اعلم أخى المسلم أن الله سبحانه هو المسعر، فالغلاء بإرتفاع الأسعار والرخص بإنخفاضها هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده،
فالأسعار بيده سبحانه يزيدها متى شاء وينقصها متى شاء بحكمة منه وعدل.
فلابد للمسلم أن يعتقد أن الله هو المدبر لكل شيء وهو المتصرف في كل شيء لا رب غيره ولا معبود سواه لا يملك أحد في ملكه مثقال ذرة،
فهو سبحانه القابض الباسط يقبض الرزق عمن يشاء ويبسط الرزق لمن يشاء وهو سبحانه المسعر.
فالتسعير بيد الله وليس بيد الحكام والحكومات كما زعم أهل البدع، وارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد وإنخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس .
ومن أظهر الأسباب التي تؤدي إلى زيادة الأسعار وتؤدي إلى غضب العزيز الجبار كثرة الذنوب وانتشار المعاصي والفجور.
فإذا كثرت الذنوب والمعاصي رفع الله الأسعار على عباده وضيق عليهم الأرزاق حتى يرجعوا إليه ويتوبوا مما هم عليه،
فإن تابوا وأنابوا إلى ربهم وتمسكوا بدينهم وسنة نبيهم رجعت الأمور كما كانت بل أفضل مما كانت .
ودليل ذلك :
1- قال الله تعالى : ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. (سورة الروم).
قال العلامة السعدى رحمه الله : أي : استعلن الفساد في البر والبحر أي: فساد معايشهم ونقصها وحلول الآفات بها،
وفي أنفسهم من الأمراض والوباء وغير ذلك، وذلك بسبب ما قدمت أيديهم من الأعمال الفاسدة المفسدة بطبعها.
هذه المذكورة { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا } أي : ليعلموا أنه المجازي على الأعمال فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا،
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } عن أعمالهم التي أثرت لهم من الفساد ما أثرت، فتصلح أحوالهم ويستقيم أمرهم.
فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة .انتهى من (تفسير السعدى).
2- قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم. [الشورى: 30]
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : قوله : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) أي : مهما أصابكم أيها الناس من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم،
( ويعفو عن كثير ) أي : من السيئات ، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها ، ( ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ). [ فاطر : 45 ]،
وفي الحديث الصحيح : " والذي نفسي بيده ، ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ، إلا كفر الله عنه بها من خطاياه ، حتى الشوكة يشاكها " . انتهى من (تفسير ابن كثير).
3- جاء فى السنة النبوية الصحيحة : عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : غَلَا السِّعْرُ فِي المَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فَقَالَ النَّاسُ:
يَا رَسُولَ اللهِ غَلَا السِّعْرُ، فَسَعِّرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم : « إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ،
وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلَا مَالٍ ». (صحيح أبي داود)( 3451).
دل الحديث على : أنَّ التسعير حرامٌ في كلِّ الأحوال بدون فرقٍ بين المجلوب والحاضر، ولا فرْقَ أيضًا ـ بين حالة الرخص وحالة الغلاء، وهو مذهب الجمهور،
ويرى آخَرون جواز التسعير في وقت الغلاء دون الرخص، وهو قولٌ مردودٌ لمعارضته للنصِّ الظاهر في امتناعه صلَّى الله عليه وسلَّم عن التسعير في حالة الغلاء.
4- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ. فَقَالَ « بَلْ أَدْعُو ».
ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ فَقَالَ : « بَلِ اللَّهُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ وَإِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِى مَظْلَمَةٌ ». (صحيح أبي داود)( 3450).
وإلى هذه الأدلة ذهب جمهور العلماء إلى منع التسعير على الناس ابتداء من دون سبب ،
لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يسعر للناس رغم إلحاح بعضهم عليه ، ولأن فيه نقضا لحرية التصرف والتعاقد التي ضمنها الشرع.
ثم إنَّ فرض التسعير مآله إرتفاع الأسعار نتيجة اختفاء السلع،
وبالتالي يتضرَّر الفقراء بعدم القدرة على شرائها كما يتضرَّر الأغنياء بشرائها بغبنٍ فاحشٍ ،
فكلٌّ من الفقراء والأغنياء يقعان في ضيقٍ وحرجٍ ولا تتحقَّق لهما مصلحةٌ.
