">

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

الكذب من قبائح الذنوب وهو من خصال المنافق ومفسدة محرمة إلا أن يكون فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة فيجوز تارة ويجب أخرى .

فالكذب يجوز في أحوال ثلاثة تعلو فيها مصلحته على مفسدته ولا يعد فاعله مذموما فيها عند الناس:

 الأولى : الحرب.

الثانية : حديث الرجل مع زوجته والعكس. 

الثالثة : للإصلاح بين متخاصمين .

 فقد روى البخاري ومسلم عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا. وفي رواية : ما سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يرخصُ في شيءٍ من الكذبِ إلا في ثلاثٍ كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ : لا أعدُّه كاذبًا الرجلُ يصلحُ بين الناسِ يقولُ القولَ ولا يريدُ به إلا الإصلاحَ ، والرجلُ يقولُ في الحربِ ، والرجلُ يحدثُ امرأتَه ، والمرأةُ تحدثُ زوجَها .(صحيح أبي داود)

  ففي الحديث أن المؤمن لا يكون كذابا ولكن بعض الأحوال يطلب فيها التورية أو المداراة وتصريح الشخص بما يرضي الطرف الآخر لرعاية مصلحة أو درء مفسدة أو التخلص من عدو والتحايل عليه .

قال النووي رحمه الله :

قد تظاهرتْ نصوصُ الكتاب والسنة على تحريم الكذب في الجملة، وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. وإجماعُ الأمة منعقدٌ على تحريمه مع النصوص المتظاهرة، فلا ضرورة إلى نقل أفرادها، وإنما المهمُّ بيان ما يُستثنى منه، والتنبيه على دقائقه .انتهى ((الأذكار)) (ص 377).

وإليك بعض الحالات التي يباح فيها الكذب :

1- في الحرب لأن الحرب خدعة

 ومقتضياتها تستدعي التمويه على الأعداء وإيهامهم بأشياء قد لا تكون موجودة واستعمال أساليب الحرب النفسية ما أمكن ولكن بصورة ذكية لبقة .

قال الخطابي : الكذب في الحرب أن يظهر من نفسه قوة ويتحدث بما يقوي به أصحابه ويكيد به عدوه . اه (عون المعبود - كتاب الأدب - باب في إصلاح ذات البين)

2- في الصلح بين المتخاصمين

 حيث إن ذلك يستدعي أحيانا أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل طرف وأقواله بما يحقق التقارب ويزيل أسباب الشقاق وأحيانا ينسب إلى كل من الأقوال الحسنة في حق صاحبه ما لم يقله وينفي عنه بعض ما قاله وهو ما يعوق الصلح ويزيد شقة الخلاف والخصام.

3- في الحياة الزوجية

 حيث يحتاج الأمر أحيانا إلى أن تكذب الزوجة على زوجها أو يكذب الزوج على زوجته ويخفي كل منهما عن الآخر ما من شأنه أن يولد النفور أو يثير الفتن والنزاع والشقاق بين الزوجين كما يجوز أن يزف كل منهما للآخر من معسول القول ما يزيد الحب، ويسر النفس ويجمل الحياة بينهما وإن كان ما يقال كذبا ولكن كذب الزوج على زوجته أو العكس ليس على إطلاقه :

يقول الإمام النووي رحمه الله كما في "شرح مسلم" (5 /465) :  " وأما كذبه لزوجته، وكذبها له، فالمراد به في إظهار الود والوعد بما لا يلزم... ونحو ذلك. فأما المخادعة في منع ما عليه أو عليها، أو أخذ ما ليس له أو لها، فهو حرام بإجماع المسلمين، والله أعلم ". اهـ

وقال الشيخ الألباني رحمه الله : وليس من الكذب المباح أن يعدها بشيء لا يريد أن يفي به لها أو يخبرها بأنه اشترى لها الحاجة الفلانية بسعر كذا يعني : أكثر من الواقع ترضية لها؛ لأن ذلك قد ينكشف لها فيكون سببا لكي تسيء ظنها بزوجها وذلك من الفساد لا الإصلاح ". انتهى (السلسلة الصحيحة - (ج 1 / ص 897))

قال الشيخ ابن باز رحمه الله :

ثبت عن النبي ﷺ أنه قال : ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرًا وينمي خيرًا. وقالت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها : «لم أسمع النبي ﷺ يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس، والحرب، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها».

ففي الحرب 

لا مانع من الكذب الذي ينفع المسلمين، ولا يكون فيه خداع، ولا يكون فيه غدر للكفار، لكن يكون فيه مصلحة للمسلمين، كأن يقول أحدهم في للجيش : نحن راحلون غدًا إن شاء الله إلى كذا وكذا، أو يقول : نحن سنتوجه إلى الجهة الفلانية؛ ليعمي الخبر على العدو حتى يفجأهم على غرة إذا كانوا قد بلغوا وأنذروا ودعوا قبل ذلك فلم يستجيبوا وعاندوا، قد ثبت عنه ﷺ أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها.

فالمقصود : أن الكذب الذي ليس فيه غدر ولا خداع، ولكن فيه مصلحة للمسلمين لا بأس به في الحرب .

وهكذا في الإصلاح بين الناس

 بين قريتين، أو جماعتين، أو قبيلتين، أو شخصين يصلح بينهم بكذب لا يضر أحدًا من الناس ولكن ينفع هؤلاء، كأن يأتي إحدى القبيلتين فيقول : إن إخوانكم يعني : القبيلة الأخرى يدعون لكم ويثنون عليكم ويرغبون في الإصلاح معكم، ثم يذهب للأخرى فيقول مثل ذلك، ولو ما سمع منهم هذا؛ حتى يجمع بينهما، وحتى يصلح بينهما، وحتى يزيل الشحناء التي بينهما، وهكذا بين جماعتين، أو أسرتين، أو شخصين يكذب كذبًا لا يضر أحدًا من الناس، ولكنه ينفع هؤلاء، ويسبب زوال الشحناء، هذا هو الإصلاح بين الناس.

وأما الرجل مع زوجته فالأمر فيه واسع

 إذا كان الكذب لا يضر أحدًا غيرهما إنما فيما بينهما فلا بأس بذلك، أن تقول : أنا سوف أفعل كذا، وسوف لا أعصيك أبدًا، وسوف أشتري هذا الشيء، وسوف أعمل في البيت هذا الشيء، وهو يقول كذلك فيما سيتعلق بهما لإرضائها : سوف أشتري لك كذا وكذا، سوف أفعل كذا وكذا، يتقرب إليها بأشياء ترضيها وتنفعها وتجمع بينهما، وهي كذلك في أشياء تتعلق بهما خاصة ليس في ذلك كذب على أحد من الناس .انتهى من (فتاوى نور على الدرب)

وأما ضابط الكذب 

قال النووى رحمه الله :

قد ضبط العلماءُ ما يُباح منه. وأحسنُ ما رأيتُه في ضبطه، ما ذكرَه الإِمامُ أبو حامد الغزالي فقال : الكلامُ وسيلةٌ إلى المقاصد فكل مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا، وإن كان واجبا فهو واجب

1- فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً : فالكذب فيه حرام .

2- وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق : فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً .

3- وواجب إن كان المقصود واجباً كما أن عصمة دم المسلم واجبة :

- فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب 

- ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب : فالكذب مباح إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن ؛ لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغني عنه ، وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة فيكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة .

فهذه الثلاث ورد فيها صريح الإستثناء وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره .

كما لو أخذه ظالم ويسأله عن ماله : فله أن ينكره 

 أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها : فله أن ينكر ذلك فيقول : ما زنيت ، وما سرقت ، وقال صلى الله عليه وسلم : (من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله) وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً ، وعرضه بـلسانه وإن كان كاذباً .

وكما لو سأله سر أخيه فله أن ينكره .

ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط .

فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق .

 وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة  فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه .

ولذلك ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه فأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم ، ثم هو لزيادات المال والجاه ، ولأمور ليس فواتها محذوراً حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات ، وذلك حرام .اه (من كتاب الأذكار للنووى)

وذكر ابن القيم في زاد المعاد (ج 3 / ص 305) :

" جَوَازُ كَذِبِ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا لَمْ يَتَضَمّنْ ضَرَرَ ذَلِكَ الْغَيْرِ إذَا كَانَ يَتَوَصّلُ بِالْكَذِبِ إلَى حَقّهِ كَمَا كَذَبَ الْحَجّاجُ بْنُ عِلَاطٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَتّى أَخَذَ مَالَهُ مِنْ مَكّةَ مِنْ غَيْرِ مَضَرّةٍ لَحِقَتْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ الْكَذِبِ ".اه

فإذا اضطر الإنسان إلى الكذب 

فله أن يستخدم التعريض والتورية فمن الوسائل المشروعة التي تحقق الغرض دون وقوع في الكذب ما يسمى بالمعاريض : وهى إستعمال كلمة تحتمل معنيين يحتاج الإنسان أن يقولها فيقولها قاصدا بها معنى صحيحا بينما يفهم المستمع معنى آخر .

