من يجالس أهل البدع أو يآكلهم أو يشاربهم أو يسافر معهم مختاراً، فإنه يلحق بهم ويعامل بما يعاملون به، من البغض والهجر والتجنُّب،
لا سيما إذا نُصِحَ وأصرَّ على ما هو عليه، حتى ولو زعم أنه إنما جالسهم ليُناصِحَهم.
** فمن كان جاهلا يصاحب أهل السنة ويصاحب أهل البدعة ، كحال بعض العوام اليوم ، فهو متذبذب بين الحق والباطل ، ويدل سلوكه على ضعف بصيرته في معرفة السنة وضعف غيرته على السنة،
وليس عنده فرقان يميز به بين السنة والبدعة وهذا يؤمر بمجانبة أهل البدعة واتباع علماء أهل السنة وينهى عن مخالفتهم برفق ولين.
** وأما من كان له معرفة بمذاهب الناس مشتغلا بالدعوة والوعظ وله شهرة في الناس، ويصاحب أهل السنة ،
ويثني على وجوه أهل البدع من أعيان الصوفية أو الخوارج أو الرافضة أو الإخوان المفسدين ، ويميل إلى طريقتهم ولا ينابذهم،
فهذا منحرف عن السنة ولو تظاهر بالسنة غاش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يمرر مذهبه الباطل تحت عباءة السنة،
قيل للأوزاعي : ( إن رجلا يقول أنا أجالس أهل السنة وأجالس أهل
البدعة. فقال الأوزاعي : هذا يريد أن يساوي بين الحق والباطل ). ينظر:(الإبانة الكبرى (ج2/ص456)).
ومما يدل على ذلك :
1 - دل القرآن على النهي عن مجالسة أهل البدع قال الله تعالى : وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ . (سورة النساء - الآية (140)).
- قال ابن جرير الطبري فى تفسيره : ( وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم ). انتهى.
2 - قال الله تعالى : وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. [الأنعام:68].
- قال القرطبي –رحمه الله- نقلاً عن ابن خويز منداد : من خاض في آيات الله تركت مجالسته وهجر، مؤمناً كان أو كافراً،
قال : وكذلك منع أصحابنا الدخول إلى أرض العدو ودخول كنائسهم والبيع، ومجالسة الكفار وأهل البدع، وألا تُعتقد مودتهم، ولا يسمع كلامهم ولا مناظرتهم. ينظر: [التفسير 7/ 13].
** ولذلك نهى أئمة السلف من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم عن مجالسة أهل البدع:
- قال ابن عباس رضي الله عنهما : ( لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلب ). ينظر: (الابانة (2/43)).
- قال الإمام أحمد رحمه الله : ...ولم يزل الناس يكرهون كل محدث من وضع كتاب أو جلوس مع مبتدع ليورد عليه بعض ما يلبس عليه في دينه،
فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم. يُنظر: ((مسائل الإمام أحمد بن حنبل رواية ابنه صالح)) (2/166).
- وقال أيضا رحمه الله : ( أهل البدع لا ينبغي لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم ).
وقال أيضاً في رسالته إلى مسدد : ( ولا تشاور صاحب بدعة في دينك ولا ترافقه في سفرك ). انتهى.
- وجاء فى طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى :
قال عثمان بن إسماعيل السكري سمعتُ أبا داود السجستاني يقول : قلتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل : أرى رجلاً من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة، أترك كلامه؟
قال : ( لا، أو تُعلمه أنَّ الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة؛ فإن ترك كلامه فكلِّمه، وإلا فألحقه به، قال ابن مسعود رضي الله عنه : المرء بخدنه ). انتهى.
- وقال الإمام إبن بطة العُكبري : ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئاً مما ذكرناه [أي: من البدع] وهجرانه،
والمقت له وهجران من والاه ونصره، وذب عنه، وصاحبه ، وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنّة. ينظر: [الإبانة ( ص 282 )].
- وأخرج أيضا ابن بطة في "الإبانة" : لما قدم سفيان الثوري البصرة، جعل ينظر إلى أمر الربيع بن صبيح وقدره عند الناس،
سأل أي شيء مذهبه؟ قالوا : ما مذهبه إلا السنة، قال : مَنْ بطانته؟، قالوا : أهل القدر، قال : هو قدري. انتهى.
