يُشترط تبييت النية فى الفرض والتطوع من الليل فالصوم لا يُجزئ إلا إذا تقدمت النية على سائر أجزائه فإن طلع الفجر ولم ينوه لم يجزه في سائر أنواع الصيام .
وهو وارد عن ابن عمر وحفصة وعائشة رضي الله عنهم وإليه ذهب الإمام مالك والليث وابن أبي ذئب وداود ونصره ابن حزم والصنعاني .
ودليل ذلك :
1- عَنْ حَفْصَةَ رضي الله
عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ : « مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ
الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ ». (صحيح النسائي).
قوله : " فلا صِيامَ له "، أي: لا يُجزِئُ صومُه الَّذي صامَه بدونِ نيَّةٍ وعزمٍ يَسبِقُه قبلَ الفجرِ .
وهذا القول هو الذي تقتضيه قواعد الأصول وذلك لأن المسلَّم به عند الجميع أنه " لا عمل إلا بنية " و"إنما الأعمال
بالنيات" وهذا أسلوب حصر.
وأيضا فقولـه : "من لم يجمع الصيام من الـلـيل فلا صــيام لـه" يدل على نفي عموم الصيام الذي لم يتوفر فيه هذا الشرط ولا يخرج عنه إلا ما قام الدليل على تخصيصه ولا دليل قائم لمن نفاه عن صيام التطوع .
زد على ذلك أنه قد جاء عن عائشة رضي الله عنها ـ كما في المحلى ـ أنها قالت : لا يصوم الا من أجمع الصيام قبل الفجر.
فهل يُعقَل أن تقول مثل هذا القول ولم تستثن صيام التطوع وهي تعلم أن رسول الله كان يصومه دون تبييتها؟!!.
قال ابن العربي المالكي : « هذا الحديث ركنٌ من أركان العبادات وأصلٌ من أصول مسائل الخلاف ».اه (المسالك (4/ 168)).
2- وعن عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - أنهما قالتا : " لَا يَصُوْمُ إِلاّ مَنْ أَجْمَعَ الصِّيَامَ قَبْلَ الفَجْرِ". أخرجه مالك في "الموطأ" (١/ ٢٨٨) - (صحيح النسائي -رقم : (2340)).
3- عن نافع، عن عبدالله بن عمر أنه كان يقول : « لا يصوم إلا من أجمع الصيام قبل الفجر». صحيح النسائي - رقم: (2342)
قال الإمام ابن حزم رحمه الله في "المحلى" في معرض كلامه عن حديث عائشة رضي الله عنها :
عن أم المؤمنين عائشة : { أن رسول الله ﷺ قال لها : هل عندكم من شيء ؟ وقال مرة : من غداء ؟ قلنا : لا ، قال : فإني إذن صائم } . وقال لها مرة أخرى : { هل عندكم من شيء ؟ قلنا : نعم ، أهدي لنا حيس ، قال : أما إني أصبحت أريد الصوم فأكل } .........
" قال : وهذا الخبر صحيح عن رسول الله ﷺ إلا أنه ليس فيه أنه عليه السلام لم يكن نوى الصيام من الليل ولا أنه عليه السلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم بعد ذلك .
ولو كان هذا في ذلك الخبر لقلنا به لكن فيه أنه عليه السلام كان يصبح متطوعا صائما ثم يفطر وهذا مباح عندنا لا نكرهه كما في الخبر فلما لم يكن في الخبر ما ذكرنا.
وكان قد صح عنه عليه السلام :"لا صيام لمن لم يبيته من الليل" لم يجز أن نترك هذا اليقين لظن كاذب .
ولو أنه عليه الصلاة والسلام أصبح مفطرا ثم نوى الصوم نهارا لبينه كما بين ذلك في صيام عاشوراء إذ كان فرضا والتسمح في الدين لا يحل ".أهـ.
وقال العلامة الصنعاني رحمه الله في معرض كلامه عن حديث عائشة رضي الله عنها :
قوله : " قال : فإني صائم ". ليس فيه دليل أنَّه أنشأ نية الصوم تلك، بل فيه إخبار بأنَّه صائم، ومعلوم أنَّ زمان الخبر متقدم على زمان الإخبار، ويدل لتقدم النية ،
قوله في هذا الحديث : " كنت أصبحت صائماً " أي : دخلتُ في الصباح صائماً، ولا يكون إلاَّ بنية من قبل الفجر، لأنَّ الصباح من بعده . انتهى من (كتاب التحبير لإيضاح معاني التيسير).
قال الشيخ فركوس حفظه الله - معلقا على حديث عائشة الاتى :
( قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ذات يوم " يا عائشة ! هل عندكم شيء ؟ " قالت فقلت : يا رسول الله ! ما عندنا شيء . قال " فإني صائم " قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأهديت لنا هدية ( أو جاءنا زور ) .
قالت : فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت : يا رسول الله ! أهديت لنا هدية ( أو جاءنا زور ) وقد خبأت لك شيئا . قال " ما هو ؟ " قلت : حيس . قال " هاتيه " فجئت به فأكل
.
ثم قال : " قد كنت أصبحت صائما " . قال طلحة : فحدثت مجاهدا بهذا الحديث فقال : ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها وإن شاء
أمسكها ) . رواه مسلم
وقد قال النووي في شرح صحيح مسلم :
..وهاتان الروايتان هما حديث واحد والثانية مفسرة للأولى ومبينة أن القصة في الرواية الأولى كانت في يومين لا في يوم واحد كذا قاله القاضي وغيره ، وهو ظاهر... .انتهى.
وفى رواية أخرى : قالت : دخل علي النبي ﷺ ذات يوم فقال : " هل
عندكم شيء؟" فقلنا : لا. قال : " فإني إذن صائم".
ثم أتانا يوما آخر، فقلنا : يا رسول الله، أهدي لنا حيس. فقال : "أرينيه، فلقد أصبحت صائما". فأكل".
قال الشيخ والمختار عندي ـ مذهبُ مَنْ تمسَّك بعموم
التبييت وعدم العمل بخصوص حديثِ عائشة رضي الله عنها ،
لاحتماله أنَّه صلَّى
الله عليه وسلَّم قد نوى الصومَ مِنَ الليل وإنَّما أراد الفطرَ لمَّا ضَعُفَ عن الصوم ذلك لأنَّ لفظةَ : «إذًا» صِلةٌ ـ عند أهل اللغة إذا كانَتْ متوسِّطةً.
وعليه فيُحْمَلُ المعنى على أنَّه خبرٌ عن صيامٍ متقدِّمٍ لا صيامٍ ابتدأه لوقته وتؤيِّد هذا المعنى روايةُ : « فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا » وروايةُ : « قَدْ كُنْتُ أَصْبَحْتُ صَائِمًا »،
وفي أخرى : « أَمَا إِنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ وَأَنَا صَائِمٌ » وليس في الحديث ـ أيضًا ـ أنَّه أصبح مفطرًا ثمَّ نوى الصومَ نهارًا فلو كان كذلك لَبيَّنه ولَنُقِل إلينا .
ثم إنَّ حديث حفصة رضي الله عنها أمر قوليٌّ وحديثَ عائشة فعلٌ محتمل و«طَاعَتُهُ صلَّى الله عليه وسلَّم فِي أَمْرِهِ أَوْلَى مِنْ
مُوَافَقَتِهِ فِي فِعْلٍ لَمْ يَأْمُرْنَا بِمُوَافَقَتِهِ فِيهِ بِاتِّفَاقِ المُسْلِمِينَ»،
وخاصَّةً مع وجود الاحتمال السابق لأن «المُحْتَمَلَ يُرَدُّ إِلَى العَامِّ» وحديث عائشة رضي الله عنها أعمُّ مِنْ أَنْ يكون بيَّت الصومَ ،
ولا يمكن الاحتجاجُ بمذهب الصحابيِّ في هذه
الحال لأنَّه ظَهَر له مخالِفٌ مِنَ الصحابة إذ المقرَّرُ في الأصول أنَّ : « الصَّحَابَةَ إِذَا اخْتَلَفُوالَمْ يَجُزِ العَمَلُ بِأَحَدِ
القَوْلَيْنِ إِلَّا بِتَرْجِيحٍ ».
وقوله : « فَلَا صِيَامَ لَهُ » : نكرةٌ في سياق النفي رُكِّبَتْ مع « لا » النافية للجنس فَبُنِيَتْ على الفتح والنكرةُ ،
إذا كانَتْ كذلك فهي نصٌّ صريحٌ في العموم فيَعُمُّ كُلَّ صيامٍ ولا يخرج عنه إلَّا ما قام الدليلُ على أنَّه لا يُشترطُ فيه التبييتُ.
ومن هذه الصيغةِ عمَّم مالكٌ وزُفَر وداودُ الظاهريُّ والمُزَنيُّ التبييتَ
لسائرِ أنواع الصيام الفرضِ والنفل والقضاء والكفَّارة والنذر معيَّنًا
كان أو مطلقًا ،
وعليه استدلُّوا بالحديث على عدمِ جوازِ صوم النفل إلَّا
بنيَّةٍ مِنَ الليل كالفرض لعدمِ قيام الدليل على التخصيص ،
وبهذا قال ابنُ
حزمٍ وتابعه الصنعانيُّ والشوكانيُّ وهو مرويٌّ عن ابنِ عمر رضي الله
عنهما وجابر بنِ زيدٍ التابعيِّ وغيرهما.
قوله : «قَبْلَ الفَجْرِ» و «مِنَ اللَّيْلِ» :يُفْهَم منه عدمُ صحَّةِ النيَّة بعد الفجر وانقضاءِ الليل ولو بلحظةٍ وهو مذهبُ الجمهور .
وأما الاستدلال بحديثِ عاشوراءَ
فخارجٌ عن محلِّ النزاع لأن المُتنازَع فيه إنَّما هو الصيام الواجب المقدورُ عليه إيقاع النيَّة مِنْ نهارٍ في صومِ عاشوراءَ بعد النداء إنَّما صحَّ ضرورةً لأهل الأعذارـ كما سيأتي ـ.
وعليه يتعيَّن البقاءُ على الأصلين المتمثِّلَيْن في عموم حديث التبييت ـ مِنْ جهةٍ وعدمِ الفرق بين الفرض والنفل والقضاء والنذر ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ
ما لم يَقُمْ ما يرفعهما و« النَّصُّ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ إِلَّا إِذَا كَانَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَهُ ». انتهى
الخلاصة
مما سبق يظهر أن صيام التطوع يشترط له تبييت النية من قبل الفجر كالفرض تماما وكذا غيره من أنواع الصيام هذا هو أرجح الأقوال وأصوبها ،
وإلا لكان كل من تأخر عنه الأكل والشرب ولو لساعات معدودة يعتبر صائما على قول من يقول بعدم إشتراط النية وهذا ما ألزمهم به ابن حزم رحمه الله .
وأما استدلالهم بآثار الصحابة فما صح منها هو إجتهاد منهم رضي الله عنهم لا يترك لأجلها حديث رسول اللهﷺ وقول الصحابي حجة ما لم يخالف النص وهنا خالف عموم النص فلا يعتد به.
وأيضا فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا على ذلك بل خالف في ذلك عبد الله بن عمر وعائشة وحفصة رضي الله عنهم فاشترطوا تبييت النية من الليل كما تقدمت الإشارة إليه ،
وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم حجة على بعض بل ينظر ما تؤيده أدلة الكتاب والسنة فيصار إليه.
ولذا الناظر للأدلة يجد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لنا ولا في دليل واحد بأن للإنسان الصوم من النهار في التطوع ولا عن طريق صحيح عن الصحابة الكرام .
لأن الصيام من النهار مسألة دقيقة وهي فرع عن أصل واضح وضوح الشمس أن الصيام من الليل فقط لحديث حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له . ولفظة : "صوم " عامة في كل صوم.
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق