الصحيح أن المقصود بـ (الْمُطَهَّرُونَ) فى الآية هم الملائكة وليس نحن البشر فنحن نتطهر ولسنا مطهرون ، كما قال جماهير السّلف مِن المفسّرينَ والمحدّثين والفُقهاء.
وهذا تفسير الصحابة رضى الله عنهم وتفسيرهم في حكم المرفوع ، ومن لم يجعله مرفوعًا فلا ريب أنَّه عنده أصحُّ من تفسير مَنْ بَعد الصحابة،
والصحابةُ أعلم الأمَّة بتفسير القرآن، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم. ينظر: ("التبيان في أيمان القرآن" (1/ 330)).
إذاً سقط الاستدلال بالآية على منع المُحدث حدثا أصغر أو أكبر من مس المصحف، والأصل براءة الذمة.
ولو كان المراد بالآية البشر لقال لا يمسه إلا المطّهِرون يعني المتطهّرين وفرق بين المطهّر اسم مفعول وبين المتطهّر اسم فاعل، كما قال تعالى (( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ))
وقال في أهل قباء : (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)، وقال في شأن النساء : (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ)، فالناس يتطهّرون ولا يُوصفون بأنهم (مُطهّرون ).
- قال الإمام ابن حزم رحمه الله : قوله تعالى : { لا يَمَسّه إِلاَّ المُطَهَّرونَ }.(سورة الواقعة)؛ بأنَّه خبر وليس أمراً، وأنَّنا رأينا المصحف يمسُّه الطَّاهر وغير الطَّاهر،
فنعلم أنَّ الله -عزّ وجلّ- لم يعْنِ المصحف، وإنما عنى كتاباً آخر، وأورد بعض أقوال السَّلف أنَّهم الملائكة الذين في السَّماء. انتهى من ("المحلَّى" (1/ 107)).
** جاء فى تفسير الطبري وغيره :
قال ابن عباس : (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ). قال : الكتاب الذي في السماء . وقال مرة : يعني الملائكة.
وكذا ورد عن ابن مسعود حيث قال : هو الذكر الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة.
قال قتادة : (لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ). قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ،
فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس ، وقال : وهي في قراءة ابن مسعود ( ما يمسه إلا المطهرون )،
وقال أبو العالية ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) قال : ليس أنتم أنتم أصحاب الذنوب .
قال الإمام مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية : ( لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ) إنما هي بمنـزلة هذه الآية التي في عبس وتولى؛ قول الله تبارك وتعالى:
(كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُف مُكَرَّمَة * مَرْفُوعَة مُطَهَّرَة * بِأَيْدِي سَفَرَة * كِرَام بَرَرَة) .
وذكر الطبري : أن هذا قول : ابن عباس، وسعيد بن جبير وأبي نهيك، وعكرمة، ومجاهد وغيرهم. انتهى.
** الرد على المانعين:
- قال المانعون: أن المراد بقـــوله تعالى ﴿ لا يَمَـسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ ﴾ أى لايمس القرآن إلا المطهرون ،والآية خبر تضمن نهياً.
والجواب على ذلك: ليس بصواب فالآية على صورة الخبر ، وليست على صــورة النهى ، والأصل فى الكلام صرفه على ظاهره،
فلا يجوز أن يصرف لفـظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي ، أو إجماع متيقن ، ولم يثبت شيء من ذلك ،
والقول بأن ﴿ لا يمسه ﴾ نهي قول فيه ضعف ، و ذلك أنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة، وقوله بعد ذلك : ﴿ تنزيل ﴾ : صفة أيضاً،
فإذا جعلناه نهياً جاء معنى أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في رصف الكلام ، ذكره ابن عطية فى تفسيره .
- وقالوا أيضا: أن لفظ الآية خبر، والخبر يفيد الطلب لذا القرآن هو المقصود وليس الذكر الذي في السماء لأن الملائكة مطهرون دوماً.
والجواب على ذلك: أن الأصل في الخبر الإخبار لا الطلب ومن يصرفه عن حقيقته فهو المطالب بالدليل ولا دليل لديه، فيجب أن يبقى الكلام على ظاهره وأن تكون الجملة هنا خبريّة .
- وقالوا أيضا: إذا كانت الصـــحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون ، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر
وقالوا يمكن الاستدلال بالآية بقيـاس بنــي آدم على الملائكة أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية من باب التنبيه والإشارة.
الجواب على ذلك: هذا قياس مع الفارق ؛ لأن هذا قياس عالم الشهادة علي عالم الغيب ،
فالملائكة ليســوا كالبشر فلا يأكلون، ولا يشربون ،ولا ينامون ، ولا يتزوجون ،والله قد طهرهم من الآفات والذنوب.
- وقالوا أيضا قوله ﴿ فاطهروا ﴾ فدل على أن المحدث ليس بطاهر ، وإلا لكان ذلك أمراً بتطهير الطاهر وهذا غير مسلم.
والجواب على ذلك: فنقول الطاهر من المشتركات اللفظية ، يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر، والطاهر من الحدث الأصغر،
ويطلق على المؤمن، وعلى من ليس على بدنه نجاسة ، ولابد لحمله على معين من قرينة .
إذاً سقط الاستدلال بالآية على منع المُحدث حدثا أصغر أو أكبر من مس المصحف، والأصل براءة الذمة. انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله في تقرير دلالة الآية الكريمة على ذلك :
" فصل : ثُمَّ قال تعالى : فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. [الواقعة: 78]، اختلف المفسِّرون في هذا ، فقيل: هو اللوح المحفوظ .
والصحيح أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، وهو المذكور في قوله تعالى : فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ). [عبس: 13 - 16].
قال مالك : "أحسن ما سمعت في هذه الآية - يعني قوله : لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ - أنها مثل التي في "عَبَسَ": فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ.
ويدلُّ على أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله : لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. فهذا يدلُّ على أنَّه بأيديهم يَمَسُّونَهُ وهذا هو الصحيح في معنى الآية.
ومن المفسِّرين من قال : إنَ المراد به أنَّ المصحف لا يَمَسُّه إلا طاهرٌ.
والأوَّلُ أرْجَحُ لوجوهٍ :
أحدها: أنَّ الآية سيقت تنزيها للقرآن أنْ تنزِلَ به الشياطين، وأنَّ مَحَلهُ لا يصل إليه فيمسَّهُ إلا المطهَرون،
فيستحيل على أَخَابِثِ خلق الله - وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يَمَسُّوه، كما قال تعالى : وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ. [الشعراء: 210 - 211] .
فنفَى الفعلَ وتأَتِّيه منهم، وقدرتَهم عليه، فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه.
فإنَّ الفعلَ قد ينتفي عمَّنْ يَحْسُنُ منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنَفَى عنهم الأمور الثلاثة.
وكذلك قوله -تعالى- في سورة "عبس" : فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16). [عبس: 13 - 16]،
فوصَفَ مَحَلَّهُ بهذه الصفات بيانًا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزَّلَ به. وتقرير هذا المعنى أهمُّ وأجلُّ وأنفعُ من بيان كون المصحف لا يمسُّه إلا طاهرٌ.
الوجه الثاني: أنَّ السورةَ مكَيَّةٌ، والاعتناء في السُّوَرِ المكَيَّةِ إنَّما هو بأصول الدِّين، من تقرير التوحيد، والمَعَاد، والنُّبوَّة.
وأمَّا تقرير الأحكام والشرائع فمظِنَّتُهُ السُّوَرُ المدنيَّةُ.
الثالث: أنَّ القرآنَ لم يكن في مُصْحَف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
وإنَّما جُمِعَ في المصحف في خلافة أبي بكر. وهذا وإنْ جازَ أن يكون باعتبار ما يأتي؛ فالظاهر أنَّه إخبارٌ بالواقع حال الإخبار.
يوضِّحُهُ :
الوجه الرابع: وهو قوله : فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)، و"المَكْنُون": المَصُون المَسْتُور عن الأعين الذي لا تناله إيدي البَشَر،
كما قال تعالى : كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49). [الصافات: 49]، وهكذا قال السلف :
قال الكلبي : " مَكْنُونٌ من الشياطين ".
وقال مقاتل :" مَسْتُور " .
وقال مجاهد : " لا يصيبه ترابٌ ولا غُبَارٌ " .
وقال أبو إسحاق : " مَصُونٌ في السماء " .
يوضِّحُهُ :
الوجه الخامس: أنَّ وَصْفَهُ بكونه " مكنونًا ": نظير وَصْفه بكونه "محفوظًا"،
فقوله عزَّ وجلَّ : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)، كقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22). [البروج: 21 - 22] .
يوضِّحُهُ :
الوجه السادس: أنَّ هذا أبلغُ في الردِّ على المكذِّبين، وأبلغُ في تعظيم القرآن من كون المصحف لا يمسُّهُ مُحْدِثٌ.
الوجه السابع: قوله : لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) بالرَّفْع ، فهذا خبرٌ لفظًا ومعنىً، ولو كان نهيًا لكان مفتوحًا.
ومن حَمَلَ الآية على النَّهْي ، احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النَّهْي،
والأصل في الخبر والئهْي حَمْلُ كُلٍّ منهما على حقيقته، وليس ههنا مُوجِبٌ يُوجِبُ صَرْف الكلام عن الخبر إلى النَّهْي.
الوجه الثامن: أنَّه قال : إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) ولم يقل : إلا المتطهِّرون. ولو أراد به مَنْعَ المُحْدِثِ من مَسِّهِ لَقَال : إلا المتطهِّرون، كما قال تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222). [البقرة: 222]،
وفي الحديث : "اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابين، واجعلني من المُتَطَهِّرين" ؛ فـ "المُتَطَهِّر" فاعِلُ التطهير، و"المُطَهَّر" الذي طهَّرَهُ غيرُهُ،
فالمتوضِّئُ ، كمتطهِّرٌ، والملائكةُ مطهَّرون.
الوجه التاسع: أنَّه لو أُريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الإخبار عن كونه مَكْنُونًا كبيرُ فائدةٍ،
إذ مجرَّدُ كَونِ الكلام مكنونًا في كتابٍ، لا يستلزم ثبوته. فكيف يُمدَح القرآن بكونه مكنونًا في كتابٍ ، وهذا أمرٌ مشتركٌ ؟!
والآيةُ إنَّما سِيقت لبيان مدحه وتشريفه ، وما اختصَّ به من الخصائص التي تدلُّ على أنَّه منزَلٌ من عند الله،
وأنَّه محفوظٌ مَصُونٌ ، لا يصل إليه شيطانٌ بوجهٍ ما، ولا يَمسُّ مَحَلَّهُ إلا المطهَّرون ، وهم السَّفَرَةُ الكِرَامُ البَرَرَةُ.
الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" : حدثنا أبو الأحْوَص، حدثنا عاصم الأحول،
عن أنس بن مالك في قوله تعالى : لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)، قال : "المطهَّرون : الملائكة". وهذا -عند طائفةٍ من أهل الحديث في حكم المرفوع.
قال الحاكم : " تفسير الصحابة -عندنا- في حكم المرفوع "،
ومن لم يجعله مرفوعًا فلا ريب أنَّه عنده أصحُّ من تفسير مَنْ بَعد الصحابة، والصحابةُ أعلم الأمَّة بتفسير القرآن، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم.
وقال حرب في "مسائله" : "سمعت إسحاق في قوله : لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ. قال:
النُّسْخَةُ التي في السماء لا يمسُّها إلا المطهَّرون. قال : الملائكة ". انتهى من ("التبيان في أيمان القرآن" (1/ 330)).
إذن
المعنى الصحيح لقوله تعالى : ﴿ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَـهَّرُونَ﴾ المقصود بالآية : هم الملائكة،
وهو إخبار من الله عز وجل عن الملائكة وليس هذا القرآن وإنما الذي هو في اللوح المحفوظ.
فهذا المصحف الذي هو في اللوح المحفوظ لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة المقربون،
فهذه جملة خبرية وليست جملة إنشائية يعني تصدر حكماً شرعياً.
والله اعلم
اقرأ أيضا..
تعليقات
إرسال تعليق