">

القائمة الرئيسية

الصفحات

أحدث المواضيع

معنى قوله تعالى : يمحو الله ما يشاء ويثبت


الله سبحانه وتعالى عالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فالآية الكريمة تتكلم عن القضاء المُعلَّق وهو المكتوبُ في الصُّحف التي في أيدي الملائكة فإنه يقال :  اكتبوا أن فلانًا سيتزوَّج فلانة إن رغبتْ فيه وإن لم ترغبْ فيه فليس بزوجها وفي عِلم الله وقدره الأزلي أنها سترغب فيه أو ترغب عنه أو اكتبوا عمر فلان إن لم يتصدق فهو كذا وإن تصدق فهو كذا وفي علم الله وقدره الأزلي أنه سيتصدق أو لا يتصدق فهذا النوعُ مِن القدَر ينفع فيه الدعاء والصدقة وغيرها لأنه مُعلَّقٌ عليهما وهو معنى حديث الترمذي : (لا يَرُدُّ القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البِر) .

 وأما القضاء المُبرم المطابق للعلم الإلهي فلا محو وهو نافذ لا يتغير وهو فى أم الكتاب وأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (2889) عن حذيفة رضي الله عنه : "إن ربي قال : يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد". 

فالقضاء بشقيه المبرم والمعلق غيب بالنسبة لنا ولكن الله تعالى بعلمه السابق الأزلي يعلم بأن هذا العبد سيحصل له أمر كذا وسوف يدعو ربه فيصرفه عنه ويعلم بأنه سيمرض فيأخذ دواء فيشفى بإذن الله تعالى فهذا كله يكتب ويمحى ويُثبت ربنا عز وجل النتائج في اللوح المحفوظ .

قال ابن تيمية رحمه الله :

والجواب المحقق أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب... وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال : اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ـ والله سبحانه عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها، فلهذا قال العلماء : إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات، وأما اللوح المحفوظ : فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين، والله سبحانه وتعالى أعلم . اهـ. (مجموع الفتاوى)) (14/492).

وقال الإمام الألباني رحمه الله :

 (اعلم أن المفسرين اختلفوا اختلافاً كثيراً في تفسير آيتي (الرعد) : ( لكل أجل كتاب ۞ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) على أقوال كثيرة استوعبها الشوكاني في الفتح وذكر بعضها ابن جرير ثم ابن كثير، واختار هذا ما هو أقرب للسياق ؛ فقال : 

( أي : لكل كتاب أجل ، يعني : لكل كتاب أنزله الله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين ، فلهذا : (يمحو الله ما يشاء) : منها : (ويثبت) ؛ يعني : حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ). فالمحو والإثبات فيهما خاص بالأحكام في الكتب المتقدمة أو في الشريعة المحمدية ، ينسخ منها ما يشاء ويثبت ما يشاء. وهو يلتقي مع ما رواه ابن جرير (16/ 485) وغيره بسند فيه ضعف عن ابن عباس : ( يمحو الله ما يشاء )، قال : من القرآن ؛ يقول : يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله. ( وعنده أم الكتاب ) ، يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب، الناسخ والمنسوخ وما يبدل كل ذلك في كتاب. 

وقد وجدت ما يقويه من رواية عكرمة عن ابن عباس، من وجهين عن عكرمة :

الأول :

 رواه يزيد النحوي عنه ابن عباس؛ في قوله: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها )، وقال : ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل ... ) الآية ، وقال : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب )  فأول ما نسخ من القرآن القِبلة ... الحديث. رواه النسائي أواخر الطلاق ، وأبو داود مختصراً وإسناده حسن ؛ كما هو مبين في الإرواء (7/ 161/ 2080).

والآخر : 

رواه سليمان التيمي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل : ( يمحو الله ما يشاء ) ، قال : من أحد الكتابين هما كتابان يمحو الله ما يشاء من أحدهما ويثبت ( وعنده أم الكتاب ) ؛ أي : جملة الكتاب. رواه ابن جرير (16/ 480،481) ، والحاكم (2/ 349). وقال: صحيح غريب . ووافقه الذهبي.

قلت :

 وفي رواية لابن جرير (16/ 491) من طريق علي عن ابن عباس : ( وعنده أم الكتاب ) ، يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ ، وما يبدل وما يثبت ، كل ذلك في كتاب. وفي سنده انقطاع وضعف.

ثم اعلم أنه وإن كان المحو والإثبات في الآية خاصاً بالأحكام الشرعية كما تقدم فليس في الشرع ما ينفيهما في غيرها بل إن ظواهر بعض النصوص تدل على خلاف ذلك ؛ كمثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا يرد القضاء إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ) وهو حديث حسن مخرج في الصحيحة (154).  وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( من أحب أن يبسط له في رزقه ، وأن ينسأ له في أثره (وفي بعض الطرق : في آجله) ؛ فليصل رحمه ) متفق عليه .وهو مخرج في المصدر السابق برقم (276). وقد صح عن ابن عباس أنه قال : لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. أخرجه الحاكم (2/ 350). وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

إذا عرفت ما تقدم فاعلم أن المحو المذكور والزيادة في الرزق والعمر إنما هو بالنسبة للقضاء أو القدر المعلق ، وأما القضاء المبرم المطابق للعلم الإلهي فلا محو ولا تغيير كما كنت شرحت ذلك في تعليقي على مختصر مسلم للمنذري (ص 470)  فراجعه فإنه هام !.

ثم رأيت القرطبي قد أشار إلى ذلك في تفسيره الجامع ، فقال (5/ 332) : والعقيدة أنه لا تبديل لقضاء الله وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء وقد تقدم أن من القضاء ما يكون واقعاً محتوماً - وهو الثابت - ومنه ما يكون مصروفاً بأسباب - وهو الممحو -.

قال الغزنوي :

 وعندي أن ما في اللوح خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة فيحتمل التبديل لأن إحاطة الخلق بجميع علم الله محال وما في علمه من تقدير الأشياء لا يبدل.

وإذا عرفت هذا سهل عليك فهم كثير من النصوص المرفوعة والآثار الموقوفة وقد تقدم بعضها ، وتخلصت من الوقوع في تأويلها. والله الهادي.

ثم وقفت على كلام جيد لشيخ الإسلام ابن تيمية يؤيد ما ذهبت إليه في مجموع الفتاوى (8/516 - .518،540،541) و (14/ 488 - 492) ، فراجعه ؛ فإنه مهم.). ٳھ (من كتاب موسوعة الألباني في العقيدة)

 وقال العلامة السعدي رحمه الله :

 {يمحوا الله ما يشاء} من الأقدار {ويثبت} ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل ولهذا قال : {وعنده أم الكتاب} أي : اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء فهو أصلها وهي فروع له وشعب.

 فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة وجعل التعرض لذلك سببا للعطب فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ .اه((تفسير السعدي)) (ص: 420). 

وقال الشيخ العثيمين رحمه الله : 

يقولُ رَبُّ العالَمينَ عزَّ وجلَّ : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ أي : اللوحُ المحفوظُ ليس فيه محوٌ ولا كِتابٌ، فما كُتِبَ في اللَّوحِ المَحفوظِ فهو كائِنٌ ولا تَغييرَ فيه، لكِنْ ما كُتِبَ في الصُّحُفِ التي في أيدي الملائكةِ، فهذا : يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ . ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 66).

إذن يمحو الله ما يشاء من الأقدار المكتوبة فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة أو رزق أو عمر أو خير أو شر وغير ذلك ويبقي منها ما يشاء وذلك فيما يكون في أيدي الملائكة من صحف وعنده أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ .


والله اعلم

هل اعجبك الموضوع :
author-img
اللهم اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

تعليقات