قال ابن تيمية رحمه الله :
فالغلاء بارتفاع الأسعار والرخص بانخفاضها هما من جملة الحوادث التي لا خالق لها إلا الله وحده ولا يكون شيء منها إلا بمشيئته وقدرته،
لكن هو سبحانه قد جعل بعض أفعال العباد سبباً في بعض الحوادث كما جعل قتل القاتل سبباً في موت المقتول ،
وجعل ارتفاع الأسعار قد يكون بسبب ظلم العباد وانخفاضها قد يكون بسبب إحسان بعض الناس . انتهى من (مجموع الفتاوى، الجزء الثامن، صفحة (519)).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله :
إنَّ الناس مسلَّطون على أموالهم والتسعير حجْرٌ عليهم والإمام مأمورٌ برعاية مصلحة المسلمين،
وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أَوْلى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن،
وإذا تقابل الأمران، وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزامُ صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى منافٍ لقوله تعالى : ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾. انتهى من (نيل الأوطار (٦/ ٣٨٠)).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
الأصل عدم التسعير لأن الله هو المسعّر كما جاء في الحديث الصحيح في تمامه ومعنى هذا أن تكون حرية البيع والشراء قائمة على ساق وقدم،
ولا يجوز للحاكم المسلم، المسلم حقا أن يتدخل في السوق العام......
كذلك نقول في التسعير ( المسعر هو الله ) سبب هذا الحديث لعلي ما ذكرته آنفا قالوا " سعر لنا يا رسول الله " قال ( الله المسعّر ) ،
" سعر لنا " وهو الحاكم قال ( المسعر هو الله ) أي: الأصل أن التسعير ينبغي أن يكون هكذا من الله عز وجل حسب ما يرزق العباد كثرة وقلة إلخ . انتهى باختصار (سلسلة الهدى والنور - شريط : (732))
وسئل أيضا رحمه الله :
ما حكم اتفاق التجار على توحيد ثمن السلعة في السوق ؟
فأجاب :
" هذا الاتفاق لا يجوز لأن النبي ﷺ قال : دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض .
فلا يجوز للتجار الاتفاق على سعر موحد بل لا يجوز حتى للدولة أن توحد السعر إلا في ظروف معينة،
فقد ثبت أن الصحابة قالوا للنبي : يا رسول الله سَعِّر لنا فقال : إن الله هو المُسَعِّر . فما بالك إذا اتفق التجار أن يستغلوا الناس فيسعروا ويرفعوا الأسعار ! ". انتهى من [ فتاوى رابغ ٢ ].
قال الشيخ فركوس حفظه الله :
يؤخذ من حديث أنسٍ رضي الله عنه المتقدم الفوائد والأحكام التالية :
1- استُفيد تحريم التسعير من كونه مظلمةً والظلم حرامٌ قطعًا فقد حرَّمه الله تعالى على نفسه وعلى عباده في آياتٍ كثيرةٍ وأحاديثَ متعدِّدةٍ،
منها قوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يرويه عن ربِّه : «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا». (صحيح مسلم).
2- ومنه تبرز علَّة التحريم المتمثِّلة في إجبار البائع وإكراهه في البيع بغير رضاه، وهو منافٍ لقوله تعالى : ﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾. [النساء: ٢٩].
3- فيه أنَّ التسعير حَجْرٌ على حرِّيَّة الأفراد وتضييقٌ على تصرُّفاتهم.
4- في الحديث تحذيرٌ من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأمَّته من الوقوع في مظالم الناس عامَّةً،
سواءً في الدماء أو الأموال ولذلك أراد لقاء الله بريئًا من تبعيَّتها. انتهى باختصار من (موقع الشيخ).
ولكن عند فساد الناس يتدخل الحاكم
كما جاء فى الأثر : " إن الله عز وجل يزع " أي يمنع ويربي " بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ".
لأن القرآن إنما يربي الناس المؤمنين فعلا وحقا، أما الذين في قلوبهم مرض أو زغل أو ضعف أو ما شابه ذلك فهذا إنما يتولى تربيتهم السلطان.
قال ابن تيمية رحمه الله :
فإذا كان الناس يبيعون سلعتهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر :
إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة عينها إكراه بغير حق،
وأما الثاني : فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة،
فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل. انتهى من [مجموع الفتاوى: (28/76-77).].
قال الشيخ الألباني رحمه الله :
لا بد أن بعض هؤلاء الأفراد الذين يعيشون تحت حكم هذا الحاكم المسلم، المسلم حقا قد يشذون ويخرجون عن الجادة وعن الصراط المستقيم ولو في بعض الأحكام ،
هنا يتدخل الحاكم المسلم ويصدق فيه الأثر المروي عن عثمان بن عفان والله أعلم بصحته لأننا نعتبره حكمة " إن الله عز وجل يزع " أي يمنع ويربي " بالسلطان ما لا يزع بالقرآن "،
لأن القرآن إنما يربي الناس المؤمنين فعلا وحقا، أما الذين في قلوبهم مرض أو زغل أو ضعف أو ما شابه ذلك فهذا إنما يتولى تربيتهم السلطان . انتهى باختصار من (سلسلة الهدى والنور - شريط : (732)).
والله اعلم
وللفائدة..
تعليقات
إرسال تعليق