- وقال البربهاري رحمه الله في [شرح السنة ص121] : ( وإذا رأيتَ الرّجلَ يَجلسُ مع رجلٍ من أهلِ الأهواءِ فَحَذِّرْهُ وعَرِّفْهُ فإن جَلَسَ معه بعدما عَلِمَ فاتّقِهِ فإنَّه صاحبُ هوىً ). انتهى.
- روى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن عقبة بن علقمة قال : كنتُ عند أرطأة بن المنذر فقال بعض أهل المجلس : ما تقولون في الرجل يجالس أهل السنة ويخالطهم؛ فإذا ذُكر أهلُ البدع قال : دعونا من ذكرهم لا تذكروهم؟
فقال أرطأة : “ هو منهم لا يلبس عليكم أمره “، قال : فأنكرتُ ذلك من قول أرطأة، فقدمتُ على الأوزاعي وكان كشَّافاً لهذه الأشياء إذا بلغته!،
فقال : “ صدق أرطأة، والقول ما قال، هذا ينهى عن ذكرهم، ومتى يُحذروا إذا لم يشاد بذكرهم؟! ”. انتهى.
- قال شعبة –رحمه الله-: " كان سفيان الثوري يبغض أهل الأهواء وينهى عن مجالستهم أشد النهي". [أخرجه نصر بن إبراهيم المقدسي في مختصر الحجة على تارك المحجة ص:460].
- قال ابن المبارك رحمه الله : اللهم لا تجعل لصاحب بدعة عندي يداً فيحبه قلبي. ينظر: [رواه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/ 140].
- قال ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" : أخبرنا إسماعيل بن سعد البصري عن رجل أخبره قال : ( كنتُ أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني شهرين ). انتهى.
- قال الفضيل بن عياض رحمه الله : من عظّم صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام، ومن تبسم في وجه مبتدع فقد استخف بما أنزل الله عز وجل على محمد،
ومن زوّج كريمته من مبتدع فقد قطـع رحمهـا، ومن تبع جنازة مبتدع لم يزل في سخط الله حتى يرجع. انتهى من [شرح السنّة للإمام البربهاري ( ص : 139 )].
- وقال أيضا رحمه الله : " الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف، ولا يمكن أن يكون صاحب سنة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق ".
* قال الإمام ابن بطة - معلقاً على قول الفضيل : " صدق الفضيل رحمه الله فإنا نرى ذلك عياناً ". ينظر: [الإبانة لابن بطة ( 2/456)].
- قال الإمام البغوي رحمه الله : وفيه (أي حديث كعب بن مالك) دليل على أن هجران أهل البدع على التأبيد،
وكان رسول صلى الله عليه وسلم خاف على كعب وأصحابه النفاق حين تخلفوا عن الخروج معه فأمر بهجرانهم إلى أن أنزل الله توبتهم، وعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم براءتهم،
وقد مضت الصحابة والتّابعون وأتباعهم وعلماء السنة على هذا مجمعين متفقين على معاداة أهل البدعة ومهاجرتهم. انتهى من (شرح السنة (1/ 226 - 227)).
- وقال الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله - حاكياً مذهب السلف أهل الحديث :
ويبغضون أهل البدع الذين أحدثوا في الدين ما ليس منه، ولا يحبونهم، ولا يصحبونهم، ولا يسمعون كلامهم، ولا يجالسونهم،
ولا يجادلونهم في الدين، ولا يناظرونهم، ويرون صون آذانهم عن سماع أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت في القلوب ضرّت وجرّت إليها من الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرّت،
وفيه أنزل الله عز وجل قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره }. انتهى من (عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 114 - 115)).
- قال الإمام الشاطبي في " الاعتصام" :
فإن توقير صاحب البدعة مظنّة لمفسدتين تعودان على الإسلام بالهدم :
إحداهما: التفات الجهال والعامة إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المبتدع أنّه أفضل الناس، وأن ما هو عليه خير مما عليه غيره،
فيؤدي ذلك إلى اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنّة على سنّتهم.
