم " .انتهى من [تاريخ دمشق لابن عساكر ( 8/15 )]
قال ابن تيمية رحمه الله :
" ومثل أئمة البدع من أهل المقالات المخالفة للكتاب والسنة ، أو العبادات المخالفة للكتاب والسنة فإن بيان حالهم وتحذير الأمة منهم واجب باتفاق المسلمين ،
حتى قيل لأحمد بن حنبل : الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك أو يتكلم في أهل البدع . فقال : إذا قام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه ، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل ،
فبين أن هذا نفع عام للمسلمين في دينهم من جنس الجهاد في سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ، ودفع بغي هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية باتفاق المسلمين ،
ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين ، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من أهل الحرب ،
فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء . اهـ (مجموعة الرسائل والمسائل 5/ 110 لشيخ الإسلام ابن تيمية رَحِمَهُ اللهُ).
قال الإمام الحافظ محمد بن وضاح :
أخبرني غير واحد أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات : " اعلم يا أخي أن ما حملني من الكتاب إليك إلا ذكر أهل بلدك من صالح ما اعطاك الله من إنصافك الناس وحسن حالك
مما أظهرت من السنة وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة،
وقواك عليهم بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بيدك وصاروا ببدعتهم مستترين
فأبشر يا أخي بثواب ذلك واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والقيام والجهاد وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم...
إلى أن قال : وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء في الأثر :
من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة فقد مشى في هدم الإسلام ." انتهى من (كتاب مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد)
قال العلامة صالح الفوزان حفظه الله :
لايجوز تعظيم المبتدعة والثناء عليهم ولو كان عندهم شيء من الحق لان مدحهم و ثناء عليهم يروج بدعتهم ويجعل المبتدعة في صفوف المقتدى بهم من رجلات هذه الامة .
والسلف حذرون من الثقة بالمبتدعة وعن الثناء عليهم ومن مجالستهم وفيما كتب به اسد بن موسى : واياك ان يكون لك من البدع اخ او جليس او صاحب فانه جاء الاثر
( من جالس صاحب بدعة نزعة منه العصمة ووكل الى نفسه ومن مشى الى صاحب بدعة مشى الى هدم الاسلام ) .
والمبتدعة يجب التحذير منهم و يجب ابتعاد عنهم ولو كان عندهم شيء من الحق فان غالب الضلال لا يخلون من شيء من الحق ،
ولكن ما دام عندهم ابتداع وعندهم مخالفات وعندهم افكار سيئة فلا يجوز الثناء عليهم ولا يجوز مدحهم ولا يجوز التفاضي عن بدعتهم.
لأن في هذا ترويجا للبدعة و تهوينا من امر السنة وبهذه الطريقة يظهر المبتدعة ويكونون قادة للامة - لا قدر الله –
فالواجب التحذير منهم وفي ائمة السنة الذين ليس عندهم ابتداع في كل عصر ولله الحمد فيهم الكفاية للامة وهم قدوة .
فالواجب اتباع المستقيم الذي ليس عنده بدعة واما المبتدع فالواجب التحذير والتشنيع عليه حتى يحذره الناس وحتى ينقمع هو واتباعه.
واما عنده شيء الحق فهذا لا يبرر الثناء عليه اكثر من المصلحة ومعلوم قاعدة الدين : ( ان درء المفاسد مقدم على جلب المصالح )،
وفي معادات المبتدع درء مفسدة عن الامة ترجح على ماعنده المصلحة المزعومة ان كانت ولو اخذنا بهذا المبدا لم يضلل احد و لم يبدع احد لانه ما من مبتدع الا و عنده شيء من الحق و عنده شيء من الالتزام .
المبتدع ليس كافر محضا ولا مخالفا للشريعة كلها وانما هو مبتدع في بعض الامور أو غالب الامور وخصوص اذا كان الابتداع في العقيدة وفي المنهج ،
فإن الامر خطير لان هذا يصبح قدوة ومن حينئذ تنتشر البدع في الامة وينشط المبتدعة في ترويج بدعهم.
فهذا الذي يمدح المبتدعة ويشبه على الناس بما عندهم من الحق فهذا احد امرين :
1- إما جاهل بمنهج السلف وموقفهم من المبتدعة وهذا الجاهل لا يجوز ان يتكلم ولا يجوز للمسلمين ان يسمعوا له .
2- وإما أنه مغرض لانه يعرف خطر المبتدعة ولكنه مغرض يريد ان يروج للبدعة فعلى كل هذا امر خطير وامر لايجوز التساهل في البدعة واهلها مهما كانت . انتهى من ( ظاهرة التبديع والتفسيق والتكفير وضوابطها للشيخ بن فوزان )
ولخطورة الثناء على أهل البدع
انظر كيف تأثر أبو ذر الهروي راوى البخاري بمذهب الأشاعرة
فقد نقل الإمام الذهبي رحمه الله في كتابه تذكرة الحفاظ (31105) :
عن أبي الوليد الباجي في كتاب فرق الفقهاء عند ذكر أبي بكر الباقلاني لقد أخبرني أبو ذر وكان يميل إلى مذهبه فسألته من أين لك هذا؟
قال (الهروي) : كنت ماشيا مع الدارقطني فلقينا القاضي أبا بكر فالتزمه الدارقطني وقبل وجهه وعينيه فلما افترقا قلت : من هذا؟
قال (الدارقطني) : هذا إمام المسلمين والذاب عن الدين القاضي أبو بكر بن الطيب فمن ذلك الوقت تكررت إليه.
قال الحسن بن بقي المالقني : حدثني شيخ قال قيل لأبي ذر أنت هروي فمن أين تمذهبت بمذهب مالك ورأي الأشعري؟
قال : قدمت بغداد فذكر نحو مما تقدم وقال واقتديت بمذهبه. انتهى.
وذكر هذه الحادثة ابن عساكر في تبيين كذب المفتري (255)
كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية أن أبا ذر الهروي هو الذي نقل مذهب الأشاعرة إلى الحجاز.
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
وكان أبو ذر الهروي قد أخذ طريقة ابن الباقلاني وأدخلها إلى الحرم ويقال إنه أول من أدخلها إلى الحرم ،
وعنه أخذ ذلك من أخذه من أهل المغرب فإنهم كانوا يسمعون عليه البخاري ويأخذون ذلك عنه. انتهى من (درء التعارض (1149))
إذن هذه الحادثة تبين مخاطر توقير أهل البدع والثناء عليهم لما يترتب من ذلك اغترار الناس بهم والتأثر بمذهبهم كما في هذه الحادثة.
وهذه مسألة مهمة ولذلك كان السلف يحذرون من مجالسة من تلبس ببدعة وينهون عن ذلك لما يترتب على ذلك من التأثر بهم .
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق