جاء فى الأثر أن المسلم ينقص من ثوابه في الآخرة بقدر ما أخذ من متاع الدنيا وشهواتها ،
فكل ما تأخذه من الدنيا مسئولا عنه ومخصوم من حسابك في الآخرة ولذلك المؤمن يأخذ ما يكفيه وإن جاءته الدنيا أنفق لله عز وجل بقدر ما وسع عليه حتى يزاحم في الآخرة مع أهل الدرجات .
والدليل :
1- عن ابن عمر رضي الله عنه قال : " لا يصيب أحد من الدنيا إلا نقص من درجاته عند الله تعالى وإن كان عليه كريما ". صحيح الترغيب
2- وعن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث به إلى اليمن قال : إياك والتنعم ؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين . (صحيح الترغيب-رقم : (2146)) .
3- ومن ذلك أيضا هذا الحديث المرعب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة، إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث؛ وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ». أخرجه مسلم
4- وعن أبي عسيب رضي الله عنه قال : ... فأكلَ رسولُ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى وآلِهِ وسلَّمَ - وأصحابُهُ ، ثمَّ دعا بماءٍ باردٍ فشربَ فقالَ : لتُسألُنَّ عن هذا يومَ القيامةِ . قالَ : فأخذَ عمرُ العِذقَ فضربَ بهِ الأرضَ حتَّى تناثرَ البُسرُ قِبَلَ رسولِ اللَّهِ - صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلى وآلِهِ وسلَّمَ - ثمَّ قالَ : يا رسولَ اللَّهِ أئنَّا لمسئولونَ عن هذا يومَ القيامةِ ؟
قالَ ؟ نعَم ، إلاَّ من ثلاثٍ : خِرقةٍ كفَّ بها الرَّجلُ عورتَهُ، أو كِسرةٍ سدَّ بها جوعَهُ، أو جُحرٍ يتدخَّلُ فيهِ منَ الحرِّ والقُرِّ . (حديث حسن - الصحيح المسند للوادعى)
فهذه الأحاديث تدل على أن المسلم ينقص من ثوابه في الآخرة بقدر ما أخذ من الدنيا وهذا تحذير له من الركون إلى شهوات الدنيا وملذاتها فكل ما تأخذه من الدنيا مسئول عنه ومخصوم من حسابك في الآخرة .
5- وها هو النبي صلى الله عليه وسلم رفض دخول بيت إبنته فاطمة رضى الله عنها لأنه رأى على باب بيتها سترا به ألوان فقد اعتبره ترفا ورفاهية وقال مالي وللدنيا؟!. ففى صحيح البخارى :
أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة، فلم يدخل عليها، وجاء علي، فذكرت له ذلك، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم، قال : إني رأيت على بابها سِتْرًا مَوْشِيًّا، فقال : ما لي وللدنيا؟! فأتاها علي، فذكر ذلك لها، فقالت : ليأمرني فيه بما شاء، قال : ترسل به إلى فلان؛ أهل بيت بهم حاجة .
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا لعلمه بحقيقتها وأنها دار فناء وليست باقية ،
وإنما هي مرحلة يتزود فيها المسلم من الأعمال الصالحة والطاعات حتى يعيش الحياة الباقية في جنة الله عز وجل وكان صلى الله عليه وسلم يربي أهل بيته وأصحابه على هذه المعاني.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ فِي مَعْرِضِ الْكَلامِ عَلَى الزُّهْدِ :
والمقتصد منهم أخذ الدنيا من وجوهها المباحة وأدى واجباتها، وأمسك لنفسه الزائد على الواجب يتوسع به في التمتع بشهوات الدنيا، وهؤلاء قد اختلف في دخولهم في اسم الزهادة في الدنيا، كما سبق ذكره،
ولا عقاب عليهم في ذلك ، إلا أنه ينقص من درجاتهم في الآخرة بقدر توسعهم في الدنيا. قال ابن عمر : لا يصيب عبد من الدنيا شيئًا إلا نقص من درجاته عند الله وإن كان عليه كريمًا. خرجه ابن أبي الدنيا بإسناد جيد.
وروى الإمام أحمد في كتاب "الزهد" بإسناده : أن رجلًا دخل على معاوية ، فكساه ، فخرج فمر على أبي مسعود الأنصاري ، ورجل آخر من الصحابة ، فقال أحدهما له : خذها من حسناتك، وقال الآخر : خذها من طيباتك .
وقال الفضيل بن عياض : إن شئت استقل من الدنيا وإن شئت استكثر منها، فإنما تأخذ من كيسك .
ويشهد لهذا إن الله حرم على عباده أشياء من فضول شهوات الدنيا وزينتها وبهجتها حيث لم يكونوا محتاجين إليه وادخره لهم عنده في الآخرة وقد وقعت الإشارة إلى هذا بقوله عز وجل { وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ }. الزخرف.
وصح عن النبي ﷺ أنه قال : من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة.
وقال : لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في إناء الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة.
وقال وهب إن الله عز وجل : قال لموسى عليه السلام : إني لأذود أوليائي عن نعيم الدنيا ورخائها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك العرة وما ذلك لهوانهم علي ولكن ليستمسكوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرا لم أعجل لهم شيئًا في الدنيا لم تكمله.
ويشهد لهذا ما خرجه الترمذي عن قتادة بن النعمان عن النبي ﷺ قال : إن الله إذا أحب عبدًا حماه عن الدينا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء. وخرجه الحاكم ولفظه : إن الله ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه.
وفي صحيح مسلم : عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ قال : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر . انتهى كلامه رحمه الله من ( جَامِعِ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ ج1/ص293).
قال العلامة المناوي في (فيض القدير) :
لأن التنعم بالمباح وإن كان جائزاً لكنه يوجب الأنس به ثم إن هذا محمول على المبالغة في التنعم والمداومة على قصده ،
فلا ينافيه ما ورد في المستدرك وغيره أن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم أهديت له حلة اشتريت بثلاثة وثلاثين بعيراً وناقة فلبسها مرة ،
على أنه وإن داوم على ذلك فليس غيره مثله فإن المعصوم واقف على حدود المباح فلا يحمله ذلك على ما يخاف غائلته من نحو بطر وأشر ومداهنة وتجاوز إلى مكروه ونحو ذلك وأما غيره فعاجز عن ذلك . اهـ.
قال العلامة ابن باز رحمه الله :
ينبغي للإنسان أن يفعل بعض الشيء من جهة التَّقلل ، ومن جهة الزهد في بعض الشيء ؛ حتى يُعوّد نفسه القناعة،
لا يكون دائمًا دائمًا على شراء الملذات والطيبات، بل بعض الأحيان يتقشَّف بعض الشيء، ويتخفف بعض الشيء؛ حتى لا تعتاد النفسُ الرغبة في هذه الأشياء التي تُعتبر من ملذَّاتها العاجلة، ومن مشاغلها العاجلة،
ومن التَّكلف حتى يحتاج إلى أموالٍ كثيرةٍ ربما سببت له الوقوع في أكسابٍ ما هي طيبة ، أو اقتراض قد يشقّ عليه دفعه،
وأما إذا يسَّر الله فالأمر واسعٌ بحمد الله، مثلما قال جلَّ وعلا : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ. [البقرة:172]، الأمر واسع، وقال تعالى : يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا. [المؤمنون:51]، فإذا كان عن يسرٍ، وعن عدم تكلُّفٍ؛ فالحمد لله . انتهى.
وقال العلامة العثيمين رحمه الله :
ومع هذا؛ فإن الناس كلما ازادوا في الرفاهية، وكلما انفتحوا على الناس؛ انفتحت عليهم الشرور، فالرفاهية هي التي تدمر الإنسان؛
لأن الإنسان إذا نظر إلى الرفاهية وتنعيم جسده؛ غفل عن تنعيم قلبه، وصار أكبر همه أن ينعم هذا الجسد الذي مآله إلى الديدان والنتن، وهذا هو البلاء، وهذا هو الذي ضر الناس اليوم،
لا تكاد تجد أحداً إلا ويقول : ما قصرنا ؟ ما سيارتنا ؟ ما فرشنا ؟ ما أكلنا؟
حتى الذين يقرءون العلم ويدرسون العلم، بعضهم إنما يدرس لينال رتبة أو مرتبة يتوصل بها إلى نعيم الدنيا .
وكأن الإنسان لم يخلق لأمر عظيم، والدنيا ونعيمها إنما هي وسيلة فقط . نسأل الله أن نستعمله وإياكم وسيلة فقط
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - ما معناه : ينبغي على الإنسان أن يستعمل المال كما يستعمل الحمار للركوب، وكما يستعمل بيت الخلاء للغائط .
فهؤلاء هم الذين يعرفون المال ويعرفون قدره، لا تجعل المال أكبر همك، اركب المال، فإن لم تركب المال ركبك المال، وصار همك هو الدنيا.
ولهذا نقول : إن الناس كلما انفتحت عليهم الدنيا، وصاروا ينظرون إليها، فإنهم يخسرون من الآخرة بقدر ما ربحوا من الدنيا، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
( والله ما الفقر أخشى عليكم ) يعني ما أخاف عليكم الفقر، فالدنيا ستفتح ( ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوا كما تنافسوها ، وتهلككم كما أهلكتكم ) ، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام،
هذا الذي أهلك الناس اليوم، الذي أهلك الناس اليوم التنافس في الدنيا، وكونهم كأنهم إنما خلقوا لها لا أنها خلقت لهم، فاشتغلوا بما خلق لهم عما خلقوا له، وهذا من الانتكاس -نسأل الله العافية . انتهى من (شرح رياض الصالحين الشريط (17) باب المبادرة إلى الخيرات).
فينبغى على العبد على ترك الإنشغال بفضول الدنيا فيما زاد على حوائجه الأصلية وصرف الهمة إلى الباقيات الصالحات التي تنفعه عند الله يوم القيامة .
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق