لا يقع طلاق الشخص الغضبان الذي غيب الغضب عقله أو اشتد غضبه ولم يغيب الغضب عقله لعدم القصد وجريان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه فهو كالمكره.
أما اذا كان الغضب معتادا غير شديد يعقل ما يقول ويمكن أن يمنع نفسه فهذا يقع طلاقه بالاتفاق .
والدليل :
عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق " . صحيح أبي داود
إغلاق : أي في إغلاق العقل وذهوله عما حوله فما نتج في تلك الفترة من تصرفات فلا تكون صحيحة لأن التكليف من شروطه العقل والوعي، وعند انغلاق العقل يكون الإنسان في حكم المجنون وفاقد الوعي فلا يترتب على قوله حكم في هذه الأحوال .
قال الرحيباني رحمه الله :
قد أجمع المُسلِمونَ على أنَّ من زال عَقلُه بغيرِ سُكرٍ مُحَرَّمٍ، كالنومِ، والإغماءِ، والجنونِ، وشُربِ الدَّواءِ المزيلِ للعَقلِ، والمرضِ : لا يقَعُ طلاقُه . ((مطالب أولي النهى)) (5/321).
إذن للغضب ثلاث حالات
- الحالة الأولى : طلاق الغضبان الذي غيب الغضب عقله. [هنا لا يقع طلاق الغضبان]
- الحالة الثانية : طلاق الغضبان الذي اشتد غضبه ولم يغيب عقله . [هنا الراجح إن شاء الله أنه لا يقع طلاق الغضبان]
- الحالة الثالثة : طلاق الغضبان غضبا معتادا غير شديد. [هنا يقع طلاق الغضبان]
قال ابنُ تَيميَّةَ رحمه الله :
الغضَبُ على ثلاثة أقسامٍ :
أحدُها : ما يزيلُ العَقلَ، فلا يَشعُرُ صاحِبُه بما قال، وهذا لا يقَعُ طلاقُه بلا نزاعٍ.
الثاني : ما يكونُ في مبادِئِه بحيثُ لا يمنَعُ صاحِبَه مِن تصَوُّرِ ما يقولُ وقَصْدِه، فهذا يقَعُ طلاقُه بلا نزاعٍ . ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (5/6).
وقال أيضا رحمه الله :
إنْ غَيَّرَه الغَضَبُ ولم يُزِلْ عَقْلَه : لم يقع الطَّلاقُ؛ لأنَّه ألجأه وحَمَله عليه، فأوقَعَه وهو يكرَهُه؛ ليستريحَ منه، فلم يبقَ له قَصدٌ صَحيحٌ؛ فهو كالمُكرَهِ؛ ولهذا لا يُجابُ دعاؤُه على نَفسِه ومالِه، ولا يلزَمُه نَذرُ الطَّاعةِ فيه . ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (5/7).
قال الشيخ ابنُ باز رحمه الله :
الغَضبانُ له ثلاثُ حالاتٍ :
إحداها : يقَعُ فيها الطَّلاق إجماعًا، وهي ما إذا كان الغَضَبُ عاديًّا لا يُوصَفُ بالشِّدَّةِ.
الثانية : لا يقَعُ فيها الطَّلاقُ إجماعًا، وهي ما إذا كان الغَضَبُ قد اشتَدَّ حتى زال معه الشعورُ، وصار صاحِبُه في عدادِ المعتوهين.
والثالثة : ما بين ذلك، وهي محلُّ الخِلافِ، والأرجَحُ فيها عدَمُ الوقوعِ؛ لأنَّ الغَضبانَ إذا اشتَدَّ به الغَضَبُ لم يضبِطْ نَفسَه، ولم يملِكِ القُدرةَ على عدمِ إيقاعِ الطَّلاقِ؛ لأنَّ شِدَّةَ الغَضَبِ تُلجِئُه إلى إيقاعِه؛ ليُفرِّجَ عن نفسِه ما أصابها، ويدفَعَ عنها نارَ الغَضَبِ؛ فهو بمثابةِ المُكرَهِ . ((مجموع فتاوى ابن باز)) (21/373).
قال الشيخ العثيمين رحمه الله :
إذا كان الزَّوجُ حين إصدارِه الطَّلاقَ في حالةِ غَضَبٍ لا يملِكُ نَفسَه معها- فإنَّ طلاقَه لا يقَعُ عليه؛ لأنَّه لا طلاقَ في إغلاقٍ، والغَضَبُ ينقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ :
أحدُها : أن يكونَ في ابتدائِه، بحيث يعقِلُ الغاضِبُ ما يقولُ ويملِكُ نَفسَه، فتصَرُّفُه كتصَرُّفِ غيرِ الغاضِبِ؛ لأنَّه ليس ثمَّةَ مانِعٌ مِن تنفيذِه، فإذا طَلَّق في هذه الحالِ فإنَّ طلاقَه يقَعُ .
الحالة الثانية : أن يكونَ غَضَبُه شَديدًا جدًّا بحيثُ لا يعي ما يقولُ، ولا يدري ما يقولُ، ولا يدري أهو في البيتِ أم في السوقِ، في حالٍ يكونُ كالمُغمى عليه؛ فهذا لا يقَعُ طلاقُه بلا ريبٍ؛ وذلك لأنَّه ليس له فِكرٌ، وليس له عَقلٌ فيما يقولُ حينئذٍ.
الحالة الثالثة : أن يكونَ الغَضَبُ متوسِّطًا بين الحالةِ الأولى والثانية، بحيث يعي ما يقولُ، ويدري ما يقولُ، ولكِنَّه عاجِزٌ عن مِلكِ نَفسِه؛ لا يملِكُ نفسَه مع هذا الغَضَبِ، وفي وقوع طلاقِه خِلافٌ بين أهلِ العِلمِ؛ فالرَّاجِحُ أنَّه لا يقَعُ طلاقُه في هذه الحالةِ؛ لأنَّه كالمُكرَه؛ لأنَّ الحالةَ النفسيَّةَ الكامِنةَ تُلجِئُه إلجاءً على أن يقولَ هذا الطَّلاقَ . ((فتاوى نور على الدرب)) (10/361).
سئل الشيخ الألبانى رحمه الله :
حديث : «لا طلاق في إغلاق» أرجو فقه هذا الحديث؟
فأجاب :
فقه هذا الحديث : أن الزوج إذا طلق في حالة نفسية غير طبيعية غير جامع أفكاره، غير ناظر لعاقبة أمره، وإنما هي ثورة غضبية، غضب على زوجته بحق أو بباطل ليس مهم، فطلقها في هذه الحالة الغضبية، فهذا الطلاق غير واقع شرعاً .
الإغلاق في تفسير الفقهاء له معنيان، يلتقي أحدهما مع الآخر في نقطة واحدة وهي : عدم تحقق الإرادة الحرة، إذا صح هذا التعبير.
أحد المعنيين ما ذكرته آنفاً : الإغلاق هو الغضب، الذي يغلق على صاحبه طريقة التفكير السليم.
المعنى الآخر : هو الإكراه، الإنسان يكره على التطليق ولا يريده، وهذا يقع كثيراً من بعض الناس آباء الزوجات الذين يسموهم أعمام، الأنساب هؤلاء يغضب على صهره، وربما يكون مخطئاً في غضبته، فيأتي ويهدده ويقول له : تطلق بنتي أو أقتلك هذه الساعة، تفضل أنت طالق، طلقها، هو طلقها، لكن هذا الطلاق ما كان برغبة وبإرادة منه، هذا الطلاق غير واقع.
مع ذلك يوجد حتى اليوم، من يفتي من بعض أتباع المذاهب أن طلاق المكره واقع، هذا خلاف عموم الشرع كله بصورة عامة، وخلاف هذا الحديث بصورة خاصة : «لا طلاق في إغلاق».
والله عز وجل قد حكى عن كليم الله موسى، أنه فعل فعلاً لو فعله الماسك لنفسه المدرك لعاقبة تصرفه لكفر؛ لأنه ألقى الألواح، وضرب بها الأرض، مثل إنسان يأخذ المصحف الكريم ويضرب به الأرض، هذا لو فعله عامداً متعمداً كفر، لأنه إهانة لكلام الله عزوجل، وموسى ألقى الألواح التي فيها التوراة، متى؟ لما أبلغ بأن قومه اتخذوا العجل من بعده، عبدوه من دون الله تبارك وتعالى. فهذه الثورة الغضبية منعته أن يفكر في عاقبة ما فعل، فضرب الأرض بالألواح هذه التي فيها الصحف صحف إبراهيم وموسى.
إذا كان هذا كليم الله يفعل مثل هذا، فماذا نقول بعامة الناس، خاصة بالناس الذين ما فيه عندهم جلد وما عندهم صبر .
وأخيراً : يأتينا حديث في الصحيحين من حديث أبي بكرة الثقفي رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» ترى لو قضى بين اثنين في قضية ما أعطى لزيد ما لبكر، ولو فلساً واحداً هل ينفذ قضاؤه في حالة الغضب؟
الجواب : لا؛ لأن الرسول قال : «لا يقضي» لا يجوز أن يقضي فقضى، فحكم قضائه غير نافذ، فما بالكم بمن يخرب بيته وييتم أطفاله، في ثورة غضبية يقول لزوجته : روحي أنت طالق، هذا من باب أولى أن لا يكون نافذاً، لذلك قال عليه السلام : «لا طلاق في إغلاق» . انتهى من (الهدى والنور/٢٨٩/ ٢٠: ٣٤: ٠٠)
وسئل أيضا رحمه الله :
رجل طلق امرأته وهو غضبان، فما هو الحكم؟
فأجاب :
إذا كان صادقًا في قوله أنه طلق وهو غضبان فهو يدين ولا تطلق زوجته منه لقوله عليه الصلاة والسلام : «لا طلاق في إغلاق» وقد فسر العلماء الإغلاق في هذا الحديث بتفسيرين اثنين أحدهما : الإكراه، والآخر : هو الغضب الذي يمنع صاحبه من التفكير السليم، والمعنى الثاني لا يبعد أن يكون مرادًا من هذا الحديث؛ لأن مثل قوله عليه الصلاة والسلام : «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» يؤيد عدم وقوع طلاق الغضبان؛ لأن الحديث الثاني : «لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان» يعني : أن القاضي إذا حكم في حكومة ما مهما كان حكمه لا قيمة له من حيث الناحية المادية فحكمه لا ينفذ إذا كان صدر منه حالة غضبه .
فمن باب أولى أن لا يقع طلاق الغضبان الذي فيه خراب بيت أنشأه بحكم الشرع بإشهاد وإذن ولي الأمر، فلا يكون هدم هذا البيت بكلمة تصدر ممن بناه في حالة غضبه، فلا بد أن يكون مريدًا لذلك، كما يشعرنا بذلك قوله تبارك وتعالى : { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }. [البقرة: ٢٢٧] فالعزم لا يقترن مع الغضب، فالغضب يمنع التفكير وجمع العزم والهمة على تنفيذ أمر ما، لذلك كان القول الراجح : أن طلاق الغضبان لا يقع، ولابن قيم الجوزية رحمه الله رسالة خاصة في هذه المسألة أظن اسمها : إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان . انتهى (فتاوى جدة (٢٦ ب) /٠٠: ٠٣: ٣٣)
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق