الصحيح إن شاء الله أن تعليم القرآن عبادة وقربة لا يجوز فيه أخذ الأجرة،
وأما من أجاز أخذ الأجرة من العلماء فأدلتهم فى ذلك ليست قطعية الدلالة،
فكلها يتطرق إليها الإحتمال، والدليل إذا تطرق إليه الإحتمال سقط به الإستدلال كما هو مقرر.
** وأقوى ما استدلوا به حديثين :
- الحديث الأول : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال : هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ،
فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا : أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة فقالوا يارسول الله: أخذ على كتاب الله أجراً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله. "رواه البخارى".
والرد على ذلك :
هذا الحديث رواه البخاري في باب ( الشرط في الرقية بقطيع من الغنم ) أن النبي عليه الصلاة والسلام يعني بالأجر هنا الجعل في الرقية وليس أخذ الأجرة على التعليم،
لأنه ذكر ذلك عليه الصلاة والسلام في سياق خبر الرقية كما أن هذا الحديث وارد في باب أخذ الأجرة على الرقية لا على تعليم القرآن.
* فالعوض المأخوذ هو جعل على الرقية والرقية نوع مداواة وهذه يباح أخذ الأجرة عليها لأنها علاج ومداواة،
والعلاج ليس واجباً على كل الناس تعلمه وتعليمه خلافاً لتعليم القرآن فهو واجب على الناس تعليمه.
* وإن أخذ الأجرة على تعليمه يكون كأخذ الجعل على تعليم الصلاة لأنها تتوقف على القرآن ولهذا فلا يصح أخذ الأجرة لأن الرقية ليست بقربة محضة فجاز أخذ الأجرة عليها.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( وكان الْجُعْل على عافيةِ مريض القوم لا على التلاوة ). انتهى من [مجموع الفتاوى (18/128)].
* وانظر رعاك الله إلى قول الصحابة رضى الله عنهم لصحابهم : ( أخَذْتَ على كتابِ الله أجْـراً ! ) ؛ فالْمُتقرِّر عند الصحابة رضى الله عنهم أنه لا يُؤْخَذ على كتاب الله أجراً ،
وإنما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلك حَلاَلٌ لهم بهذه المشارطة وحصول الشفاء وقد حصَل .
* فهي إذاً مسألة عينية خاصَّة فى الرقية وإلا فلو كان ذلك عامًّا لفعَلَه الصحابة والسلف بل ولتنافسوا عليه،
لأنَّ صورةَ كلامِهِ لو كانَ عامًّا مُطْلقاً لكان معناه الإغراء والمدح لأخْذِ الأجرة على كتاب الله تعالى.
* ولو أخَذْنا بفهم البعض للحديث بأنه عامٌّ مُطلَق لأصبح كتاب الله - عزَّ وَجَلَّ- بضاعةً وحِرفةً للتكسُّب - والعياذ بالله - ،
وهذا خِلاف ما أُنزل من أجله وهو أن يهتدي به الناس إلى الله تعالى والـدَّار الآخرة لأنه شِفـاء للقلوب بالقصد الأول ، وشفاءٌ - أيضاً - للأبدان بغير أجْرة ولا أثمان .
* فمن جعَل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ أحقَّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ). عامًّا مُطْلَقـاً فإنه مُخَالِف لِمُراد الله من إنزال القرآن.
** كما أن الحديث براويتيه منقوض بحديثي "القوس" الذي نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابيين (أُبي وعبادة) عن أخذ القوس إذا كان ذلك أجرة على تعليمهما القرآن.
- قال العلامة الألباني رحمه الله :
قوله عليه الصلاة والسلام : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) هذا الحديث في صحيح البخاري كما ذكرنا، وإنما قلنا :
إنه لا يجوز الاستدلال به دراية مع صحته رواية ؛ لأن لهذا الحديث مناسبة جاءت مقرونة مع الرواية نفسها ، ...
فأخذ الجعل وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم محتاطاً لعله لا يجوز أن يستفيد منه، فقال له عليه الصلاة والسلام الحديث السابق : (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله).
فاختلف العلماء هنا، فالجمهور أخذ بالحديث مفسراً بالسبب، والشافعية أخذوا بالحديث دون ربطه بالسبب، وهذا هو السبب في الخلاف،
وينبغي أن يكون معلوماً لدى كل طالب للعلم ، أن من الضروري جداً لمن أراد التفقه ليس في السنة فقط ، بل وفي القرآن أيضاً، أن يعرف أسباب نزول الآيات، وأسباب ورود الأحاديث.
فقد ذكر علماء التفسير أن معرفة سبب نزول الآية يساعد الباحث على معرفة نصف معنى الآية، والنصف الثاني يؤخذ من علم اللغة، وما يتعلق بها من معرفة الشريعة.
ربط الحديث بسبب وروده مما يعين على فهمه كذلك نقتبس من هذا فنقول :
كثير من الأحاديث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا مع ربطها بأسباب ورودها، منها هذا الحديث، وهناك أحاديث كثيرة، أيضاً، لا يمكن أن تفهم فهماً صحيحاً إلا بربط الرواية مع سببها،
فحينما فصل الحديث : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) عن سبب وروده ؛ أعطى الإباحة العامة : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ).
فسواء كان الأجر مقابل التلاوة، أو كان مقابل تعليم القرآن، أو تفسير القرآن، وهكذا، فالحديث عام.
ولكننا إذا ربطناه بسبب الورود ؛ تخصص هذا العموم للوارد، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، وبخاصة منهم علماء الحنفية،
حينما فسروا هذا الحديث : ( أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) في الرقية، فأضافوا هذه الجملة ( في الرقية ) أخذاً لها منهم من سبب ورود الحديث.
وهذا الأخذ لا بد منه ؛ لكي لا يصطدم التفسير -إذا كان من النوع الأول - بقواعد إسلامية عامة ذكرناها آنفاً من بعض الآيات وبعض الأحاديث ، وهذا من القواعد الأصولية الفقهية :
أنه إذا جاء نص، سواءً كان قرآناً أو كان سنة، فلا يجوز أن يؤخذ على عمومه إلا منظوراً إليه في حدود النصوص الأخرى، التي قد تقيد دلالته،
أو تخصصه فهذه كقاعدة لا خلاف فيها عند علماء الفقه والحديث، بل علماء المسلمين جميعاً.
وإنما الخلاف ينشأ من سببين اثنين : إما ألا يرد الحديث مطلقاً إلى بعضهم، أو أن يرجع إليه مطلقاً دون السبب الذي يوضح معناه، كما نحن في هذا الحديث بالذات. انتهى من (سلسلة الهدى والنور-(656)).
- الحديث الثانى : ما روي عن سهل بن سعد رضي الله عنه : أن جاءت إمرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت : إني وهبتك من نفسي، فقامت طويلاً، فقال رجل : زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة، فقال : (هل عندك من شيء تصدقها؟)
قال : ما عندي إلا إزاري فقال : (إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً) فقال: ما أجد شيئاً فقال :(التمس ولو خاتماً من حديد) فلم يجد فقال : (أمعك من القرآن شيء؟) قال : نعم. سورة كذا وسورة كذا، بسور سماها فقال : (زوجناكها بما معك من القرآن).
والرد على ذلك :
1- أنه نقل عن أحمد جواز عقد النكاح بلا صداق، لأن المهر ليس بعوض محض وإنما وجب نحلة وصلة،
ولهذا جاز خلو العقد عن تسميته و صح العقد مع فساد المهر، بخلاف الأجرة في غيره. انتهى من ([ ابن قدامه، المغني، ج5، ص332]).
2- يحتمل أن النبي عليه الصلاة والسلام سكت عن المهر لأنه معلوم أنه لا بد منه كون الفروج لا تستباح إلا بالأموال ،
لقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ). [24: النساء]،
ولذكره تعالى في النكاح الطول وهو المال حيث قال : (وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ).[25: النساء]، والقرآن ليس بمال. انظر : ( العيني، البناية، ج10، ص280).
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسم لها مهراً ولم يعطها صداقاً وأوصى لها بذلك عند موته. انظر: ([ الشوكاني، نيل الأوطار، ص1072]).
- ويؤيده ما أخرجه أبو داود من حديث عقبة بن عامرأنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل : (أترضى أن أزوجك فلانة؟) قال : نعم. وقال للمرأة : (أترضين أن أزوجك فلاناً). قالت : نعم. فزوج أحدهما صاحبه،
فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقاً ولم يعطها شيئاً، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر فلما حضرته الوفاة قال :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانه ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهماً فباعته بمائة ألف. ([صحيح سنن أبي داود]).
إذن هذين الحديثين خارج محل النزاع.
** ولك أن تصاب بالرعب
عندما تقرأ حديث فى صحيح مسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من غازية تغزو فى سبيل الله فيصيبون الغنيمة , إلا تعجلوا ثلثى أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث , وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم ". [أخرجه مسلم] .
- ففى هذا الحديث : أن الذين يغزون فيغنمون ويسلمون استعجلوا ثلثى أجرهم , أى : ضيعوا الثلثين من الاجر فى الدنيا , فلم يبق لهم فى الآخرة إلا الأجر القليل بخلاف من سلم ولم يغنم..
وهذا موافق للأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله : ( منا من مات ولم يأكل من أجره شيئا ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها ) أي يجتنيها.
فالذى أخذته من الدنيا كم ضيعت فى مقابله من الآخرة فإن كل ما تأخذه من الدنيا مخصوم من حسابك فى الآخرة. انتهى.
والله اعلم
تعليقات
إرسال تعليق