فعن عمران بن حصين أنه قال : (إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب). صحيح ((الأدب المفرد)) (662).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (ما في المعاريض ما يغنى الرجل عن الكذب). رواه البيهقي في ((السنن الكبرى))

ويقول ابن الجوزي رحمه الله في تفسيره عند قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام : ﴿ ... بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾. [الأنبياء: 63] : المعاريض لا تُذمُّ خصوصًا إذا احتيج إليها . اهـ

عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف " . صحيح سنن أبي داود. فهذا من التورية الجائزة والإيهام المحمود رفعاً للحرج عنه فيظن من يراه خارجاً بأنه أصيب برعاف في أنفه . 

قال العلماء : فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه وليس بحرام إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حقٍّ، فيصير حينئذ حرامًا، هذا ضابط الباب . انتهى (" الأذكار " ( ص ‏380 ))

قال شيخ الإسلام في الفتاوى الكبرى :

 فإن المعاريض عند الحاجة، والتأويل في الكلام، وفي الحلف للمظلوم بأن ينوي بكلامه ما يحتمله اللفظ، وهو خلاف الظاهر، كما فعل الخليل صلى الله عليه وسلم، وكما فعل الصحابي الذي حلف أنه أخوه، وعنى أنه أخوه في الدين، وكما قال أبو بكر ـرضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم : رجل يهديني السبيل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم للكافر الذي سأله : ممن أنت؟ فقال : نحن من ماء. إلى غير ذلك، أمر جائز...اهـ.

وإليك أمثلة للمعاريض :

1- قال النخعي : ( إذا بلغ الرجل عنك شيء قلته فقل : الله يعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيتوهم السامع النفي ومقصودك الله يعلم الذي قلته.

2- وكان الشعبي : إذا طلبه رجل يخط دائرة ويقول للجارية : ضعي أصبعك فيها،وقولي : ليس هو هاهنا ). انتهى من ((الأذكار)) للنووي (ص 381).

3- كان الإمام أحمد : في داره ومعه بعض طلابه منهم المروذي فأتى سائل من خارج الدار يسأل عن المروذي والإمام أحمد يكره خروجه - فقال الإمام أحمد : ليس المروذي هنا وما يصنع المروذي ها هنا وهو يضع إصبعه في كفه ويتحدث لأن السائل لا يراه .انتهى من (إغاثة اللهفان) 

4- ومن ذلك لو سألك شخص هل رأيت فلاناً وأنت تخشى لو أخبرته أن يبطش به فتقول : ما رأيته وأنت تقصد بقلبك زماناً أو مكاناً معيناً لم تره فيه .

5- وكذلك لو استحلفك أن لا تكلم فلاناً  فقلت : والله لن أكلمه ، وأنت تعني أي لا أجرحه لأن الكلم يأتي في اللغة بمعنى الجرح . 

6- وكذلك لو أرغم شخص على الكفر وقيل له اكفر بالله : فيجوز أن يقول كفرت باللاهي . يعني اللاعب .انتهى من (إغاثة اللهفان)

7- كما أن المرأة لا تخبر خاطبها أو زوجها بشيء من معاصيها لتستر نفسها ولو سألها فإنها لا تخبره وتستعمل المعاريض والتورية كأن تقول : لم يكن لي علاقة بأحد وتقصد لم يكن لي علاقة بأحد قبل يوم أو يومين ونحو هذا.

8- إذا ألح الزوج في سؤال زوجته أو بلغه كلام أراد التحقق منه ولم تجد وسيلة لستر نفسها إلا أن تحلف له فيجوز لها أن تحلف وأن تُورّي في حلفها كما سبق، فتقول : والله ما كان شيء من ذلك أو لم أفعل ذلك وتقصد : لم أفعله بالأمس مثلا.

ولكن لا ينبغي للشخص أن يكثر من المعاريض بحيث تكون ديدناً له لأن الإكثار منها يؤدي إلى الوقوع في الكذب .


والله اعلم

هل اعجبك الموضوع :
author-img
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تعليقات