والثانية: أنّه إذا وُقِّرَ من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء الابتداع في كل شيء.
وعلى كل حال فتحيا البدع وتموت السنن، وهو هدم الإسلام بعينه. ينظر: [الاعتصام للشاطبي ( 1/114 )].
- سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
الذي يثني على أهل البدع ويمدحهم هل يأخذ حكمهم؟
فأجاب :
" نعم ما فيه شكٌّ من أثنى عليهم ومدحهم هو داعٍ لهم يدعو لهم هذا من دعاتهم نسأل الله العافيـة ". انتهى من ( من شرحه لكتاب: "فضل الإسلام").
- وقال الشيخ الفوزان حفظه الله في [ظاهرة التبديع ص45] :
فالواجب إتباع المستقيم على السنة الذي ليس عنده بدعة، وأما المبتدع فالواجب التحذير منه، والتشنيع عليه حتى يحذره الناس، وحتى ينقمع هو وأتباعه.
وأما كون عنده شيء من الحق فهذا لا يبرر الثناء عليه أكثر من المصلحة،
ومعلوم أنَّ قاعدة الدين : “ إنَّ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح “، وفي معاداة المبتدع درأ مفسدة عن الأمة ترجح على ما عنده من المصلحة المزعومة إنْ كانت!.
ولو أخذنا بهذا المبدأ لم يضلل أحد!، ولم يبدع أحد!،
لأنه ما من مبتدع إلا وعنده شيء من الحق ، وعنده شيء من الالتزام. المبتدع ليس كافراً محضاً، ولا مخالفاً للشريعة كلها، وإنما هو مبتدع في بعض الأمور، أو غالب الأمور؛
وخصوصاً إذا كان الابتداع في العقيدة وفي المنهج ، فإنَّ الأمر خطير، لأنَّ هذا يصبح قدوة، ومن حينئذ تنتشر البدع في الأمة، وينشط المبتدعة في ترويج بدعهم.
فهذا الذي يمدح المبتدعة ويشبِّه على الناس بما عندهم من الحق هذا أحد أمرين :
إما جاهل بمنهج السلف ومواقفهم من المبتدعة ؛ وهذا الجاهل لا يجوز أن يتكلم!، ولا يجوز للمسلمين أن يستمعوا له!،
وإما أنه مغرض لأنه يعرف خطر البدعة ويعرف خطر المبتدعة، ولكنه مغرض يريد أن يروِّج للبدعة ؛ فعلى كلٍ هذا أمر خطير، وأمر لا يجوز التساهل في البدعة وأهلها مهما كانت. انتهى.
- وقال الشيخ ربيع المدخلى حفظه الله :
فالذي يجالس أهل الباطل لا بدّ أن يتأثر رغم أنفه, مهما ادعى لنفسه لابدّ أن يتأثر لأنّ الرسول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام حذّر وقال:
" إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير, فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة, ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة ".
ابن عقيل جبل من الجبال في الذكاء والعمق والعلم نصحوه أن لا يذهب مع المعتزلة ذهب إليهم فصار معتزليا,
أبو ذرّ من تلاميذ الدارقطني إمام في السنة؛ سمع كلمة أخذته راح فصار أشعريا,
عبد الرزاق جالس جعفر بن سليمان الضبعي جالسه وعنده تشيّع فانتقل؛ذهب إلى التشيع والتفت إليه فأصبح المسكين من الشيعة, لكن تشيعه ليس غليظا, لا نظلمه لكن وقع وتأثر.
فجليس السوء لابدّ أن ينالك منه سوء وشر , " والمرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل "، (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) أهل الأهواء والبدع ليسوا من هؤلاء.
عندك الآيات والأحاديث تحذّر وأنت تقول : لا أمشي, من أعطاك العصمة؛
إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يحذّر الصحابة والسلف كانوا أئمة مثل الجبال يسدون آذانهم ولا يريدون أن يسمعوا لأهل البدع.
أما أنك تذهب وتزوره وتحضر المحاضرات يصيبك من شرره ومن دخانه ومن نفثه. انتهى من [فتاوى في العقيدة والمنهج- الحلقة الثانية].
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق