لأهل كل مطلع ليلة للقدر مختصة بهم يشاركهم غيرهم في جزء منها تنتهي عند طلوع الفجر عندهم وقد تستمر عند أهل مطلع آخر حتى طلوع الفجر عندهم .
فالشهر يختلف دخولًا وخروجًا بالنسبة لسكان الأرض لإختلاف مطالعهم وكذا لياليه وأيامه، فتكون ليلة القدر وترًا عند قوم وشفعًا عند آخرين وهكذا فكيف تحصل ليلة القدر لجميع سكان الأرض مع اختلاف المطالع؟
قال الإمام الألوسي في "روح المعاني " :
أنه يكون لكل قوم ليلتهم الخاصة بهم وإن اختلفت دخولًا وخروجًا بالنسبة إلى آفاقهم وتكون ليلة القدر أشبه براكب يبدأ السير من نقطة معينة ويسير في اتجاه واحد، فإنه سيلف الكرة الأرضية كلها حتى يصل إلى النقطة التي بدأ منها،
ومعنى ذلك أن ليلة القدر تحصل إلى أهل كل منزل في وقت ليلهم كما تتنزَّل الملائكة على أهل هذه المنازل على حسب دخول الليل عندهم، ولا يبعد أن يتنزَّل عند كل قوم ما شاء الله تعالى منهم عند أول دخولها عندهم، ويعرجون عن مطلع فجرها عندهم أيضًا. أو يبقى المُتنزَّل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع المعمورة؛ فيعرجون معًا عند انقضائها .
وما يقال بالنسبة لتنزل الملائكة يقال أيضًا بالنسبة إلى تقديرات الله في هذه الليلة بأن يقدر الله عز وجل على حسب سير الليلة في أي جزء شاء منها بالنسبة إلى مَن هي عندهم أمورًا تتعلق بهم.
ومثل ليلة القدر
فيما ذكر وقت نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار، وكذا
ساعة الإجابة من يوم الجمع، وسائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرها .
كما أن هذا يجلي لنا حقيقة مهمة وهي
أن فيوضات الله وتجلياته على عباده وتقديراته لهم لا تنقطع في هذه الليلة من على الأرض لحظة فهي تجليات موصولة وعطاءات متوالية كما إن عبادات الخلق لا تنقطع من على الأرض لحظة، واتجاههم إلى الله موصول في كل وقت وحين.
وأيما كان الأمر :
فمرد الفضل كله إلى الله وأفضلية هذه الليلة ومناط الفضل فيها يرجع إلى مَن أقامها
وأحياها في أي مكان على ظهر الأرض. فربما استمرت ليلة القدر في الأرض كلها أربعاً وعشرين ساعة .اه
وقد ذهب كثير من العلماء
إلى أن فضيلة قيام ليلة القدر تحصل لمن صلى العشاء والصبح في جماعة، وهذا بالنظر إلى أصل فضيلة القيام، وأما كمال الأجر فلا شك في أن العبد كلما اجتهد في الطاعة وأكثر من العبادة كان أدخل في هذا الوعد وأولى بتحصيله .
- جاء فى مغنى المحتاج :
يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه، وهذا أولى، نعم حال من اطلع أكمل إذا قام بوظائفها. وقد نقل في زوائد الروضة عن نصه في القديم -يعني نص الشافعي رحمه الله - أن من شهد العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه منها، وروي عن أبي هريرة مرفوعا: من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر. ويستحب أن يكثر في ليلتها من قول : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، وأن يجتهد في يومها كما يجتهد في ليلتها. وخصت بها هذه الأمة، وهي باقية إلى يوم القيامة، ويسن لمن رآها أن يكتمها .اه (مغني المحتاج ج (١))
- وجاء فى طرح التثريب للعراقى :
قال الشافعي رحمه الله في كتابه القديم :
من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها ولا يعرف له في الجديد ما يخالفه، وقد ذكر النووي في شرح المهذب أن ما نص عليه في القديم ولم يتعرض له في الجديد بموافقة ولا بمخالفة فهو مذهبه بلا خلاف. وروى الطبراني في معجمه الأوسط بإسناد فيه ضعف عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى العشاء في جماعة وصلى أربع ركعات قبل أن يخرج من المسجد كان كعدل ليلة القدر. وهذا أبلغ من الحديث الذي قبله، لأن مقتضاه تحصيل فضيلة ليلة القدر وإن لم يكن ذلك في ليلة القدر فما الظن بما إذا كان ذلك فيها . انتهى.
- قال ابن رجب الحنبلى رحمه الله :
عن ابن عباس : أن إحياءها يحصل بأن يصلي العشاء في جماعة ويعزم على أن يصلي الصبح في جماعة ، وقال مالك في الموطأ : بلغني أن ابن المسيب قال: من شهد ليلة القدر ـ يعني في جماعة ـ فقد أخذ بحظه منها . وكذا قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها .اه (لطائف المعارف لابن رجب 185 /(1))
- قال الشيخ محمد بازمول حفظه الله :
ينال المسلم حظه من ليلة القدر إذا صلى العشاء في جماعة والفجر في جماعة أو لم ينصرف حتى ينصرف الإمام .
وتوضيح ذلك :
* اذا صلى المسلم العشاء والفجر في جماعة فكأنه قام ليلة كما ورد في الحديث .
* واذا صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة.
* واذا قام مع الامام بعد صلاة العشاء حتى ينصرف فإنه قام ليلة.
* فاذا صلى العشاء والفجر في جماعة فقد قام ليلة القدر.
* واذا قام مع الامام بعد العشاء حتى ينصرف فقد قام ليلة القدر.
* واذا صلى العشاء في جماعة ليلة القدر فقد نال حظه منها وذلك بقيام نصف ليلة. والله الموفق .اه
(من الصفحة الرسمية للشيخ على الفيس بوك بتاريخ ٢٥ يونيو ٢٠١٦)
واعلم أخى المسلم فضل الله تعالى واسع فلا يبعد أن ينال من صلى العشاء والصبح في جماعة حظاً من فضل قيام ليلة القدر ولكن لا يستوي بلا شك مع من أتعب نفسه وأسهر ليله واجتهد في طاعة ربه كل الليل أومعظمه وتأسى في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وسبب تسمية تلك الليلة بليلة القدر .
لأن الله تعالى يقدِّر فيها الأرزاق والآجال وما هو كائن؛ أي : يقدِّر فيها ما يكون في تلك السنَة فيكتب فيها ما سيجري في ذلك العام .
قال بن عباس رضي الله عنهما :
"يكتب في أمِّ الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنَة من الخير والشرِّ والأرزاق والآجال، حتى الحُجَّاج، يقال: يحج فلان، ويحج فلان".
وقال الحسن ومجاهد وقتادة :
"يُبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل وعمل وخَلْق ورِزق، وما يكون في تلك السنَة" .اه ([تفسير البغوي (7/ 227 - 228)، وانظر: شرح النووي على صحيح مسلم (8/ 213))
الحكمة من إخفاء ليلة القدر
قال الفخر الرازي في تفسيره "التفسير الكبير" :
أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه :
أحدها : أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى وليَّه فيما بين الناس حتى يعظموا الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف... فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان.
وثانيها : كأنه تعالى يقول : لو عينت ليلة القدر وأنا أعلم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في تلك الليلة إلى المعصية فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك؛ فلهذا السبب أخفيتها عليك.
روى أنه - عليه الصلاة والسلام -: "دخل المسجد فرأى نائمًا، فقال: يا عليُّ نبهه ليتوضأ، فأيقظه عليُّ، ثم قال عليُّ: يا رسول الله إنك سبَّاق إلى الخيرات، فَلِمَ لم تنبِّهُه؟ قال: لأن ردَّه عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخفَّ جنايته لو أبى".
فإذا كانت هذه رحمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكيف برحمة الله تعالى.
فكأنه تعالى يقول: إذا علمتَ ليلة القدر؛ فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسبت عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب.
وثالثها : أنى أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها حتى يكتسب ثواب الاجتهاد.
ورابعها : أن العبد إذا لم يتيقَّن ليلة القدر إنه يجتهد بالطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليله القدر؛ فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، ويقول: كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء، فهذا جدَّه واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة له؛ فحينئذ يظهر سر قوله تعالى: ﴿ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30] . اه
كيف يعرف الإنسان المسلم أنه قد صادفته ليلة القدر.
قال الإمام الألبانى رحمه الله :
ذلك أمر وجداني يشعر به كل من أنعم الله تبارك وتعالى عليه برؤية ليلة القدر لأن الإنسان في هذه الليلة يكون مقبلا على عبادة الله عز وجل وعلى ذكره والصلاة له فيتجلى الله عز وجل على بعض عباده بشعور ليس يعتاده حتى الصالحون لا يعتادونه في سائر أوقاتهم فهذا الشعور هو الذي يمكن الاعتماد عليه بأن صاحبه يرى ليلة القدر.
والسيدة عائشة رضي الله عنها قد سألت الرسول عليه السلام سؤالا ينبئ عن إمكان شعور الإنسان برؤيته ليلته القدر حينما توجهت بسؤالها للنبي عليه الصلاة والسّلام بقولها يا رسول الله إذا أنا رأيت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال ( قولي اللّهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني ).
ففي هذا الحديث فائدتان :
الفائدة الأولى : أن المسلم يمكن أن يشعر شعورا ذاتيا شخصيا في ملاقاته لليلة القدر.
والشيء الثاني : من هذا الحديث أنه إن شعر بذلك فخير ما يدعو به هو هذا الدعاء ( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفوا عني ) وقد جاء بهذه المناسبة في كتابنا هذا الترغيب في بعض الدروس المتأخرة أن خير ما يسأل الإنسان ربه تبارك وتعالى هو العفو والعافية في الدنيا والآخرة .
نعم هناك لليلة القدر بعض الأمارات والعلامات المادية لكن هذا قد لا يمكن أن يرى ذلك كل من يرى ويعلم ليلة القدر لأن هذه العلامات بعضها يتعلق بالجو العام الخارجي كأن تكون مثلا الليلة ليست بقارة ولا حارة فهي معتدلة ليست باردة ولا هي حارة فقد يكون الإنسان في جو لا يمكّنه من أن يشعر بالجو الطبيعي في البلدة.
كذلك هناك علامة لكن بعد فوات وقت ليلة القدر، تلك العلامة تكون في صبح تلك الليلة حين تطلع الشمس حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها تطلع صبيحة ليلة القدر كالطست كالقمر ليس له شعاع، هكذا تطلع الشمس في صبيحة ليلة القدر وقد رُئي هذا من بعض الناس الصالحين ممن كان يهمهم رؤية ملاحظة ذلك في كثير من ليالي القدر فالمهم بالنسبة للمتعبد للشخص المتعبد ليس هو التمسك بمثل هذه الظواهر لأن هذه الظواهر هي عامّة يعني هذه طبيعة الجو لكن لا يشترك في كل من عاش في ذلك الجو في رؤية ليلة القدر يعني في أن يكون في صفاء نفسي في لحظة من تلك اللحظات في تلك الليلة المباركة بحيث أن الله عز وجل يتجلى عليه برحمته وفضله فينعمه وأن يدعو بما سبق وبغيره، فالعلامات المادية هي علامات لا يدل على أنه كل من شاهدها ولمسها قد رأى ليلة القدر، وهذا أمر واقع.
ولكن الناحية التي يجد الإنسان في نفسه من صفاء روحه وشعور برؤيته لليلة القدر وتوجهه إلى الله بسؤاله بما شرع فهذه الناحية التي ينبغي أن ندندن حولها ونهتم بها لعل الله عز وجل يتكرّم بها علينا . اه
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق